كاليدونيا الجديدة ترفض الاستقلال عن فرنسا

سكان في نوميا عاصمة كاليدونيا الجديدة لدى تصويتهم في الاستفتاء أمس (أ.ف.ب)
سكان في نوميا عاصمة كاليدونيا الجديدة لدى تصويتهم في الاستفتاء أمس (أ.ف.ب)
TT

كاليدونيا الجديدة ترفض الاستقلال عن فرنسا

سكان في نوميا عاصمة كاليدونيا الجديدة لدى تصويتهم في الاستفتاء أمس (أ.ف.ب)
سكان في نوميا عاصمة كاليدونيا الجديدة لدى تصويتهم في الاستفتاء أمس (أ.ف.ب)

صوّتت كاليدونيا الجديدة بأغلبية أمس ضد الاستقلال، في استفتاء ثالث وأخير حول حق تقرير المصير اتّسم بنسبة امتناع عن التصويت قياسية، بعد دعوة القوميين الانفصاليين لمقاطعة الاقتراع الذي يشكل نهاية عملية لإنهاء الاستعمار بدأت قبل 30 عاماً في هذا الأرخبيل الفرنسي.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: «بدأت فترة انتقالية (...) علينا الآن بناء مشروع مشترك، مع الاعتراف بكرامة الجميع واحترامها»، مضيفاً أن «فرنسا أجمل الليلة لأن كاليدونيا الجديدة قررت أن تبقى جزءاً منها». وقالت قناة «إن سي لا بروميير» التلفزيونية إنه بعد فرز 90.23 في المائة من الأصوات فاز رافضو استقلال هذا الأرخبيل الفرنسي الاستراتيجي الواقع في جنوب المحيط الهادي بنسبة 96.32 في المائة.
يذكر أنه في استفتاءَي 4 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 و4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، رفض الناخبون الاستقلال بنسبة 56.7 في المائة و53.3 في المائة على التوالي.
وكان مؤيدو الانفصال قد أعلنوا أنهم لن يذهبوا إلى مراكز الاقتراع لأنه لا يمكن تنظيم «حملة عادلة» في الأرخبيل الذي ضربه بقوة منذ سبتمبر (أيلول) وباء «كوفيد 19»، حيث يعيش شعب الكاناك حداداً. ودعا إيفون كونا رئيس مجلس الأعيان التقليدي الذي ينظر في القضايا المتعلقة بعادات الكاناك وهويتهم إلى «الهدوء»، وطلب من «المواطنين الكاناك والتقدميين في كاليدونيا إحياء يوم وطني (لحداد كاناك) عبر الامتناع عن التوجه إلى مراكز الاقتراع». ويبدو أن القوميين لبّوا دعوة عدم المشاركة في الاستفتاء، إلا أن هذه المقاطعة تكرّس في الواقع رفض الاستقلال.
في هذا السياق، كان انتصار الموالين لفرنسا مرتقباً في وقت بدأ القادة العسكريون يفكرون باقتراحات للمرحلة المقبلة. وقالت كاثي، التي تعمل في مكتبة في نوميا، لوكالة الصحافة الفرنسية، إن «هذا الاستفتاء لا معنى له، لأن نصف السكان قرر عدم التصويت». وأضافت أن «ما يهمني هو المجتمع الذي سنبنيه بعد ذلك».
ومع ذلك، يشكل هذا الاستفتاء خطوة حاسمة في عملية بدأت في 1988 باتفاقات ماتينيون في باريس التي كرست المصالحة بين الكاناك السكان الأوائل لكاليدونيا الجديدة، والكالدوش أحفاد المستوطنين البيض بعد سنوات من التوتر وأعمال العنف.
انخرط سكان كاليدونيا في هذه العملية منذ ثمانينات القرن الماضي عندما شهدت أراضيهم التي استعمرتها فرنسا في القرن التاسع عشر، فترة اضطرابات بلغت ذروتها في عملية احتجاز رهائن وهجوم على كهف أوفيا في مايو (أيار) 1988. وقد أدت إلى مقتل 19 من الناشطين الكاناك و6 عسكريين. وبعد أقل من شهرين على هذه المأساة، نجح الاستقلاليون والموالون لفرنسا في إبرام اتفاقات ماتينيون التي أعادت توزيع السلطات في كاليدونيا الجديدة. وبعد 10 سنوات، أطلق توقيع اتفاق نوميا عملية لإنهاء الاستعمار تستمر 20 عاماً.
وينص هذا الاتفاق على تنظيم 3 عمليات استفتاء، لمعرفة ما إذا كان السكان يريدون أن تحصل الجزيرة على «السيادة الكاملة والاستقلال».
وكان ممثلو كاليدونيا قرروا مع الدولة في يونيو (حزيران) في باريس، أنه بعد 12 ديسمبر (كانون الأول) ستبدأ «فترة استقرار وتقارب» قبل «استفتاء مزمع» بحلول يونيو 2023.
وهذا «الاستفتاء المزمع» سيكون بشأن دستور دولة جديدة في حال صوّت الناخبون الأحد بنعم على الاستقلال، أو إذا حدث العكس بمنح المنطقة وضعاً جديداً.
يشار إلى أن كاليدونيا الجديدة تملك منطقة اقتصادية حصرية تمتد على مساحة نحو 1.5 مليون كيلومتر مربع. وتجعلها ثرواتها المعدنية، وخصوصاً النيكل والكوبالت، واحدة من الدول المنتجة الأولى في العالم. إلى جانب هذه الثروات، تتمتع هذه المنطقة الفرنسية ما وراء البحار بموقع جيوسياسي مهم نظراً للأهمية المتزايدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في العلاقات الدولية مع صعود الصين. وفي هذه الأجواء، يثير اليوم التالي للاستفتاء الاهتمام الأكبر. وقد وصل وزير أراضي ما وراء البحار الفرنسي سيباستيان لوكورنو إلى نوميا الجمعة للتحضير لهذه الفترة من المناقشات. وكاليدونيا الجديدة مدرجة منذ 1986 على لائحة الأمم المتحدة للأراضي غير المستقلة التي يجب إزالة الاستعمار منها.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