فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية

وسط آمال عريضة عند ورثة الديغولية بـ {استعادة فرنسا}

فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية
TT

فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية

فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية

استطلاعات الرأي التي يصار إلى اللجوء إليها بشكل مكثف في الديمقراطيات الغربية، وخصوصاً في الأزمنة الانتخابية، قطعاً ليست بديلاً عن صناديق الاقتراع، ذلك أن فائدتها تكمن في أنها تعكس حالة الرأي العام الآنية، وإن كانت تعد مؤشراً لانطلاق تيارات وتوجهات جديدة من شأنها قلب القناعات السابقة بما فيها المترسخة.
يصح هذا القول على الانتخابات الرئاسية الفرنسية ومرشحيها الذين اكتملت أعدادهم وما زال خارج السباق، أقله رسمياً، الرئيس إيمانويل ماكرون. لكن، لا شك يخامر مؤيديه ومعارضيه من أنه سيخوض الغمار الرئاسي للفوز بولاية ثانية، خصوصاً أن نتائج استطلاعات الرأي السابقة كانت تؤكد جميعها أن استحقاق الربيع المقبل (في 10 و14 أبريل/نيسان 2022) سيكون نسخة عن انتخابات العام 2017.
لقد كان مقدراً أن الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية ستفضي إلى تأهل كل من الرئيس إيمانويل ماكرون ومارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، في حين ستشهد الجولة الثانية الحاسمة فوزا مريحا للأول. بيد أن هذه الصورة تغيّرت خلال الأسابيع والأيام الأخيرة بشكل مقلق للفريق الرئاسي. وثمة عنصران رئيسان أثرا فيها:
العنصر الأول، بروز اسم إريك زيمّور (زمّور)، المصنف في أقصى خانة اليمين المتطرف الشعبوي بسبب طروحاته الراديكالية بخصوص المهاجرين والإسلام والحفاظ على «الهوية الفرنسية».
والعنصر الآخر، نجاح العملية الانتخابية الداخلية لـ«الجمهوريون» التي أفضت إلى فوز فاليري بيكريس، رئيسة إقليم «إيل دو فرانس» (باريس وضواحيها الكبرى التي تعد 12 مليون نسمة) بالترشيح الرسمي للحزب.
وهكذا، بسرعة بالغة، تبيّن أن المتضرر الأول من المرشح الطارئ زيمّور ليس إلا مارين لوبن، خاصة، أن الاثنين يتنافسان على الفوز بأصوات اليمين المتطرف والخائبين من ناخبي اليمين الكلاسيكي الذي يجسده حزب «الجمهوريون»، وريث الحزب الديغولي التاريخي، أو حتى من اليسار المهمش.
ثم أن الأمر اللافت للنظر أنه منذ الانتخابات الإقليمية التي جرت الربيع الماضي، كان اسم كزافيه برتراند، الوزير السابق ورئيس منطقة شمال فرنسا، المرشح الأبرز لحمل مشعل «الجمهوريون». وحجة فريقه، أنه الأقدر على التنافس وكسر معادلة ماكرون - لوبن، لا، بل والفوز على الرئيس الحالي. والحال، أن حسابات برتراند، الذي لم يجد أمامه من خيار سوى قبول الخوض في الانتخابات التمهيدية لـ«الجمهوريون» الذي كان خرج منه وأسس حزباً خاصاً به، جاءت خاطئة. إذ خرج من المنافسة في الدورة الأولى، وتنافس للجولة الثانية، إلى جانب بيكريس، النائب عن منطقة الألب، إريك سيوتي الذي يُعدُّ بطروحاته والسياسات التي دافع عنها، الأكثر يمينية بين المتنافسين الخمسة... حتى أن كثيرين رأوا فيه نسخة «معدّلة» عن أريك زيمّور.
