استمرار حركة الإصلاح الديني في أوروبا

هولدريخ زوينغلي
هولدريخ زوينغلي
TT

استمرار حركة الإصلاح الديني في أوروبا

هولدريخ زوينغلي
هولدريخ زوينغلي

تابعنا كيف استطاع الراهب مارتن لوثر كسر سلطان الكنيسة الكاثوليكية وصياغة حركة الإصلاح الديني في الأراضي الألمانية، ولكن هذه كانت بداية لتفسخ وسط وغرب أوروبا إلى مذاهب مسيحية مختلفة كثيرًا، منها رافضة للمذهب الكاثوليكي ولقيادة الكنيسة في روما، وقد أثرت حركة لوثر في فتح المجال أمام ظهور مزيد من حركات الإصلاح المسيحي التي استمرت إلى يومنا هذا تؤثر في النسيج السياسي والاجتماعي، بل والاقتصادي لدول أوروبا، فلقد شجع مارتن لوثر الكثير من المتحفظين على ممارسات الكنيسة والرافضين لرؤيتها الضيقة والمتشددة في الديانة المسيحية على الجهر بآرائهم، وكان منهم شخصيتان مهمتان أثرتا مباشرة في نشر مزيد من المذاهب الرافضة وكان لهما أثرهما المباشر في نشر مذهبين بروتستانتيين هامين في أوروبا وهما المُصلح زوينغلي وجون كالفن، اللذان اتخذا من المدن السويسرية مركزًا لنشر مذهبهما الإصلاحي، خصوصا أن سويسرا كانت منقسمة إلى ثلاثة عشر «كانتونًا» أو مقاطعة بلا سلطة مركزية قوية، وهو ما منحهما هامشًا من الحركة والحرية مقارنة بدول أوروبية أخرى لها سلطة مركزية قوية مرتبطة بشكل مباشر بسلطان الكنيسة في روما.
لقد بدأ زوينغلي حركته الرافضة بعد مارتن لوثر مباشرة، فبدأ حياته دارسًا ثم قسًا، ثم اتجه للتفكر بعدما رفض ممارسات الكنيسة، وبعدما أصبح راعي كنيسة «زيورخ» رفض فكرة بيع الصكوك للحصول على الغفران باعتبار أن الله هو غافر الذنوب وليس للكنيسة أي دور في هذا الإطار، ومثل لوثر قام زوينغلي بطرد مندوب البابا المكلف ببيع صكوك الغفران من المدينة، وبدأ بذلك حركة إصلاح ديني خاصة به، فقام بكتابة سبع وستين رسالة يضع فيها فكره للعودة بالمسيحية إلى أصولها، فكان مرتكز فكره هو كون الإنجيل مصدر الإيمان الوحيد، رافضًا التفسيرات المختلفة والمشتقات الفكرية التي دونت على مدار العصور والتي ركزت السلطة في أيدي البابا والسلك الكنسي، وقد ضرب الكنيسة ضربة إضافية بالتأكيد على أن الخلاص منبعه العلاقة المباشرة بين العبد وربه وأساسه الإيمان بمعتقدات المسيحية الأصلية، كما رفض الزخارف الفكرية والعملية والتجميلية للفكر المسيحي والكنسي على حد سواء، وكذا دور السلك الكنسي والوسطاء بين العبد والإله من القديسين وغيرهم، كما رفض فكرة الأديرة ودورها.
وعلى الفور تجمع الكثيرون حوله ممن وجدوا في فكره منطقًا مقبولاً، كما بدأت المراسلات بينه وبين مارتن لوثر في ألمانيا، وجرت محاولات كثيرة لتوحيد المذهبين بما في ذلك لقاءٌ جمعهم في مدينة شتراسبورغ، ولكن كل الجهود فشلت بسبب الخلاف حول نقطة محورية واحدة وهي الخاصة بالتناول والذي بمقتضاه يتحول الخبز والنبيذ إلى دم وجسد السيد المسيح عليه السلام، فعلى حين أصر لوثر على الإبقاء على التفسير الحرفي لمقولة السيد المسيح، رأى زوينغلي ضرورة أن يتم تفسير هذا النص على اعتباره رمزيًا وليس حرفيًا هدفه إحياء ذكرى العشاء الأخير والتذكرة بالسيد المسيح عليه السلام، وهو ما وضع بداية تفسخ الحركة البروتستانتية في أوروبا، ولكن العداء الحقيقي لزوينغلي وفرقته كان من الأمراء والملوك الكاثوليك وليس من الحركة اللوثرية، وبالفعل اندلع الصراع في بعض المقاطعات السويسرية حتى عام 1531 عندما هُزمت قوات زوينغلي ومات الرجل في المعركة، وعلى الرغم من ذلك فإن مذهبه بقي في سويسرا والتي كانت من أوائل الدويلات الأوروبية التي أقرت حق ممارسة الشعائر الدينية واختيار المذهب الديني.
