التعثّر السياسي يسرّع انهيار الليرة اللبنانية ويزيد حدّة التضخم

رغم التقدم الحكومي بتجهيز ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي

TT

التعثّر السياسي يسرّع انهيار الليرة اللبنانية ويزيد حدّة التضخم

تسببت أجواء التصعيد السياسي وزيادة منسوب الاحتقان الداخلي، بتعميق حال عدم اليقين الذي يسود لبنان، ويتحكم بشكل شبه تام بتصرفات المتعاملين في الأسواق النقدية؛ حيث تجددت المضاربات المحمومة على سعر صرف الليرة اللبنانية، نتيجة تراجع الآمال بتحقيق تقدم سريع في ملف استئناف المفاوضات الرسمية مع إدارة صندوق النقد الدولي، بعدما نجح الفريق الاقتصادي بتحديد حجم الفجوة المالية بنحو 69 مليار دولار كمرتكز رئيسي لتحديد حصص المسؤوليات ومسارات الإنقاذ والتعافي ضمن الخطة الحكومية المنشودة.
ورغم التكثيف التقني لحجم العمليات عبر منصة مصرف لبنان لتصل إلى مستوى 12 مليون دولار في أول أيام الأسبوع الحالي، وبسعر بلغ 21.3 ألف ليرة للدولار، كان الدولار يحطم أمس عتبة 28 ألف ليرة في عمليات الأسواق الموازية.
ووفقاً لمسؤول مصرفي، تحدثت إليه «الشرق الأوسط»، فقد أثبت ارتفاع حدة المضاربات العقم شبه التام لأي تدابير ذات طابع تقني بحت تلجأ إليها السلطة النقدية، ما لم تكن مستندة إلى تحسّن صريح في الأجواء الداخلية. وذلك سواء تم عبر ضخّ كميات من الدولار عبر المنصة العاجزة عملياً عن تلبية كامل ارتفاع الطلب على العملات الصعبة بسبب ضآلة الاحتياطات التي يمكن استخدامها، أو من خلال تحسين وسائل التحكم بالكتلة النقدية التي باتت تقارب 50 تريليون ليرة.
وفي المقاربة الأعمق، يربط المسؤول المصرفي التدهور المستمر في سعر العملة الوطنية بالإحباط الذي يتجدد مع كل أزمة. فلم تكد ترد الإشارات الإيجابية من قبل إدارة صندوق النقد الدولي لتسريع استئناف المفاوضات المباشرة وإمكانية ضخ معونات طارئة من قبله ومن خلال برامج وقروض البنك الدولي، حتى استعاد الفرقاء خطابات التصعيد الداخلي والصراعات المعلنة والمضمرة بين السلطات.
في المقابل، تعتقد مصادر مالية مواكبة أن تحقيق اختراقات إيجابية معاكسة ليس بعيد المنال في حال حصول توافق على الخروج من المراوحة السياسية، وبالأخص استئناف جلسات مجلس الوزراء. فالانسجام المحقق بين الأطراف المعنية مباشرة بشأن توزيع أعباء فجوة الخسائر، أي الدولة والبنك المركزي والجهاز المصرفي، وترقب الانتهاء قريباً من التوافق على بنود خطة الإنقاذ من خلال الاجتماعات الوزارية والمالية المكثفة التي يديرها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، جدّدا الآمال بفرصة الاستجابة المحلية لاستعجال إدارة صندوق النقد للشروع بجلسات المفاوضات الرسمية اعتباراً من منتصف الشهر المقبل، وعقد اتفاقية برنامج تمويل قبل استحقاق الانتخابات النيابية.
وفي معلومات لـ«الشرق الأوسط»، يرتقب أن تفضي المشاورات المستمرة بين الحكومة والقطاع المالي إلى توزيع للخسائر، بما يشمل صوغ برنامج لإعادة هيكلة ديون الدولة البالغة «نظرياً» نحو 100 مليار دولار (ثلثاه تقريباً محرر بالليرة وفق السعر الرسمي)، وتحديد الفجوات في ميزانية البنك المركزي وسبل معالجتها وفقاً لجدول زمني واضح ومتدرج. كذلك الأمر بالنسبة لمتطلبات تصحيح أوضاع المصارف ولزوم ضخ رساميل وأموال خاصة جديدة بالعملات الصعبة، وبما يشمل تحديد الاقتطاعات (الهيركات) أو التحويل إلى أسهم التي ستطال أموال المودعين.
وتردد في هذا السياق أن توافقاً قيد التحقق سيقضي بالحماية التامة للودائع الصغيرة والمتوسطة. وثمة إشارات بأن الودائع التي تقل عن 100 ألف دولار لن تخضع لأي اقتطاعات، مع ترجيح رفع السقف إلى 200 ألف دولار بكلفة مقبولة. علماً بأن ضرورات التحكم بالسيولة وتقييد السحوبات ستظل سارية المفعول، على أن يكفل قانون تقييد الرساميل (كابيتال كونترول) الموعود تحسين قدرات التحكم بالتحويلات وتأمين الحماية القانونية للمصارف التي تعاني من ضغوط تكاثر الدعاوى في الخارج من قبل مودعين لديها.
وبرز في أجواء الانسجام ما نقله رئيس جمعية المصارف سليم صفير عن رئيس الحكومة بأنه يولي الأولوية لموضوع حماية المودعين، وإشادته «بجهود الفريق الاقتصادي الذي أعاد إطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بمقاربة علمية بعيدة عن الشعبوية. وأيضاً تشديده خلال زيارته للرئيس ميقاتي على ضرورة حماية المودعين في أي خطة تضعها الحكومة لمعالجة الخسائر التي تكونت على مدى السنوات الماضية».
وأوضح صفير أن الخسائر التي تتم مقاربتها هي فعلياً التزامات على الدولة وتوزيعها بشكل عادل لا يجب أن يكون على حساب المودعين الأفراد والقطاعات الاقتصادية، فإعدام الثروات الخاصة وإمكانية التمويل مستقبلياً يعدم الاقتصاد وفرص إخراجه من الركود واستعادة النمو.
وأكد صفير لرئيس الحكومة أن المصارف التي تحملت الوزر الأكبر من الخسائر المادية والمعنوية في ظل حملات ممنهجة لإفلاس القطاع، ومعه المودعون، لا تزال ملتزمة بما يضمن عودة الاستقرار الاقتصادي والمالي للبنان.



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».