فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية

وسط آمال عريضة عند ورثة الديغولية بـ {استعادة فرنسا}

فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية
TT

فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية

فاليري بيكريس... مرشحة اليمين الكلاسيكي تهدد طموح ماكرون لولاية ثانية

استطلاعات الرأي التي يصار إلى اللجوء إليها بشكل مكثف في الديمقراطيات الغربية، وخصوصاً في الأزمنة الانتخابية، قطعاً ليست بديلاً عن صناديق الاقتراع، ذلك أن فائدتها تكمن في أنها تعكس حالة الرأي العام الآنية، وإن كانت تعد مؤشراً لانطلاق تيارات وتوجهات جديدة من شأنها قلب القناعات السابقة بما فيها المترسخة.
يصح هذا القول على الانتخابات الرئاسية الفرنسية ومرشحيها الذين اكتملت أعدادهم وما زال خارج السباق، أقله رسمياً، الرئيس إيمانويل ماكرون. لكن، لا شك يخامر مؤيديه ومعارضيه من أنه سيخوض الغمار الرئاسي للفوز بولاية ثانية، خصوصاً أن نتائج استطلاعات الرأي السابقة كانت تؤكد جميعها أن استحقاق الربيع المقبل (في 10 و14 أبريل/نيسان 2022) سيكون نسخة عن انتخابات العام 2017.
لقد كان مقدراً أن الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية ستفضي إلى تأهل كل من الرئيس إيمانويل ماكرون ومارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، في حين ستشهد الجولة الثانية الحاسمة فوزا مريحا للأول. بيد أن هذه الصورة تغيّرت خلال الأسابيع والأيام الأخيرة بشكل مقلق للفريق الرئاسي. وثمة عنصران رئيسان أثرا فيها:
العنصر الأول، بروز اسم إريك زيمّور (زمّور)، المصنف في أقصى خانة اليمين المتطرف الشعبوي بسبب طروحاته الراديكالية بخصوص المهاجرين والإسلام والحفاظ على «الهوية الفرنسية».
والعنصر الآخر، نجاح العملية الانتخابية الداخلية لـ«الجمهوريون» التي أفضت إلى فوز فاليري بيكريس، رئيسة إقليم «إيل دو فرانس» (باريس وضواحيها الكبرى التي تعد 12 مليون نسمة) بالترشيح الرسمي للحزب.
وهكذا، بسرعة بالغة، تبيّن أن المتضرر الأول من المرشح الطارئ زيمّور ليس إلا مارين لوبن، خاصة، أن الاثنين يتنافسان على الفوز بأصوات اليمين المتطرف والخائبين من ناخبي اليمين الكلاسيكي الذي يجسده حزب «الجمهوريون»، وريث الحزب الديغولي التاريخي، أو حتى من اليسار المهمش.
ثم أن الأمر اللافت للنظر أنه منذ الانتخابات الإقليمية التي جرت الربيع الماضي، كان اسم كزافيه برتراند، الوزير السابق ورئيس منطقة شمال فرنسا، المرشح الأبرز لحمل مشعل «الجمهوريون». وحجة فريقه، أنه الأقدر على التنافس وكسر معادلة ماكرون - لوبن، لا، بل والفوز على الرئيس الحالي. والحال، أن حسابات برتراند، الذي لم يجد أمامه من خيار سوى قبول الخوض في الانتخابات التمهيدية لـ«الجمهوريون» الذي كان خرج منه وأسس حزباً خاصاً به، جاءت خاطئة. إذ خرج من المنافسة في الدورة الأولى، وتنافس للجولة الثانية، إلى جانب بيكريس، النائب عن منطقة الألب، إريك سيوتي الذي يُعدُّ بطروحاته والسياسات التي دافع عنها، الأكثر يمينية بين المتنافسين الخمسة... حتى أن كثيرين رأوا فيه نسخة «معدّلة» عن أريك زيمّور.
- إيقاظ اليمين الكلاسيكي
اليوم، تنصبّ أنظار الفرنسيين كافة على فاليري بيكريس التي أفضى ترشيحها إلى «إيقاظ» ناخبي اليمين، الأمر الذي يظهر في استطلاعات الراي التي أجريت منذ ترشيحها رسمياً السبت الماضي. ويفيد الاستطلاع الذي أجراه معهد «إيلاب» ونشرت نتائجه الأربعاء، بأن بيكريس يمكن أن تحصل على نسبة 20 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى متخطية بذلك مارين لوبن (15 في المائة) وإريك زيمّور (14 في المائة) بحيث تحلّ في المرتبة الثانية وراء ماكرون (25 في المائة). والمفاجأة الثانية أنها يمكن أن تتغلب على ماكرون في الجولة الثانية بحيث تحصل على 52 في المائة من الأصوات مقابل 48 في المائة للرئيس المنتهية ولايته.
أما عن معسكر اليسار بمختلف تلاوينه، فإنه غارق في انقساماته. إذ إن المرشحة الاشتراكية آن هيدالغو، رئيسة بلدية باريس، عاجزة عن تخطي سقف الخمسة في المائة ومرشح الخضر يانيك جادو، أفضل حالاً، لكنه بعيد جداً عن مرشحي المقدمة (7 في المائة). ومن غير انسحاب أحدهما لصالح الآخر، فإن هزيمة ساحقة ماحقة ستلحق، بشكل مؤكد، باليسار المسمى «حكومي»، أي غير اليسار المتشدد الذي يمثله النائب والمرشح السابق (والحالي) جان لوك ميلونشون (8 في المائة).
