الحكومة اللبنانية تلجأ إلى التدابير النقدية لتقطيع «الوقت الضائع»

«المركزي» يستبدل الدولار بالليرة لكبح تعاظم الفوضى النقدية

TT

الحكومة اللبنانية تلجأ إلى التدابير النقدية لتقطيع «الوقت الضائع»

اختلطت الضغوط السياسية على سعر صرف الليرة اللبنانية بالتدابير الاحتوائية التي لجأت إليها السلطة النقدية، لتعم حالة من الارتباك الشديد في أسواق المبادلات وسط تقلبات حادة لسعر الدولار صعوداً وهبوطاً. ثم تتمدد إلى ردهات المصارف التي فوجئت بقرار استبدال حصص السيولة بالليرة لتلبية السحوبات بضخ كميات موازية بالدولار النقدي، وفقاً لسعر منصة البنك المركزي.
وبدا ضياع المواطنين في أوجه مترجَماً بزحمة الأسئلة التي يطرحونها، وتلقت «الشرق الأوسط» الكثير منها بشأن آليات تنفيذ ضخ السيولة بالدولار وحصص المستفيدين منها، ومحاولات فهم طبيعة التبدلات المحورية التي ستطرأ على التعاملات النقدية في الأسواق بفعل التعميمين «الليليين» الصادرين عن المجلس المركزي لمصرف لبنان خلال أسبوع واحد، والقاضي أحدثهما باستئناف ضخ الدولار النقدي لصالح المودعين وبدلات الرواتب الشهرية للقطاع العام، بعيد القرار المفاجئ بمضاعفة بدل السحب من الحسابات المحررة بالدولار من 3900 إلى 8 آلاف ليرة. إلى جانب تعميم ثالث مرتقب، ويتيح السداد بالليرة للقروض المحررة بالدولار وبسعر 8 آلاف ليرة أيضا لكل دولار.
وريثما تعيد المصارف برمجة حواسيبها طبقاً لمقتضيات التعميم وتبدأ بصرف الدولارات النقدية عوضاً عن الحصص الشهرية بالليرة للمودعين اعتباراً من الأسبوع المقبل، برز واضحاً، في خلفية المشهد، أن الإجراءات المفاجئة حتى للمصرفيين التي اتّخذها البنك المركزي عشية نهاية السنة، جاءت منسّقة ولو منفصلة مع رئاستَي مجلس النواب والحكومة، مما أنتج انطباعات قوية بأن مهمة تغطية «الفراغ» السياسي الناجم عن تعذر انعقاد مجلس الوزراء وما يستتبعه من تأخير في إدارة ملف المفاوضات المنتظرة مع صندوق النقد الدولي، ستتولاه السلطة النقدية عبر تدابير عاجلة يؤمَّل أن تُفضي إلى كبح وتيرة الانهيارات الدراماتيكية التي شهدها سعر صرف الليرة وما يرافقها من موجات تضخم جديدة، فيما يقبع نحو 82% من المقيمين تحت خط العوز والفقر.
وتتفق هذه الترقبات مع تأكيد مدير التواصل في صندوق النقد الدولي جيري رايس، أن الفريق المولج بالملف اللبناني في المؤسسة الدولية اطّلع على أرقام الخسائر، التي توصلت إليها الحكومة وهو بصدد دراستها. لافتاً إلى «وجود تقدم ملحوظ، في تعريف الخسائر بالقطاع المالي»، وأن «أي تقدير لهذه الخسائر، من الضروري أن يتقاطع مع مشروع إصلاحات شامل، وخطة تعالج الأزمة الاقتصادية والمالية».
ويندرج في الإطار عينه، وفق معلومات «الشرق الأوسط»، وعود بالوصول إلى صيغة نهائية لمشروع قانون تقييد التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول) وإقراره من مجلس النواب في أقرب فرصة، وبما ينسجم مع مضمون الملاحظات التي وردت في جلسات المشاورات التقنية مع فريق صندوق النقد. وهو ما يمنح السلطة النقدية التغطية التشريعية اللازمة للتحكم بالتحويلات إلى الخارج، ويكون مظلة قانونية لحماية البنوك داخلياً وخارجياً من ضغوط الدعاوى والشكاوى التي يرفعها مودعون لدى المحاكم المحلية والدولية.
أما في الجانب التقني، فإن قدرات البنك المركزي على ضخ كميات الدولار لتغطية رواتب القطاع العام والسحوبات الشهرية للمودعين المحددة بسقوف مسبقة، ستتم حُكماً على حساب جزء من التوظيفات الإلزامية للبنوك والبالغة نحو 13 مليار دولار تعود حقوقها حصراً لأصحاب الحسابات المحررة بالعملات الصعبة والتي تربو على 100 مليار دولار. علماً بأن الكتلة النقدية بالليرة المتداولة في الأسواق تقارب نحو 50 تريليون ليرة، مما يعني أن احتواء نحو نصفها سيتطلب ضخ نحو مليار دولار.
ويخشى مصرفيون ومراقبون تواصلت معهم «الشرق الأوسط» من دفع التدابير الجديدة ومفاعيلها إلى أتون الخلافات الداخلية المستعر على جبهات مختلفة في سنة استحقاقات مفصلية زاخرة بمواعيد انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية. وربما لهذه المخاوف بالذات اختار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تحديد ضخ السيولة بالدولار لهذا الشهر فقط، مع إمكانية تعميمه للأشهر التالية.
وثمة قناعة عامة في الأوساط المالية بأن الدولة التي استسهلت إنفاق نحو 14 مليار دولار على سياسات دعم عقيمة خلال سنتين فقط، ولم تبالِ بنفاد كامل الاحتياطيات الحرة لدى البنك المركزي، يمكن أن تستمر في إدارة شؤون البلاد بنهج المماطلة والتسويف. وبذلك ستكون التدابير التقنية بمنزلة السيف ذي الحدين. ولذا من الضروري تعاون السلطات لتحقيق نوع من الانفراجات الداخلية التي تتيح للحكومة بالتعاون مع مجلس النواب التوصل قبل استحقاق الانتخابات النيابية في الربيع المقبل إلى عقد اتفاقية برنامج تمويل مع صندوق النقد وفتح القنوات المغلقة لانسياب دعم المانحين الدوليين وفق التزاماتهم في مؤتمر «سيدر» والمبادرات الفرنسية المتعددة.
ووفقاً لتأكيدات سلامة، فإن الهدف من التعميم الأخير هو وضع سعر صرف الليرة تحت السيطرة.
عبر تسليم البنوك دولارات نقدية مقابل ما تبقى من حصتها الشهرية بالليرة، على أن تتولى بدورها صرفها للمودعين بموجب ما تبقى لهم من حصص لهذا الشهر. وتتم عمليات التسعير للمبادلات على الخطين بناءً على السعر المعتمَد على منصة «صيرفة» التي يديرها «المركزي»، والذي بلغ مساء الخميس 22700 ليرة لكل دولار.



