أصيلة: روعة الفكرة

TT

أصيلة: روعة الفكرة

على اختلاف المراحل والحقب، ظلَّ المغرب فضاءً مفتوحاً للأفكار التي تنبض بصوت هامس في قلب الواقع العربي، ليس الأمر وليد اليوم، فقد حافظ المغرب دائماً على دوره الحيوي في حركة التاريخ في منطقتنا، ولعل مكانته الثقافية والفكرية تعززت أكثر من خلال تعدد المشارب التي نهل منها تراثه الإنساني، فالمغرب بلد الفلسفة المتسائلة ومنارة النقد، وهو اليوم جزء من هذا المجال الجغرافي العربي الكبير بإمكانياته المتاحة وبنقائص الواقع المعيش.
وفي المغرب اليوم تعيشُ الثقافة واقعاً لا يختلف عن أمثاله في بلدان أخرى شقيقة، قريبة وبعيدة؛ مواسم من البرود الثقافي راكمت معها الساحة فراغاً شاسعاً لم تكسر سطوته إلا أصوات هنا وهناك تدعو إلى إعادة الروح للمشهد الثقافي الهادف، فلا مستقبل للمغرب دون استعداد معرفي قويم لأجياله الحالية والقادمة. وإذا كان رهان المغرب الأكبر هو التنمية، فالثقافة هي الضامن لانخراط كل أطياف المجتمع في ورش البناء التنموي، بوعي عميق وبطواعية. لقد سُجلّت في العقود الأخيرة حالات متنامية من التراجع الثقافي على مستوى المحتوى الإعلامي والتربوي والمدني بالمغرب، فقد تضاءل حضور النُّخب الثقافية في زوايا المجتمع، وتراجعت الفنون العريقة عالية الذوق، كما تراجع عدد الفعاليات الثقافية الهادفة عموماً، ولم نعد نسمع كثيراً عن صالونات الفكر، ولم تعد هذه الصالونات مخلصة لفكرة النقاش المستقل ببُعدٍ معرفي يتجرد من كل خلفية براغماتية أو سياسية انتخابية عابرة.
هكذا خلَت الساحة من روح الثقافة، وتخلى الكثير من الأطراف عن أدوارهم في هذا الجانب طوعاً أو كرهاً، وحدها أصيلة ظلّت في أقصى الشمال من المغرب محافظةً على شمعة الحلم الثقافي، لم تنطفئ تلك الشمعة لأكثر من أربعين موسماً من الضوء، بل دخلت عنقودها الخامس بخطوتين، وبشيء من الإبداع الذي يليق بعزيمة الحالمين، وبإصرارهم على الاستمرار مهما كان حجم التحديات، فما دام الإيمان بالفكرة موجوداً تبقى الأمور الأخرى مجرد تفاصيل. موسم أصيلة العالمي الذي أُسدِل الستار على فعالياته قبل فترة ليس قصة للنجاح فحسب، بل هو أيضاً فكرة للبناء الثقافي الذي يتجاوز المظهر العام ويغوص في عمق الفكرة، هكذا تصبح الأحداث الثقافية مشروعاً حضارياً كبيراً وليست مجرد حدث عابر. يقول أمين عام منتدى أصيلة، محمد بن عيسى، في تصريح صحافي له حول الفعاليات الأخيرة: «أؤمن بأن الثقافة ثروة كالبترول». هل يختلف هذا التصور عن أدبيات أمارتيا صن الاقتصادية التي بشّرت بجيل جديد من التنمية في العالم قوامه الإبداع الثقافي والقدرات الفردية النابعة من قيم إنسانية حديثة تنسجم مع عواطف الشعوب وأحلامها وخصوصياتها؟ فالثقافة ليست قطاعاً مؤسساتياً فحسب، بل إنها رؤية استثمارية تنطلق من إمكانيات رأس المال البشري، وتؤمن بأن اللامادي قد يخلق الفارق مادياً ولو بعد حين. كيف لنا أن نتخيل ملامح نهضة مقبلة دون أن نرسم هذه الملامح بأنفسنا؟! وهل تنتصر الخطط التنموية لأهدافها إلا إذا كان الإنسان هو الجوهر والغاية؟! إن كان الأمر كذلك فكيف لإنسانية الإنسان الخلّاقة أن تتجلى دون ثقافة؟! ما لفَتني في المواسم المتواترة لمهرجان أصيلة حاضراً أو متابِعاً هو التنوع الكبير في الفعاليات، فقد استطاعت أصيلة أن تجمع بين حساسيات الفنون الجميلة من رسم وموسيقى وشعر، وبين عناصر أخرى فلسفية وفكرية وأخرى سياسية تناقش اليومي في إطار يضمن شرط المعرفة الأكاديمية نظرياً على الأقل... نقاشات أُثيرت حول فكرة العروبة في عالم اليوم، وأخرى طرحت أسئلة حارقة عن أفريقيا وعن الصراعات الثقافية والجيوسياسية المتنامية وسط عالم تعصف به رياح النزاعات وأهوال الأوبئة الطارئة.
في أصيلة أيضاً خُصِّصتْ أيامٌ أخرى للوفاء والاحتفاء بأسماء الرواد ممن أسهموا في صنع حركة التاريخ في عالمنا العربي. لم تكن صدفة أن تحتفي أصيلة هذه السنة بشخصية الشيخ زايد آل نهيان، مؤسِّس دولة الإمارات العربية المتحدة ورائد نهضتها، فالاحتفاء يتجاوز عاطفة التكريم وفضل الاعتراف بل يسعى إلى ما هو أكثر، إلى استيعاب دروس بليغة من الماضي تفتح أفقها الرحب لقراءة معطيات الراهن بشيء من الإيجابية، إنها وقفة متأملة عند التجربة الناجحة أينما كانت ومتى كانت. وضمن فعاليات الدورة الثانية والأربعين من الموسم الثقافي الدولي لأصيلة، كانت هنالك محاور محليّة بأفق عام تناولتْ بجرأة سؤال الديمقراطية الانتخابية في المغرب ودور الأحزاب في ظل تحولات المجتمع ورهانات التنمية... مع الكثير والكثير من الحرية، والحرية هي التنمية كما قال أمارتيا صن. حضور أيام الشعر كان متفرّداً وعفوياً كما يليق بالشعر، ذلك الفنُّ السيّدُ، فقد قُرِأتْ القصائد بعد باقة من الأسئلة والرؤى المتنوعة حول لغة الشعر اليوم، ليس الأمر غريباً عن مدينة جمعتها دوماً علاقة خاصة بالشعر، فمن يشاهد أسوار أصيلة زائراً ستلمح عيناه لا محالة نُصبَ تشيكايا أوتامسي الشاعر الأفريقي العالمي الذي غنى لأصيلة ومات وهو يتوق لموعد أخير في شوارعها. وعن أصيلة كتب الشاعر العراقي بلند الحيدري الذي مات وهو يوصي أهلها بالشعر فخلّدته المدينة حياً وميتاً بنُصب آخر في حديقة من الورود الحالمة، تماما كأحلامه. الشعرية... بين شوارع المدينة حدائق كثيرة لكُتّاب وشعراء وروائيين ومفكّرين من مشارب وانتماءات وجنسيات مختلفة، هكذا اختارت مدينة صغيرة في شمال المغرب أن تصبح متحفاً مدنياً مفتوحاً لثقافة العروبة الحديثة، وقلباً نابضاً بأحلامها وأشواقها.
نحن في خضمّ هذا الوصف لا نعرِّفُ بالمدينة بل بالفكرة، تلك الفكرة الثقافية الأصيلة التي تنقص مشهدنا العربي اليوم وتندر ملامِحُها فيه، تلك الفكرة التي تعِد بمطر ثقافي يهطل وعياً وإدراكاً وسلماً ومدنيةً نحتاج إليها اليوم، وتحتاج إليها شعوب عربية ينبغي لها أن تظل حاضرة كجزء من وعي العالم، إنها فكرة بذرة لا بد لنا أن نحتفي بها وبمثيلاتها حتى تصبح نموذجاً للبناء الثقافي الشجاع، وما أحوجنا اليوم للنموذج.
- شاعر وكاتب مغربي



مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي
TT

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرحي المحلي والعربي والعالمي.