- إيقاظ اليمين الكلاسيكي
اليوم، تنصبّ أنظار الفرنسيين كافة على فاليري بيكريس التي أفضى ترشيحها إلى «إيقاظ» ناخبي اليمين، الأمر الذي يظهر في استطلاعات الراي التي أجريت منذ ترشيحها رسمياً السبت الماضي. ويفيد الاستطلاع الذي أجراه معهد «إيلاب» ونشرت نتائجه الأربعاء، بأن بيكريس يمكن أن تحصل على نسبة 20 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى متخطية بذلك مارين لوبن (15 في المائة) وإريك زيمّور (14 في المائة) بحيث تحلّ في المرتبة الثانية وراء ماكرون (25 في المائة). والمفاجأة الثانية أنها يمكن أن تتغلب على ماكرون في الجولة الثانية بحيث تحصل على 52 في المائة من الأصوات مقابل 48 في المائة للرئيس المنتهية ولايته.
أما عن معسكر اليسار بمختلف تلاوينه، فإنه غارق في انقساماته. إذ إن المرشحة الاشتراكية آن هيدالغو، رئيسة بلدية باريس، عاجزة عن تخطي سقف الخمسة في المائة ومرشح الخضر يانيك جادو، أفضل حالاً، لكنه بعيد جداً عن مرشحي المقدمة (7 في المائة). ومن غير انسحاب أحدهما لصالح الآخر، فإن هزيمة ساحقة ماحقة ستلحق، بشكل مؤكد، باليسار المسمى «حكومي»، أي غير اليسار المتشدد الذي يمثله النائب والمرشح السابق (والحالي) جان لوك ميلونشون (8 في المائة).
- خبرة سياسية وحكومية
حقيقة الأمر، أن بروز اسم فاليري بيكريس كان بمثابة مفاجأة لمختلف الأطراف، بما فيها المعسكر الرئاسي. فبيكريس امرأة تتمتع بمؤهلات علمية وبخبرة سياسية وحكومية تؤهلها لأن تحتل أرفع المناصب في الجمهورية الفرنسية. ومنذ الصيف الماضي، لم تتوان بيكريس عن اللعب على وتر كونها امرأة، وعلى «الرسالة» التي يحملها انتخاب أول امرأة رئيسة للجمهورية. ومع أنها غير معروفة بشكل جيد خارج النطاق الفرنسي البحت، فإن سيرتها الذاتية تشهد على تمتّعها بقدرات وإمكانيات علمية ومهنية وسياسية عديدة.
ليست بيكريس «وافدة» على باريس أو على منطقة «إيل دو فرانس». فقد ولدت في العام 1967 في مدينة نويي - سور - سين، ضاحية باريس البورجوازية الراقية الواقعة على مدخل العاصمة الغربي في عائلة كاثوليكية. والدها، دومينيك رو، احتل مناصب جامعية رفيعة، وجدّها لناحية والدتها، لويس بيرتانيا، كان عالماً نفسياً، انخرط في صفوف المقاومة ضد المحتل الألماني. ولاحقا، تولّى معالجة لورانس، ابنة الرئيس الراحل جاك شيراك التي كانت تعاني من مشاكل نفسية. أما زوجها فهو جيروم بيكريس، رئيس أحد فروع شركة ألستوم الفرنسية المتخصصة بقطاع النقل والسكك الحديد ولديهما ثلاثة أبناء.
تتمتع بيكريس بمؤهلات جامعية وعلمية عديدة. وهي، كما الرئيس ماكرون، خريجة «المعهد الوطني للإدارة» (إينا) الذي يوفّر أعلى الكوادر لإدارة شؤون الدولة. وبعد تخرّجها في المعهد المذكور، عملت بيكريس في الإدارة موظفة رفيعة المستوى، ومارست، بالتوازي، التعليم في معهد العلوم السياسية (سيانس بو) المرموق في باريس. وكان دخولها عالم السياسية عام 1988 مستشارة لجاك شيراك الذي تسنم رئاسة فرنسا طيلة ولايتين من العام 1995 وحتى العام 2007).
