(4-1) من «جلجامش» إلى «بيلي كولينز»

قراءات من الخليج تتوزع بين السينما والرواية

الشاعر محمد عابس  -  د. حسن رشيد  -  د. عبد الرزاق الربيعي
الشاعر محمد عابس - د. حسن رشيد - د. عبد الرزاق الربيعي
TT

(4-1) من «جلجامش» إلى «بيلي كولينز»

الشاعر محمد عابس  -  د. حسن رشيد  -  د. عبد الرزاق الربيعي
الشاعر محمد عابس - د. حسن رشيد - د. عبد الرزاق الربيعي

في هذا الملف نتعرف على حصاد الكتب في عام 2021 الذي يسدل الستار بعد أيام: ما «الكتاب الأفضل» الذي لم يغادر ذاكرة المبدعين والكتاب والنقاد وحرصوا على اقتنائه؟ ما الفكرة الرئيسية التي ارتكز عليها، ولماذا فُضّل على مؤلفات أخرى؟ طرحنا السؤال، وجاءت الخيارات متنوعة تشي بمدى ثراء عديد مما أفرزته المطابع العربية على مدار عام كامل. وهي خيارات تعكس في جوهرها أسئلة الثقافة العربية، كما امتدت إلى أفق القضايا الإنسانية التي تتجاوز التصنيفات الجغرافية الضيقة... وإلى الملف:

تنوعت القراءات هذا العام في بلدان الخليج العربي بين السينما والرواية. فمن سلطنة عُمان؛ يقول الدكتور عبد الرزّاق الربيعي، نائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي في مسقط: «رغم أنني قرأت (ملحمة جلجامش) في وقت مبكر من حياتي بترجمة عن الإنجليزية؛ فإن ترجمة الدكتور نائل حنون عن النص المسمارى الأكدي، وقعت بين يدي، هذا العام، وهي أول ترجمة للنص عن الأكدية، وتلت الترجمة قصة موت جلجامش والتحليل اللغوي للنص الأكدى».
صدرت طبعة الكتاب الأولى عام 2006 عن «دمشق»، والثانية في 2016 ببغداد، «وفي تقديمه نص (موت جلجامش) يتحدّث الدكتور نائل؛ الأستاذ المختص بعلم الآثار، واللغات القديمة (السومريّة، والأكديّة) عن رحلته مع تلك الألواح؛ التي يعود تاريخها إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، فكانت رحلة ممتعة.
ومن أبرز ما قرأت هذا العام أيضاً مخطوط كتاب (نرد النص) للصديق الشاعر عدنان الصائغ الذي صدر مؤخراً عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) ببيروت بالتعاون مع (سطور) ببغداد. وهي القراءة الثانية للنصّ الطويل الذي يزيد على 1300 صفحة، ومفتوح على الذات، والتاريخ الشخصي، والعام، والثقافات، والأساطير، والفكر، والشعر، والسرد، والبحث، والذاكرة الشعبية، والشفاهية، والمتداول، والغائص، والغاطس من الأحداث، والهامش ضمن إطار غرائبي مركَّب قائم على لعبة تتمثّل بتقافزِ النرد، على طاولة حياتنا وتاريخنا وأفكارنا، مروراً بالمسكوت عنه في تراثنا وأدبياتنا، ومدوّناتنا، ومخطوطاتنا التي تراكم على صفحاتها غبار النسيان، وصراعاتنا، وتناقضات حاضرنا، معتمداً على الأشكال بتلاوينها الصورية، وتكرار الحروف والكلمات، أو اللعب بها وتهشيمها حيناً بقصدية أو لا قصدية، فيدخل التشكيل عنصراً في رسم مشهدية بصرية مدهشة. تهويمات، وإضاءات شعرية خاطفة تعلي أفق النص، وتسخّن اللعب.
كذلك كلفتني دار (سطور) ببغداد، برفقة الصديق علاء الفريجي، مراجعة الأعمال الشعرية والمسرحية للشاعر الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد، وكانت رحلة طويلة ممتعة، أسفرت طبعة جديدة ستصدر قريباً بثلاثة مجلدات تضمنت مسرحية شعرية تنشر للمرة الأولى.
من الشعر المترجم؛ استوقفني كتاب بيلي كولينز (يوم الوجود الوحيد) الذي ترجمه الشاعران: سهيل نجم ومحمد تركي النصّار، وصدر عن (خطوط وظلال) الأردنية. حيث يتمتع الشاعر الأميركي بيلي كولينز بشهرة واسعة؛ ميزة قصائده أنها تعبّر عنّا، ويبرع في مزج اليومي بالخيالي، والتقاط التفاصيل بعين ثاقبة يستلّها من أرض الواقع استلالاً، ويصوغها صياغة تجعلها مثقلة بماء الشعر. وقد بذل المترجمان جهداً في الاقتراب من روح النص، والمحافظة على بساطته في التعبير».

