استنكار في دمشق لـ«غزوة سوق البالة»

زينة عيد الميلاد تزيّن مقهى في الحي القديم بدمشق (إ.ب.أ)
زينة عيد الميلاد تزيّن مقهى في الحي القديم بدمشق (إ.ب.أ)
TT

استنكار في دمشق لـ«غزوة سوق البالة»

زينة عيد الميلاد تزيّن مقهى في الحي القديم بدمشق (إ.ب.أ)
زينة عيد الميلاد تزيّن مقهى في الحي القديم بدمشق (إ.ب.أ)

استمرت، أمس، ارتدادات الصدمة التي خلّفتها مداهمة مديرية الجمارك في دمشق لسوق الألبسة المستعملة (سوق «البالة»)، وسط انتقادات لما قام به عناصر المديرية ووصف ما حصل بأنه بمثابة «غزوة»، حسب تعبير أحد الذين صودرت بضاعته، والذي أكد أن عمليات المصادرة شملت أكثر من خمسين محلاً تقارب مساحتها مساحة «سوق الحميدية» الشهير في دمشق. وصدرت الانتقادات أيضاً عن رئيس غرفة تجارة دمشق، أبو الهدى اللحام، الذي اعتبر أن سلوك مديرية الجمارك «أمر غير مفهوم»، مشيراً إلى عدم جواز مداهمة الجمارك لسوق «البالة» ومصادرة بضاعة «مخصصة للفقراء».
وازدهرت خلال سنوات الحرب في سوريا تجارة «المستعمل»، مع اتساع شريحة الفقراء التي وصلت إلى أكثر من 90 في المائة من إجمالي عدد سكان سوريا، وفق وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث. وشكّل انتشار محال «البالة» ظاهرة في معظم المناطق السورية في ظل ارتفاع أسعار وتكاليف إنتاج الألبسة الجاهزة أكثر من عشرة أضعاف خلال العامين الماضيين؛ ما جعل الحصول على «كسوة بدن» جديدة أمراً متعذراً على الغالبية العظمى من السوريين.
وتصف كاتبة وناشطة نسوية تعيش في دمشق ارتيادها سوق البالة بـ«الإدمان»، فهناك تعثر على طلبها من الماركات والألبسة الأوروبية الممنوعة من دخول سوريا منذ عقود. وتقول «في البالة الجودة أعلى والأسعار أرخص». لكن خلال الأشهر الأخيرة أصبحت البالة تضاهي الألبسة الجديدة في ارتفاع الأسعار، ولم تعد البالة «سوق الفقراء وهواة الألبسة الأوروبية»، حسب ما تقول هذه الناشطة. وتوضح، أنه قبل عام مثلاً كان يمكن الحصول على سترة (جاكيت) شتوية بحالة جيّدة جداً بمبلغ عشرة آلاف ليرة سورية، أو ما يعادل 20 دولاراً، لكن العشرين دولاراً اليوم باتت تعادل 70 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ باهظ من الصعب دفعه لشراء ملابس مستعملة. لكنها، في المقابل، تشير إلى أن من المستحيل شراء «جاكيت» جديدة بأكثر من 200 ألف ليرة سورية بجودة «أدنى من الوسط».
وتوضح مصادر في سوق البالة، أن الأسعار ارتفعت بسبب تدهور قيمة الليرة السورية (الدولار الأميركي يعادل 3500 ليرة) ونتيجة ارتفاع تكاليف النقل. وتقول، إن الطرد الواحد من الألبسة المستعملة الذي يزن 50 كيلوغراماً قيمته ما بين 150 إلى 200 دولار أميركي لكن سعره في دمشق يصل إلى 600 دولار بسبب «أجور النقل والإتاوات التي يدفعها التجار لوصول بضائعهم».