في العام 2002، انتُخبت فاليري بيكريس للمرة الأولى نائبة في البرلمان عن دائرة الإيفلين (عاصمتها فرساي بجنوب غربي باريس) وأعيد انتخابها في العام 2007، إلا أنها تخلّت عن مقعدها النيابي عند تعيينها وزيرة في أولى حكومات الرئيس نيكولا ساركوزي. وطيلة ولاية ساركوزي، تقلّبت بيكريس في العديد من المناصب الوزارية فشغلت مناصب وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزيرة المالية، والناطقة باسم حكومة فرنسوا فيون.
غير أنها في العام 2015، انتُخبت رئيسةً لإقليم «إيل دو فرانس» منتزِعة الرئاسة من رئيسه الاشتراكي كلود برتولون، وأعيد انتخابها الربيع الماضي. ومن أجل التفرغ لمنصبها الجديد، عمدت إلى التخلي مجدداً عن مقعدها النيابي. لكنها بسبب ما اعتبرته نزوعاً نحو اليمينية المتشددة تحت رئاسة رولان فوكييز، خرجت بيكريس من حزب «الجمهوريون» وأطلقت في العام 2019 حزبها الخاص المسمى «أحرار».
- تأهبها للانتخابات المقبلة
مع هذا، ولدى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وإعلانها ترشحها في 22 يوليو (تموز) من العام الحالي، فإنها حرصت على أن تكون مرشحة الحزب – الأم؛ ولذا عادت إليه في أواسط أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعدما اتخذ قرار إجراء انتخابات داخلية لتعيين المرشح الرسمي المعتمد.
وهكذا، في أعقاب فوزها الكاسح السبت الماضي، بحصولها على 60 في المائة من أصوات المحازبين، أخذت بيكريس تجسّد آمال «الجمهوريون» في وضع حد لسلسلة الانتكاسات الرئاسية. وبدأت تمهد للعودة بهم إلى الإمساك بإدارة البلاد، بعدما خسروا الانتخابات الرئاسية مرتين: الأولى عام 2012 لصالح الاشتراكي فرنسوا هولند، والأخرى في العام 2017 أمام إيمانويل ماكرون.
خلال المناظرات الأربع التي تواجَه فيها مرشحو «الجمهوريون» الخمسة، بدت فاليري بيكريس الأكثر صلابة وعرضت برنامجاً انتخابياً سياسياً واضحاً وصريحاً. إلا أن الظاهرة الأبرز أنها، تحت ضغط المرشح زيمّور ومنافسها من داخل حزبها إريك سيوتي، اضطرت إلى تبنّي مواقف أكثر تشدداً مما كان يعرف عنها في موضوع الهجرة والتعامل مع اللاجئين والإصرار على إجراءات إضافية لتعزيز العلمانية وإعادة فرض هيبة الدولة في كل أرجاء الجمهورية.
وحقاً، تتبنى بيكريس سياسة اقتصادية ليبرالية متقدمة ومحافظة إلى حد ما في المسائل الاجتماعية ومتشددة في المسائل السيادية. وهي تقترب، فيما تدعو إليه، من البرنامج «الجذري» الذي طرحه فرنسوا فييون، مرشح «الجمهوريون» عام 2017؛ إذ إنها تدعو إلى خفض أعداد الموظفين (200 ألف) ورفع سن التقاعد إلى 65 سنة وإعادة إطلاق الصناعة النووية لإنتاج الطاقة الكهربائية على حساب خطط التركيز على الطاقة البديلة اللاكربونية.
أيضاً، ينص برنامج بيكريس على تشديد التعامل مع الجنح والجرائم ومضاعفة الأحكام لتلك الحاصلة فيما يسمى «المناطق الحساسة» التي تروج فيها تجارة المخدرات وتصفية الحسابات والانتهاكات من كل نوع. وهي تؤيد بناء سجون إضافية تتسع لما لا يقل عن 20 ألف نزيل وإيجاد مراكز تأديبية مغلقة للقاصرين الذين يرتكبون جنحاً، وتتمسك بفرض أحكام مشددة على كل المعتدين على منتسبي الأجهزة الأمنية.