أما جون كالفين فقد ولد في فرنسا وبدأ حياته على درب الرهبنة، ولكن والده سرعان ما غير مستقبل الابن وجعله يدرس القانون ليصبح محاميًا، وعلى الرغم من أنه لم يكن منخرطًا في الفكر الديني، فإن فرنسا في بداية عصره كانت قد بدأت تعاني بقوة من الحركات الرافضة للكاثوليكية، إذ انتشرت مذاهب مختلفة معروفة في التاريخ الفرنسي باسم الـHuguenot، وعلى الرغم من أنه كان رافضًا لفكر مارتن لوثر في بداية حياته، فإنه تأثر كثيرًا عندما رأى عملية إعدام أحد المنشقين عن الكنيسة حرقًا بالنار، وهنا بدأ كالفن يدرك خطورة مثل هذا التطرف وبدأ الشك يساوره في تعاليم وسلوكيات الكنيسة، وزاد من قناعته اعتناق كثير من أصدقائه لأفكار رافضة للكنيسة الكاثوليكية، ونتيجة لعلاقته بالمنشقين عن الكنيسة تم اتهامه زورًا ففر هاربًا في 1534 إلى مدينة بازل السويسرية، وبدأ الرجل يتفكر ويتأمل إلى أن وصل إلى قناعة بأن البابا وكنيسته قد ضلا الطريق تمامًا، وقد وضع أفكاره في عام 1536 في كتابه الشهير «مؤسسة الديانة المسيحية» الذي تمت ترجمته للفرنسية بعد ذلك في 1541 وأهداه إلى فرانسيس الأول ملك فرنسا في محاولة لاستمالته نحو الإصلاح ومنح الشعب الفرنسي حرية اعتناق المذاهب، ولكنه سرعان ما أدرك أن المؤسسة الملكية كانت كاثوليكية تمامًا، فتم حرق الكتاب على اعتباره رمزًا للكفر والهرطقة، ومع ذلك فإن هذا الكتاب أصبح ركنًا هامًا من أركان الحركة البروتستانتية الرافضة للبابا وكنيسته.
قرر كالفن أن يهاجر إلى مدينة شتراسبورغ، وبينما كان الرجل في طريقه إليها توقف في مدينة جنيف والتي كانت في حالة فوضى عارمة بسبب انتشار حركة الحريات الواسعة والتي جاءت كرد فعل للتشدد الكاثوليكي، فعم الفساد الأخلاقي في المدينة بشكل مريع، وعندما مر كالفن على المدينة سعى الإصلاحيون إليه لينشر مذهبه ويمهد لعودة المدينة إلى طريق الهداية، وقد سلموا له أمرهم وبدأ الرجل يسعى لوضع مذهبه الديني حيز التنفيذ، ولكن الحركة التحررية كانت أقوى من التيار الإصلاحي، فثارت المدينة عليه ثورة عارمة بسبب تشدده الديني فاضطر الرجل إلى الفرار إلى مدينة شتراسبورغ في عام 1538م، حيث بقي هناك لمدة ثلاث سنوات وتزوج في المدينة وبدأ في مراجعة وتطوير كتابه وفكره مرة أخرى.