اعتقالات الحوثيين وتسليح الاقتصاد يهيمنان على إحاطة غروندبرغ

المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ (الأمم المتحدة)
المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ (الأمم المتحدة)
TT

اعتقالات الحوثيين وتسليح الاقتصاد يهيمنان على إحاطة غروندبرغ

المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ (الأمم المتحدة)
المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ (الأمم المتحدة)

تصدرت اعتقالات الحوثيين للموظفين الأمميين والإغاثيين، وتسليح الاقتصاد في اليمن، الإحاطة الشهرية للمبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ، أمام مجلس الأمن، الأربعاء، مع تأكيد المبعوث أن الحلّ السلمي وتنفيذ خريطة طريق تحقق السلام أمر ليس مستحيلاً، على الرغم من التصعيد الحوثي البحري والبري والردود العسكرية الغربية.

وقال المبعوث الأممي إنه من الضروري أن تقتنص الأطراف المعنية، والمنطقة، والمجتمع الدولي «اللحظات المحورية»، وألا تفوّت الفرصة لتحويلها إلى خطوات واضحة نحو تحقيق السلام المنشود في اليمن.

آثار مسيرة حوثية انفجرت في مبنى سكني في تل أبيب (أ.ف.ب)

ومع انهيار الاقتصاد وتدهور مستويات المعيشة، رأى غروندبرغ أنه لا يوجد أي مبرر لهذه المعاناة، وأن إنهاء الحرب في اليمن هو خيار حقيقي ومتاح، ويبقى ضمن متناول الأطراف، داعياً جميع الأطراف للانخراط بجدية مع الجهود التي يقودها لتنفيذ خريطة الطريق، والتي تهدف إلى تحقيق وقف إطلاق النار، وتنفيذ تدابير اقتصادية، تشمل دفع الرواتب بشكل مستدام، والتمهيد لعملية سياسية شاملة.

وحضّ غروندبرغ على اتخاذ الإجراءات اللازمة، وتقديم التنازلات، والتركيز الصادق على اليمن، باعتبار ذلك أمراً ضرورياً «إذا كانت الأطراف تسعى لتخفيف معاناة اليمنيين وإعادة الأمل في مستقبل يسوده السلام».

اعتقالات تعسفية

أشار المبعوث الأممي إلى اليمن في إحاطته إلى مرور 6 أشهر على بدء الحوثيين اعتقالات تعسفية استهدفت موظفين من المنظمات الدولية والوطنية، والبعثات الدبلوماسية، ومنظمات المجتمع المدني، وقطاعات الأعمال الخاصة.

وقال، رغم الإفراج عن 3 محتجزين، إن عشرات آخرين، بمن فيهم أحد أعضاء مكتبه لا يزالون رهن الاحتجاز التعسفي، «بل إن البعض يُحرم من أبسط الحقوق الإنسانية، مثل إجراء مكالمة هاتفية مع عائلاتهم». وفق تعبيره.