- الهجرة غير الشرعية
وفي التعاطي مع الهجرات الشرعية، تريد فاليري بيكريس فرض سياسة «الكوتا» لتعيين حاجات الاقتصاد كل عام، وفي المقابل وهي عازمة على الحد من سياسة لمّ الشمل العائلي وخفض المساعدات الاجتماعية التي يستفيد منها طالبو اللجوء بالتوازي مع رفضها للهجرات غير الشرعية. ورغم تمسكها بالاتحاد الأوروبي، فإنها تعتبر أن «القوانين الدستورية الفرنسية يجب أن تكون لها الأولوية على القوانين الأوروبية». وككل الساعين لترشيح «الجمهوريون»، تريد بيكريس خفض المديونية وخفض الضرائب وتشجيع الصناعة وتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين والتخلي عن قانون تحديد أسبوع العمل بـ35 ساعة. وبالنسبة للضرائب، فإنها تريد تمكين الأهل من تقديم هبات لأبنائهم وأحفادهم لا تقل عن 100 ألف يورو معفاة من الضرائب كل ستة أعوام. ولتشجيع الأسر وتنشيط السياسة العائلية، تقترح بيكريس زيادة المخصصات الحكومية. وفي المسائل العلمانية، فإنها تريد فرض قَسَم الولاء للقيم الجمهورية على جميع العاملين في الوظائف العامة، كما أنها تعتبر الحجاب بمثابة وسيلة «إخضاع» للفتيات والنساء.
- قفزة في الاستطلاعات
خلال الأيام الستة المنقضية، حققت فاليري بيكريس في استطلاعات الرأي قفزة استثنائية تصل إلى عشر نقاط. والأهم من ذلك كله، أن الاستطلاع الأخير بيّن أنها تستطيع التغلب على الرئيس ماكرون. وفي هذا الإطار، يكمن تخوف المعسكر الرئاسي من ظهور هذه المرشحة أنها تتبنى برنامجاً قريباً من برنامج ماكرون. وبالتالي، قد تكون قادرة على اجتذاب شرائح مجتمعية سبق أن صوّتت قبلاً لماكرون، أو أنها انضمت إلى حزبه «الجمهورية إلى الأمام» أو إلى الأحزاب الرديفة التي تؤيده، مثل حزب الحركة الديمقراطية الوسطي الذي يرأسه المرشح المخضرم فرنسوا بايرو، أو حزب «آفاق» الذي أطلقه أخيراً رئيس حكومته السابق إدوار فيليب.
وهكذا، الواضح اليوم، بالنسبة لخبراء السياسة الفرنسية الداخلية، أن المعركة الرئاسية ستُحسم داخل معسكر اليمين. وما يميز فاليري بيكريس أنها تطرح برنامجاً متشدداً بما يكفي لاجتذاب بعض الذين تستهويهم طروحات زيمّور أو لوبن... ولكنهم يرفضون المغالاة التي تدمغهم. واقتصادياً، فإن برنامجها ليبرالي بما فيه الكفاية لاجتذاب مَن سار وراء ماكرون بفضل ليبراليته. لكن فيس المقابل، بيكريس يمكن أن تعاني من مشكلة التوفيق بين الجناحين المتشدد والمعتدل داخل «الجمهوريون» بحيث لا تعثر على «نقطة التوازن» التي ترضي الجميع... أو على الأقل لا تحدث شروخاً بين حساسياته المختلفة.
بيد أن كل ما سبق لا يعني بتاتاً أن ماكرون خسر سلفاً المعركة الرئاسية. فالرجل يملك في جعبته أوراقاً رابحة، لعل أبرزها أنه سيكون بعد أيام قليلة رئيساً للاتحاد الأوروبي. وهذا الموقع سيمكّنه من إطلاق مبادرات، وأن يكون دائم الحضور على المستويات الوطنية والأوروبية والدولية، ما سيوفّر له رافعة سيستخدمها، بلا شك، لتأكيد الريادة الفرنسية، ولتبيان كونه المسؤول الأوروبي الأكثر بروزاً بعد انسحاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الأسبوع المنقضي، من المسرح السياسي.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.