لقد اعتمد فكر كالفن الديني على بعض الركائز الأساسية وعلى رأسها التفسير الضيق والعميق للإنجيل باعتباره مصدر الإيمان والسلوكيات، ولكن الرجل كان أكثر تشددًا من غيره من الإصلاحيين في تفسير الإنجيل، حيث فسره في أضيق الحدود، فمال إلى رفض كل ما ليس محللاً في الإنجيل، وكان مؤمنًا بضرورة معاقبة أي فرد يخرج عن الدين، كما تخلص تمامًا من الزخرفة الفكرية والفنية في الكنائس، كما أنهى السلك الكنسي المبني على النظام الكاثوليكي، كذلك فقد ارتكن كالفن إلى العهد القديم للوصول إلى الله أيضا فكان ذلك بمثابة خروج عن الفكر البروتستانتي التقليدي، ولكن أهم ما قدمه كالفن في فكره كان مفهوما مشابها لمفهوم الجبرية في المسيحية، فعلى الرغم من قناعته بأن الخلاص يتم من خلال الإيمان فإنه ليس كل مؤمن على موعد مع الجنة، فداخلو الجنة قد حسم الله أمرهم من قبل ميلادهم لأنه خالقهم ويعرف سلوكياتهم مسبقًا، فدخول الجنة مرتبط بالإرادة الإلهية أكثر منه بسلوكيات الفرد، وهنا ارتكن كالفن إلى الفكر التقليدي «للقديس أغسطس» حول نظرية أن الإنسان مسير وليس مخيرًا، ولكنه أخذ الفكرة إلى أبعد من ذلك بكثير في مسألة الخلاص ودخول الجنة، ولكنه رغم ذلك فرض فكرة ضرورة أن يعمل كل فرد بما ورد في الإنجيل ويسعى لتحسين مجتمعه.
وعلى الرغم من تشدد المذهب الكالفيني، فإنه بدأ يلقى اهتمامًا خاصًا في مدينة جنيف، حيث دعاه ممثلو الفريق الإصلاحي إليهم مرة أخرى ليتولى أمر المدينة بعدما فسدت تمامًا وانتشرت الرذيلة في أرجائها، وفي عام 1541م لسبب غير معروف عاد «كالفين» إلى جنيف، حيث سيطر على المدينة تمامًا وطبق فيها رؤيته لما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة بشكلها الواسع، وتمثل الفترة التي بقي فيها كالفن في جنيف تجسيدًا لحالات غير كثيرة من النظام الثيوقراطي البحت في أوروبا بعد اعتناقها المسيحية، فإذا كانت الدول الأوروبية تعاني من وجود نظام سياسي وآخر ديني يتصارعان تارة ويتصالحان على حساب الشعب تارة أخرى، إلا أن الطريقة التي حكم بها كالفن المدينة عكست سيطرته الكاملة على مقاليد الحكم فيها وما حولها، فلقد أنشأ تنظيمين لإدارة المدينة، الأول ديني يقوم هو برئاسته، والآخر مدني يتم انتخابه، ولكن مع مرور الأشهر سيطر كالفن على الاثنين معًا، وبدأ يضع القوانين الخاصة بالمدينة من خلال تطبيق حرفي للعهد الجديد، وفرض عقوبات قاسية على كل مظاهر الترف في المجتمع، فمنع المسرح إلا لو كان يعرض مسرحية واردة في العهد الجديد، كما تشدد كثيرًا في الحريات العامة وقام بحرق السحرة وكان يعتبر نفسه وكيل الله في الأرض، ومع ذلك فقد كان شخصًا رقيقًا على المستوى الاجتماعي محبوبًا من العامة، وقد استمرت مدينته الفاضلة إلى أن توفى في عام 1564، ولم يستمر الهيكل السياسي - الديني الذي وضعه طويلاً، فسرعان ما بدأت السلطة المدنية تستعيد زمام الأمور، خصوصا بعد اختفاء الشخصية الكاريزمية لكالفن، فعادت جنيف مرة أخرى إلى السيطرة المدنية، ولكنها أبقت كثيرًا من تعاليم الكالفينية، التي مثلت حجر الزاوية للحركة الإصلاحية الدينية في أوروبا، خصوصا في شرق فرنسا بعدما اتحدت سياسيًا مع حركة الـHugenout وفي إنجلترا من خلال ما عرفوا بـ«التطهيريين Puritans»، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لحرب أهلية انتشرت في كثير من الربوع الأوروبية، فكان لها دورها المباشر في بداية حرب أهلية ضروس في فرنسا كما سنرى.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.