- فلسفة السينما والمسرح
ومن السعودية، يقول الشاعر، والمستشار في وزارة الإعلام، محمد عابس، عن أبرز قراءاته في العام: «سأختار من بين الكتب التي قرأتها؛ كتابين: (فلسفات السينما الجديدة) لروبرت سينر برنك؛ ترجمة نيفين حلمي، وصادر عن دار (معنى)؛ حيث يعالج هذا الكتاب مجموعة من الأسئلة منها: ما التجربة التي نطلق عليها سينما؟ وكيف ترتبط الفلسفة بالسينما؟ وهل من الممكن أن تجمعهما علاقة، وهل تستطيع الأفلام ممارسة الفلسفة، وما الفلسفات الجديدة التي تتناول السينما؟
يستكشف الكتاب الموجة الجديدة من نظرية السينما الفلسفية، وتجديد إشكاليات نظريات الفيلم، وكيف نفهم الأفلام ونفسرها، وقضية أنطولوجيا الفيلم، وكون السينما فناً، مع التركيز على ثلاثة تيارات: النقلة المعرفية التحليلية في نظرية السينما، والتيار البديل ورواده، وفكرة السينما بوصفها فلسفة، مع تقديم نماذج فعلية من خلال أفلام ثلاثة مخرجين هم: ديفيد لنش، ولارس فون ترير، وتيرانس ماليك.
الكتاب الثاني: (ورشة المسرح) لميشيل برونير، ترجمة فتحي العشري، الصادر عن «المركز القومي للترجمة في مصر». ويتناول الكتاب مفهوم ورشة المسرح من قراءة النص إلى العرض، وصناعة العرض المسرحي بوصفه عملاً جماعياً يشمل ظواهر ثقافية وتقنية واقتصادية، ويعرض الكتاب مختلف المنتمين إلى ورشة المسرح (كاتب، وممثل، ومخرج، ومصمم سينوغراف، ومصمم ملابس... وغيرهم) بطريقة تحدد وظائفهم، مع ذكر وجهات النظر التاريخية والتقنية حول أن الشروط المادية للعرض أسهمت في تفسير الكتابة المسرحية، وعبر سبعة فصول تناولت المكان المسرحي، وهياكل الإنتاج المسرحي، والمؤلف الدرامي، والمزج، والممثل، وحرفيي المناظر المسرحية، والجمهور، وذاكرة المسرح.
الكتاب موجه للدارسين والممثلين والمخرجين الهواة والمحترفين، ولمن يعمل في المسرح. كما قرأت مجموعة من الإصدارات الشعرية الجديدة لعدد من الشعراء».

- بين الأدبين المحلي والفارسي
ومن قطر؛ يتحدث الكاتب والناقد المسرحي الدكتور حسن رشيد، عن قراءاته لهذا العام: «في حقيقة الأمر؛ هناك العديد من الأعمال التي قرأتها طوال العام، سواء في مجال الشعر والرواية والدراسات والبحوث... وخلافه، خصوصاً بالنسبة لنا نحن الذين نمارس الكتابة والنقد عبر الصحافة المحلية أو التدريس. كما كان الكتاب رفيقاً خلال سفراتي المتكررة للعديد من الفعاليات المسرحية عبر خريطة الوطن العربي؛ لكنني هنا أتحدث - باختصار - عن بعض الأعمال التي تركت في ذاكرتي أثراً مميزاً خلال هذا العام، ولعلي أبدأ بكتاب من قطر، وهو ديوان شعر بعنوان: (نوارس) للشاعر الشاب محمد علي المرزوقي، والذي أرى أنه من أهم ما صدر في هذا العام؛ خصوصاً أن المؤلف يكتب بالفصحى والعامية، وهو من أبرز المثقفين، ليس على النطاق المحلي القطري، ولكن عبر منطقة الخليج والعالم العربي، فهو شابٌ معتمد على الدراسات والبحوث، ودائم التنقيب، ويمكن أن يكون هذا الديوان الشعري من أهم الأعمال التي تمّ تقديمها في قطر خلال العام.
أيضاً صدر أخيراً - قبل أسبوع - كتاب قيّم حول (فنّ الفجري)، (الفنون البحرية)، وفنون العمل على ظهر السفينة في قطر، وقام بجمع وإعداد هذا الكتاب الشاب الممثل ومدرب الإيقاع والرقص محمد ناصر الصايغ، واعتبر أن هذا الكتاب يمثل نقلة نوعية في توثيق هذا الفنّ، وقد أخبرني أنه الآن بصدد الكتابة عن عدد من الفنانين في قطر والخليج العربي من القدامى الذين نهلوا من معين التراث الشعبي.
أتوقف كذلك أمام عملين أدبيين قدمهما الأديب والروائي البحريني عقيل الموسوي، وقد حظيت هاتان الروايتان باهتمامي خلال هذا العام، ولأول مرة أكتشف المؤلف الموسوي، وهو طبيب أسنان من مملكة البحرين، حيث قدّم في 2017 رواية (أريامهر نامه) التي نجح من خلالها في تقديم سيرة حقيقية عن منطقة فارس القديمة، ولأول مرة أكتشف القيمة الحقيقية لهذا الروائي. أيضا قدم عقيل الموسوي في 2021 روايته الثانية (دارا الزرادشتي)، وأعتقد أنه في هذا العمل قد وضع بصمته بصفته واحداً من أبرز الروائيين في منطقة الخليج العربي، من خلال اهتمامه بنبش الذاكرة، حيث يغوص بكثير من الوعي والإدراك ليقدّم عملاً روائياً جميلاً... وأعتقد أنه من المفترض أن يتم إلقاء الضوء على هذين العملين؛ لأننا في أمسّ الحاجة إلى روائيين يملكون هذه الموهبة، وسط عدد كبير من الروايات العربية التي تتراكم عدداً دون قيمة فنية أو أدبية.
أيضاً من قراءاتي خلال هذا العام، أني رجعتُ لما كتبه رينولد ألان نيكولسون عن (التصوّف الإسلامي)، حيث نقل هذا العمل الكبير إلى اللغة العربية وعلّق عليه أبو العلا عفيفي، وهذا الكتاب ترك أثراً في نفسي من بين العديد من القراءات التي حفل بها برنامجي لعام 2021.


مقالات ذات صلة

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.