وتزامنت حملة الجمارك على أسواق «البالة» مع بدء موسم الشتاء وتزايد الإقبال على الملابس الشتوية المستعملة. وجاءت الحملة الأخيرة في ملاحقة تجار الألبسة المستعملة غير مسبوقة في شراستها وكمية مصادراتها وغراماتها، وهي أُطلقت بزعم أن التجّار يتاجرون بمواد مهربة ومخالفة لقوانين الاستيراد. وداهمت دوريات الجمارك في دمشق أكثر من خمسين محلاً و«بسطة» (أكشاك) في منطقة الإطفائية وحدها، كما لاحقت أصحاب «البسطات» في باب توما والقصاع والشعلان والحميدية، وغيرها من أسواق العاصمة. وأفيد بأنها صادرت بضائع بمئات الملايين من الليرات السورية، مخلّفة صدمة كبيرة في الأسواق والأوساط التجارية التي تصاب حركتها بالشلل بين فترة وأخرى جراء ملاحقات الجمارك وفرق التحصيل الضريبي المالية.
ونشرت وسائل إعلام محلية شكاوى المتضررين من الحملة الأخيرة، وأكدت غالبيتها قيام عناصر الجمارك بمداهمة مباغتة ومصادرة البضائع بفوضوية على طريقة «الغزو»، في حين وصف بعضهم ما قامت به الجمارك بـ«البلطجة»، وسط مطالبات بمحاكمة المسؤول عن هذه الحملة و«إعادة حقوق» أصحاب المحال. كما أفاد أكثر من بائع في شكواه بقيام عناصر الجمارك بالاستيلاء على مبالغ مالية من أدراج المحال (الغلّة). كما شكا بعض التجار من كسر أبواب محال مغلقة ومصادرة محتوياتها في غياب أصحابها. وأقسم أحد الباعة، أن بضاعته التي يبيعها على «بسطة» اشتراها بالدَّين ولم يسدد ثمنها بعد، وأن عناصر من الجمارك قاموا بمصادرتها وتوزيع بعضها مجاناً على المارة. وفي شهادة أخرى نقل أحد الباعة عن عنصر جمارك قوله، إنه يلبس من «البالة»، لكنه مضطر إلى تنفيذ الأوامر بالمداهمة.
الضجيج الذي أحدثته حملة الجمارك في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي واستنكار سلوك الجمارك باعتباره تضييقاً على الفقراء، أجبر مديرية الجمارك العامة في دمشق، على غير عادتها، على إصدار بيان للدفاع عن سلوكها، متهمة وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية بنشر «معلومات خاطئة عن عمل المديرية تستفز الرأي العام». وقالت، إن «مرتكبي جريمة التهريب يقومون بتوظيف بعض المواقع الإلكترونية لإظهارهم بمظهر البريء». وأكدت مديرية الجمارك العامة إصرارها على مواصلة مهمتها في مكافحة البضائع المهربة بلا توقف، مشيرة إلى أن ما قامت به مؤخراً «انعكس إيجاباً على واردات الخزينة العامة». وشددت مديرية الجمارك في بيانها على أنها تقوم بعملها «وفق القوانين والقرارات النافذة بما يتضمن ذلك من حصول على موافقة المحامي العام أو الاستعانة بجهة أخرى كغرف التجارة أو الصناعة وغيرها».
إلا أن رئيس غرفة التجارة بدمشق، أبو الهدى اللحام، قال في رده على بيان المديرية، إن مداهمة الجمارك لسوق البالة «تمت بغياب أعضاء غرف التجارة»، و«كان يجب أن يعالج الموضوع بآلية مختلفة» وإيجاد حل آخر غير حجز البضائع التي أصبح من الصعب تفريقها، علماً بأن معظمها عبارة عن «تمشاية حال» (لتيسير الأمور فقط). ولفت إلى أن نسبة الألبسة المهربة في سوق البالة لا تتجاوز 10 في المائة والباقي عبارة عن «منتجات محلية مستعملة تباع حاليا بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة». وأضاف في تصريح للإعلام المحلي، أن «هذه المحال تبيع بنصف القيمة مساعدةً للفقراء في ظل الغلاء»، مشيراً إلى أن البضائع «كانت مخصصة للفقراء». وأوضح اللحام، أن «أصحاب المحال معظمهم وضعهم المادي سيئ ولا يجوز دخول الجمارك بين الحارات والشوارع».



الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
TT

الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)

يتضاعف خطر انعدام الأمن الغذائي في اليمن بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، بفعل الحرب الحوثية على الموارد الرئيسية للبلاد، وتوسيع دائرة الصراع إلى خارج الحدود، في حين تتزايد الدعوات إلى اللجوء للتنمية المستدامة، والبحث عن حلول من الداخل.

وبينما تتوالي التحذيرات من تعاظم احتياجات السكان إلى المساعدات الإنسانية خلال الأشهر المقبلة، تواجه الحكومة اليمنية تحديات صعبة في إدارة الأمن الغذائي، وتوفير الخدمات للسكان في مناطق سيطرتها، خصوصاً بعد تراجع المساعدات الإغاثية الدولية والأممية خلال الأشهر الماضية، ما زاد من التعقيدات التي تعاني منها بفعل توقف عدد من الموارد التي كانت تعتمد عليها في سد الكثير من الفجوات الغذائية والخدمية.

ورجحت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة حدوث ارتفاع في عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية في اليمن في ظل استمرار التدهور الاقتصادي في البلاد، حيث لا تزال العائلات تعاني من التأثيرات طويلة الأجل للصراع المطول، بما في ذلك الظروف الاقتصادية الكلية السيئة للغاية، بينما تستمر بيئة الأعمال في التآكل بسبب نقص العملة في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، وانخفاض قيمة العملة والتضخم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

وبحسب توقعات الأمن الغذائي خلال الستة أشهر المقبلة، فإنه وبفعل الظروف الاقتصادية السيئة، وانخفاض فرص كسب الدخل المحدودة، ستواجه ملايين العائلات، فجوات مستمرة في استهلاك الغذاء وحالة انعدام الأمن الغذائي الحاد واسعة النطاق على مستوى الأزمة (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي) أو حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة) في مناطق نفوذ الحكومة الشرعية.

انهيار العملة المحلية أسهم مع تراجع المساعدات الإغاثية في تراجع الأمن الغذائي باليمن (البنك الدولي)

يشدد الأكاديمي محمد قحطان، أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز، على ضرورة وجود إرادة سياسية حازمة لمواجهة أسباب الانهيار الاقتصادي وتهاوي العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، منوهاً إلى أن عائدات صادرات النفط والغاز كانت تغطي 70 في المائة من الإنفاق العام في الموازنة العامة، وهو ما يؤكد أهميتها في تشغيل مؤسسات الدولة.

ويضيف قحطان في حديث خص به «الشرق الأوسط» أن وقف هذه الصادرات يضع الحكومة في حالة عجز عن الوفاء بالتزاماتها، بالتضافر مع أسباب أخرى منها الفساد والتسيب الوظيفي في أهم المؤسسات الحكومية، وعدم وصول إيرادات مؤسسات الدولة إلى البنك المركزي، والمضاربة بالعملات الأجنبية وتسريبها إلى الخارج، واستيراد مشتقات الوقود بدلاً من تكرير النفط داخلياً.

أدوات الإصلاح

طبقاً لخبراء اقتصاديين، تنذر الإخفاقات في إدارة الموارد السيادية ورفد خزينة الدولة بها، والفشل في إدارة أسعار صرف العملات الأجنبية، بآثار كارثية على سعر العملة المحلية، والتوجه إلى تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية مثل الإصدار النقدي.

توقف تصدير النفط يتسبب في عجز الحكومة اليمنية عن تلبية احتياجات السكان (البنك الدولي)

ويلفت الأكاديمي قحطان إلى أن استيراد مشتقات الوقود من الخارج لتغطية حاجة السوق اليمنية من دون مادة الأسفلت يكلف الدولة أكثر من 3.5 مليار دولار في السنة، بينما في حالة تكرير النفط المنتج محلياً سيتم توفير هذا المبلغ لدعم ميزان المدفوعات، وتوفير احتياجات البلاد من الأسفلت لتعبيد الطرقات عوض استيرادها، وأيضاً تحصيل إيرادات مقابل بيع الوقود داخلياً.