الحوثيون انخرطوا في ما يمسى محور المقاومة بقيادة إيران (إ.ب.أ)

ووصف المبعوث الأممي هذه الاعتقالات التعسفية بأنها «تشكل انتهاكاً صارخاً للحقوق الإنسانية الأساسية، وتسبب معاناة عميقة لأسرهم التي تعيش في حالة مستمرة من القلق والخوف على سلامة أحبائهم»، وشدّد على الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المعتقلين، مع تعويله على دعم مجلس الأمن لتوصيل هذه الرسالة.

وأوضح غروندبرغ أن مكتبه ملتزم بشكل كبير بإطلاق سراح جميع المحتجزين على خلفية النزاع في اليمن، وقال إن هناك من قضى 10 سنوات رهن الاعتقال، داعياً الجميع إلى الوفاء بالتزاماتهم بموجب اتفاق استوكهولم، ومواصلة العمل بروح من التعاون الصادق للوفاء بهذا الملف الإنساني البالغ الأهمية، وأن تسترشد المفاوضات بالمبدأ المتفق عليه، وهو «الكل مقابل الكل».

عواقب وخيمة

وفي ما يخص الوضع الاقتصادي في اليمن، قال المبعوث الأممي إن الأزمة تتفاقم مجدداً، مع التنبيه إلى «العواقب الوخيمة» التي تترتب على الانكماش الاقتصادي، وتجزئته، واستخدامه كأداة في الصراع.

وأكد غروندبرغ أن الفشل في دفع رواتب ومعاشات القطاع العام أدّى إلى زيادة الفقر بشكل واسع، بينما أسهم التضخم المتزايد في جعل كثير من الأسر عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية، بما في ذلك الغذاء.

تدهور الاقتصاد وانقطاع الرواتب في اليمن تسببا في جوع ملايين السكان (أ.ف.ب)

وفي شأن مساعيه، أفاد المبعوث الأممي بأن مكتبه من خلال زيارات صنعاء وعدن أوضح مفترق الطرق الحاسم الذي تواجهه الأطراف، وهو إما الاستمرار في «المسار الكارثي من النزاع غير المحسوم وتسليح الاقتصاد الذي سيؤدي بلا شك إلى خسارة الجميع، أو التعاون لحلّ القضايا الاقتصادية لتمهيد الطريق نحو النمو وتحقيق مكاسب السلام الممكنة».

وأشار إلى أن العمل جارٍ على استكشاف حلول عملية وملموسة تهدف إلى استعادة الاستقرار وتعزيز الحوار بشأن الاقتصاد اليمني، بما يشمل دفع الرواتب واستئناف صادرات النفط والغاز، بما يخدم مصلحة الشعب اليمني وترجمة الالتزامات التي تعهدت بها الأطراف في يوليو (تموز) الماضي إلى خطوات ملموسة تعود بالفائدة على جميع اليمنيين.

التصعيد العسكري

في شأن التصعيد العسكري، قال غروندبرغ إن انعدام الأمن في البحر الأحمر لا يزال يتفاقم نتيجة أعمال الحوثيين، إلى جانب الهجمات على إسرائيل، والغارات الجوية التي شنّتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة رداً على تلك التطورات.

وأشار إلى أن هذه الأحداث التي استمرت طوال العام، قلّصت الحيز المتاح لجهود الوساطة التي يقودها. وحضّ جميع الأطراف المعنية على اتخاذ خطوات جادة لتهيئة بيئة مناسبة، تمهد الطريق لحل النزاع في اليمن، وحذّر من أن الفشل في تحقيق ذلك لن يؤدي إلا إلى تعزيز دعوات العودة إلى الحرب.

طائرة حوثية من دون طيار في معرض أقامه الحوثيون في صنعاء بمناسبة الأسبوع السنوي لذكرى قتلاهم (رويترز)

وأوضح أن الأوضاع الهشّة في اليمن لا تزال مستمرة على عدة جبهات، مع تصاعد الاشتباكات بشكل متكرر في مناطق، مثل الضالع، الحديدة، لحج، مأرب، صعدة، شبوة، تعز. ما يؤدي مراراً إلى خسائر مأساوية في الأرواح.

وتصاعدت الأعمال العدائية في المناطق الشرقية من تعز - وفق المبعوث الأممي - مع ورود تقارير عن وقوع انفجارات وقصف بالقرب من الأحياء السكنية.

وفي الأسبوع الماضي فقط، أورد المبعوث في إحاطته أن طائرة من دون طيار استهدفت سوقاً مزدحمة في مقبنة بمحافظة تعز، ما أسفر عن مقتل 6 أشخاص على الأقل، وإصابة آخرين بجروح خطرة.

ودعا غروندبرغ أطراف النزاع اليمني إلى التقيد الجاد بالتزاماتهم، بموجب القانون الإنساني الدولي، لضمان حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية. وقال إن هذه الحوادث تسلط الضوء على الحاجة الملحة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

ولدعم جهود التهدئة، أفاد المبعوث بأن مكتبه يتواصل مع المسؤولين العسكريين والأمنيين من الطرفين، لتسهيل الحوار حول الديناميكيات الحالية، واستكشاف سبل تعزيز بناء الثقة.