في «مدخل» مواكبة لحفل تكريم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في إطار الدورة السابعة من مهرجان «المهن التمثيلية للمسرح المصري»، تثميناً لإسهاماته ومجهوداته في دعم ورعاية المسرح والفن في الوطن العربي؛ إذ تسلَّم عبد الله بن محمد العويس، رئيس دائرة الثقافة، ممثلاً عن حاكم الشارقة، درع التكريم، خلال افتتاح المهرجان في العاصمة المصرية القاهرة مساء التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 2024.

وبمناسبة انعقاد مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في دورته الثامنة من 13 إلى 17 ديسمبر (كانون الأول) 2024، تضمَّن العدد استطلاعاً ضمَّ آراء مجموعة من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة المهرجان ودوره في فتح آفاق جديدة للممارسة المسرحية المحلية والعربية، كما ضمَّ باب «رؤى» مقالتين حول التحديات والحلول الإخراجية والتمثيلية التي يقترحها المهرجان الذي ينظم في فضاء مفتوح بمنطقة «الكهيف» على العروض المشاركة فيه. في باب «قراءات» نطالع مجموعة مراجعات حول أبرز العروض التي شهدتها المسارح العربية في الفترة الأخيرة، حيث كتبت آنا عكاش عن عرض «ساعة واحدة فقط» للمخرج السوري منتجب صقر، وكتبت إكرام الزقلي عن مسرحية «بلا عنوان» أحدث أعمال المخرجة التونسية مروى المناعي، وتناول شريف الشافعي مونودراما «ودارت الأيام» للمخرج المصري فادي فوكيه، وتناول سامر محمد إسماعيل «تبادل إطلاق نار» للمخرجة السورية هيا حسني، وكتب إبراهيم الحسيني عن مسرحية «وحدي في الفراغ» للمخرج المصري رأفت البيومي.

في باب «حوار» مقابلة أجراها إبراهيم حاج عبدي مع الكاتب السوري أحمد إسماعيل إسماعيل الذي حاز عدداً من الجوائز في مجال الكتابة المسرحية للأطفال، وتحدث في الحوار عن بداياته، وأبرز المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي شكَّلت شخصيته، وإشكاليات التأليف المسرحي للصغار.

وفي «أسفار» كتب الحسام محيي الدين عن رحلته إلى المملكة المغربية، حيث تعرف إلى جوانب من مشهدها المسرحي، انطلاقاً من متابعته للدورة السادسة والعشرين من المهرجان الدولي للمسرح الجامعي الذي نظمته جامعة الحسن الثاني.

وفي «أفق» مقابلة أجراها محمود سعيد مع الناقدة والباحثة والمترجمة المسرحية المصرية مروة مهدي التي أنجزت رسالتها للدكتوراه حول المتفرِّج المفترض في مسرح برتولد برشت، وأسهمت أخيراً في نقل أربعة من أبرز المؤلفات النظرية المعاصرة في مجال المسرح من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية.

في باب «متابعات» مقالة عن تجربة المسرحي الفلسطيني جورج إبراهيم في تأسيس وإدارة مسرح «القصبة» الفلسطيني، وحوار مع الممثلة المغربية هند بلعولة، وآخر مع المخرجة التونسية وفاء الطبوبي. وكتب صبري حافظ في «رسائل» عن تجربة الفنان المصري خالد عبد الله الذي نجح في فرض نفسه على المسرح الإنجليزي في السنوات الأخيرة، وفي الباب ذاته نقرأ تغطيات للدورة الحادية عشرة من مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة، والدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي، والدورة الثامنة لمهرجان المسرح العماني، إضافة إلى تقرير عن انطلاق الموسم المسرحي في الجزائر.