وسيتبع ذلك إمكانية إدارة البنك المركزي لتلك المبالغ لدعم العرض النقدي من العملات الأجنبية، ومواجهة الطلب بأريحية تامة دون ضغوط للطلب عليها، ولن يكون بحاجة إلى بيع دولارات لتغطية الرواتب، كما يحدث حالياً، وسيتمكن من سحب فائض السيولة النقدية، ما سيعيد للاقتصاد توازنه، وتتعافى العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سيسهم في استعادة جزء من القدرة الشرائية المفقودة للسكان.

ودعا الحكومة إلى خفض نفقاتها الداخلية والخارجية ومواجهة الفساد في الأوعية الإيرادية لإحداث تحول سريع من حالة الركود التضخمي إلى حالة الانتعاش الاقتصادي، ومواجهة البيئة الطاردة للاستثمارات ورجال الأعمال اليمنيين، مع الأهمية القصوى لعودة كل منتسبي الدولة للاستقرار داخل البلاد، وأداء مهاهم من مواقعهم.

الحكومة اليمنية تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين لوقف حصار تصدير النفط (سبأ)

ويؤكد مصدر حكومي يمني لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة باتت تدرك الأخطاء التي تراكمت خلال السنوات الماضية، مثل تسرب الكثير من أموال المساعدات الدولية والودائع السعودية في البنك المركزي إلى قنوات لإنتاج حلول مؤقتة، بدلاً من استثمارها في مشاريع للتنمية المستدامة، إلا أن معالجة تلك الأخطاء لم تعد سهلة حالياً.

الحل بالتنمية المستدامة

وفقاً للمصدر الذي فضل التحفظ على بياناته، لعدم امتلاكه صلاحية الحديث لوسائل الإعلام، فإن النقاشات الحكومية الحالية تبحث في كيفية الحصول على مساعدات خارجية جديدة لتحقيق تنمية مستدامة، بالشراكة وتحت إشراف الجهات الممولة، لضمان نجاح تلك المشروعات.

إلا أنه اعترف بصعوبة حدوث ذلك، وهو ما يدفع الحكومة إلى المطالبة بإلحاح للضغط من أجل تمكينها من الموارد الرئيسية، ومنها تصدير النفط.

واعترف المصدر أيضاً بصعوبة موافقة المجتمع الدولي على الضغط على الجماعة الحوثية لوقف حصارها المفروض على تصدير النفط، نظراً لتعنتها وشروطها صعبة التنفيذ من جهة، وإمكانية تصعيدها العسكري لفرض تلك الشروط في وقت يتوقع فيه حدوث تقدم في مشاورات السلام، من جهة ثانية.

تحذيرات من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد (أ.ف.ب)

وقدمت الحكومة اليمنية، أواخر الشهر الماضي، رؤية شاملة إلى البنك الدولي لإعادة هيكلة المشروعات القائمة لتتوافق مع الاحتياجات الراهنة، مطالبةً في الوقت ذاته بزيادة المخصصات المالية المخصصة للبلاد في الدورة الجديدة.

وكان البنك الدولي توقع في تقرير له هذا الشهر، انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة واحد في المائة هذا العام، بعد انخفاضه بنسبة 2 في المائة العام الماضي، بما يؤدي إلى المزيد من التدهور في نصيب الفرد من إجمالي الناتج الحقيقي.

ويعاني أكثر من 60 في المائة من السكان من ضعف قدرتهم على الحصول على الغذاء الكافي، وفقاً للبنك الدولي، بسبب استمرار الحصار الذي فرضته الجماعة الحوثية على صادرات النفط، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات المالية للحكومة بنسبة 42 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي، وترتب على ذلك عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للسكان.

وأبدى البنك قلقه من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية.