«دار قنبز»: أمسيات متنوعة في حضن بيروت

أطلقت نسختها الثانية من «يا أهل الدار»

مؤسستا «دار قنبز» نادين توما (يسار) وسيفين عريس  -  من أعمال الدار
مؤسستا «دار قنبز» نادين توما (يسار) وسيفين عريس - من أعمال الدار
TT

«دار قنبز»: أمسيات متنوعة في حضن بيروت

مؤسستا «دار قنبز» نادين توما (يسار) وسيفين عريس  -  من أعمال الدار
مؤسستا «دار قنبز» نادين توما (يسار) وسيفين عريس - من أعمال الدار

بروح محبة للأدب والحياة ووسط ظروف بالغة القسوة، لا خيار أمام الشريكتين المؤسستين لـ«دار قنبز» الرائدة في مجال أدب الطفل، نادين توما وسيفين عريس، سوى الإصرار على المحاولة. فلم يحبطهما وباء «كوفيد»، بعزلته ومخاوفه التي فرضها على العالم، وأصابه بالرعب والشلل. بل وجدتا في هذا الرعب امتحاناً للعبور والتصدي، كامتحان هذه الأيام اللبنانية المريرة والإصرار على تجاوزها.
وسط هذه الظروف وفي مفارقة لافتة أطلقت الدار، السبت، النسخة الثانية من النشاط الثقافي التراثي البيروتي «يا أهل الدار» التي تستمر حتى 23 ديسمبر (كانون الأول). هذا الحفر العنيد في الظلمات؛ هل هو استجابة لنداء الضوء، أم نكران أم هروب. تحسم نادين توما الأمر بتعليقها الفوري: «أبداً! هو قرار بالصمود».
«يا أهل الدار» لقاء تمتزج فيه الموسيقى بالتراث والتاريخ. وهو احتفالية خرجت من رحم «دار قنبز» بشكل فريد من نوعه بين دور النشر في لبنان. تسميها نادين توما: «مبادرة حب»، وهي احتضان عاطفي لحرفيين وموسيقيين ومهتمين بالتاريخ والتراث، وتقول: «لسنا ننظم معرضاً غايته الربح المادي، ولا نبحث عن كسب المال. لدينا معارف من أهل التصميم والحرفيين والخلاقين في مجالاتهم، فوجدتُ وشريكتي سيفين عريس جدوى ثقافية ومعنوية في جمعهما تحت سقف دافئ. لاقت النسخة الأولى من النشاط استحسان الناس، والتم حولها مهتمون من كل الأعمار والطبقات الاجتماعية. صحيح أن المسار اللبناني إلى تدهور مخيف، لكننا لا نريد للمدينة الصمت. زحمتها الثقافية بهجة الروح».
منذ ولادة «دار قنبز» في الأول من مايو (أيار) 2006، عيد العمال، ولا تمل الشريكتان من المحافظة على نوستالغيا التراث ولملمة ما له علاقة بالهوية واللغة العربية لتنميتها داخل الطفل. برأي توما، «ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، فإقامتنا لـ(يا أهل الدار) هو لغرض الالتقاء وهدم الفوارق البشرية، سواء من ناحية المنطقة أو الطبقة أو المذاهب. لقاءات للفن وفتح الأبواب».
أمسيات موسيقية وثقافية تتعمد التنوع في حضن بيروت: زجل وشرقي وجاز وطرب وبوب، واحتفال ثقافي يحاكي التصميم وفن الزراعة والصناعة والتاريخ والطبخ. تريد «دار قنبز» مصالحة المستهلك مع مفهوم الاستهلاك، فلا يكون ساذجاً وسطحياً، بل يسعى خلف الجمالية المتناسقة مع القيمة والذوق.
الشريكتان منهمكتان دائماً، لا تهدأ الأحلام ولا تستكين الأفكار الإبداعية. كمن يسرد روائع العمر، تتحدث نادين توما عن إنجازات الدار وتطلعاتها المستقبلية برغم الضباب. تسمي «مجلة قنبز»: «المحارِبة»، وفي الحقيقة، هو اللقب الذي تطلقه على نفسها. تتناول المجلة 33 موضوعاً تتنوع بين الفن والهندسة والتاريخ والجغرافيا والفيزياء وغيرها، وتفاخر بأنها صناعة الدار، لا ترجمات ولا معلومات مُستعارة. كفخرها بمشروع «المدوار»، الذي تقول إنه «من اختراع الدار، وهو بمثابة آلة حاسبة لغوية، يتألف من مدوار المكان والزمان والآلة، ومدوار الحروف الشمسية والقمرية»...
ومن مشاريع «دار قنبز» العزيزة على نادين توما، «حكايات وألعاب» مع نجلا جريصاتي خوري التي تسميها «الإرث والكنز، في لبنان والمنطقة». للباحثة خمسة كتب ترفع الدار بها الرأس لناحية إخراجها البصري الغني. وأيضاً، يجري الاستعداد لإصدار كتب جديدة، تضاف إلى «أصوات الأبجدية»، ومشاريع أخرى منها «مدينة مجاورة للأرض» وفيلم لسيفين عريس مع رسوم متسلسلة للكبار. لا تختبئ توما خلف إصبعها، فهي تعلم أن وتيرة العمل تتباطأ، لكنها تركز على الجوانب المشعة: «نحن موجودون ومنتجون».
شكّل «كوفيد» نقطة تحول تلقفتها الصبية النشيطة بقلب مُتسع، فتخبرنا عن تطويع الظروف: «انتقلنا من الوجود الجسدي الذي نصر عليه في العروض، إلى الوجود الافتراضي. فيما كثر عانوا الاختناق والانغلاق، كانت الدار تقيم عبر (الأونلاين) لحظات التقاء حميمة جميلة طوال فترة العزل». من المبكر بالنسبة إليها إعلان موت مسألة ما أو ولادة مسألة أخرى: «هذا تسرع، وأرفض رثاء المشهد الثقافي البيروتي أو إعلان موت لبنان. الوقت الآن للصمود».
لا تفرط برسالة الدار المتعلقة بالحفاظ على اللغة العربية وتطوير أدواتها، فتكون لغة حية للجيل الجديد المنجرف نحو لغات أجنبية بديلة، فتقول: «نطور الطرح داخل الموضوع، فنجعله على صلة بمواكبة التعليم الحديث. نطرح الأسئلة ونبحث عن حلول. همنا ترغيب الأطفال باللغة العربية بعيداً عن المناهج المدرسية الجافة».
تتداخل موسيقى سيفين عريس في كل العروض، ويُسمع عزفها من الغرفة الداخلية لمبنى الدار، حيث السكينة تنشط صفاء الفكر. هذه الدار التي تعتبرها الشريكتان «الملجأ والحب»، فترفضان المقايضة على مستواها، ومع ذلك لا ترفعان أسعار الكتب مراعاة للأحوال. اليوم أكثر من قبل، تشدد توما: «نرفض التنازلات المهنية مهما عصف الزمن. الاستهلاكي خيار سهل، لكننا نميل إلى الشقاء اللذيذ. قوتنا هي الإيمان بالحب والتضامن ومشاركة العقل الإبداعي».
يربكها سؤال أخير عن علاقتها ببيروت ووجعها المنتفخ منذ الانفجار. هي ممن يحبون المدينة بعزها وانكسارها، ويرون في ناسها ملاذاً للقوة والاستمرارية. ليست ممن ينعون المدن ويجيدون رثاءها، بل من الباحثين فيها عن نور: «مبانٍ تراثية كانت مهددة بالانهيار، تُعمر من جديد. ونشاطات تعود إلى الحياة. ماذا سينفع إن واصلنا النواح؟ أليس الأجدى البناء بالإبداع والعمل؟ قدرنا النهوض والوقوف».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!