- خبرة سياسية وحكومية
حقيقة الأمر، أن بروز اسم فاليري بيكريس كان بمثابة مفاجأة لمختلف الأطراف، بما فيها المعسكر الرئاسي. فبيكريس امرأة تتمتع بمؤهلات علمية وبخبرة سياسية وحكومية تؤهلها لأن تحتل أرفع المناصب في الجمهورية الفرنسية. ومنذ الصيف الماضي، لم تتوان بيكريس عن اللعب على وتر كونها امرأة، وعلى «الرسالة» التي يحملها انتخاب أول امرأة رئيسة للجمهورية. ومع أنها غير معروفة بشكل جيد خارج النطاق الفرنسي البحت، فإن سيرتها الذاتية تشهد على تمتّعها بقدرات وإمكانيات علمية ومهنية وسياسية عديدة.
ليست بيكريس «وافدة» على باريس أو على منطقة «إيل دو فرانس». فقد ولدت في العام 1967 في مدينة نويي - سور - سين، ضاحية باريس البورجوازية الراقية الواقعة على مدخل العاصمة الغربي في عائلة كاثوليكية. والدها، دومينيك رو، احتل مناصب جامعية رفيعة، وجدّها لناحية والدتها، لويس بيرتانيا، كان عالماً نفسياً، انخرط في صفوف المقاومة ضد المحتل الألماني. ولاحقا، تولّى معالجة لورانس، ابنة الرئيس الراحل جاك شيراك التي كانت تعاني من مشاكل نفسية. أما زوجها فهو جيروم بيكريس، رئيس أحد فروع شركة ألستوم الفرنسية المتخصصة بقطاع النقل والسكك الحديد ولديهما ثلاثة أبناء.
تتمتع بيكريس بمؤهلات جامعية وعلمية عديدة. وهي، كما الرئيس ماكرون، خريجة «المعهد الوطني للإدارة» (إينا) الذي يوفّر أعلى الكوادر لإدارة شؤون الدولة. وبعد تخرّجها في المعهد المذكور، عملت بيكريس في الإدارة موظفة رفيعة المستوى، ومارست، بالتوازي، التعليم في معهد العلوم السياسية (سيانس بو) المرموق في باريس. وكان دخولها عالم السياسية عام 1988 مستشارة لجاك شيراك الذي تسنم رئاسة فرنسا طيلة ولايتين من العام 1995 وحتى العام 2007).
في العام 2002، انتُخبت فاليري بيكريس للمرة الأولى نائبة في البرلمان عن دائرة الإيفلين (عاصمتها فرساي بجنوب غربي باريس) وأعيد انتخابها في العام 2007، إلا أنها تخلّت عن مقعدها النيابي عند تعيينها وزيرة في أولى حكومات الرئيس نيكولا ساركوزي. وطيلة ولاية ساركوزي، تقلّبت بيكريس في العديد من المناصب الوزارية فشغلت مناصب وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزيرة المالية، والناطقة باسم حكومة فرنسوا فيون.
غير أنها في العام 2015، انتُخبت رئيسةً لإقليم «إيل دو فرانس» منتزِعة الرئاسة من رئيسه الاشتراكي كلود برتولون، وأعيد انتخابها الربيع الماضي. ومن أجل التفرغ لمنصبها الجديد، عمدت إلى التخلي مجدداً عن مقعدها النيابي. لكنها بسبب ما اعتبرته نزوعاً نحو اليمينية المتشددة تحت رئاسة رولان فوكييز، خرجت بيكريس من حزب «الجمهوريون» وأطلقت في العام 2019 حزبها الخاص المسمى «أحرار».
- تأهبها للانتخابات المقبلة
مع هذا، ولدى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وإعلانها ترشحها في 22 يوليو (تموز) من العام الحالي، فإنها حرصت على أن تكون مرشحة الحزب – الأم؛ ولذا عادت إليه في أواسط أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعدما اتخذ قرار إجراء انتخابات داخلية لتعيين المرشح الرسمي المعتمد.
وهكذا، في أعقاب فوزها الكاسح السبت الماضي، بحصولها على 60 في المائة من أصوات المحازبين، أخذت بيكريس تجسّد آمال «الجمهوريون» في وضع حد لسلسلة الانتكاسات الرئاسية. وبدأت تمهد للعودة بهم إلى الإمساك بإدارة البلاد، بعدما خسروا الانتخابات الرئاسية مرتين: الأولى عام 2012 لصالح الاشتراكي فرنسوا هولند، والأخرى في العام 2017 أمام إيمانويل ماكرون.
خلال المناظرات الأربع التي تواجَه فيها مرشحو «الجمهوريون» الخمسة، بدت فاليري بيكريس الأكثر صلابة وعرضت برنامجاً انتخابياً سياسياً واضحاً وصريحاً. إلا أن الظاهرة الأبرز أنها، تحت ضغط المرشح زيمّور ومنافسها من داخل حزبها إريك سيوتي، اضطرت إلى تبنّي مواقف أكثر تشدداً مما كان يعرف عنها في موضوع الهجرة والتعامل مع اللاجئين والإصرار على إجراءات إضافية لتعزيز العلمانية وإعادة فرض هيبة الدولة في كل أرجاء الجمهورية.
وحقاً، تتبنى بيكريس سياسة اقتصادية ليبرالية متقدمة ومحافظة إلى حد ما في المسائل الاجتماعية ومتشددة في المسائل السيادية. وهي تقترب، فيما تدعو إليه، من البرنامج «الجذري» الذي طرحه فرنسوا فييون، مرشح «الجمهوريون» عام 2017؛ إذ إنها تدعو إلى خفض أعداد الموظفين (200 ألف) ورفع سن التقاعد إلى 65 سنة وإعادة إطلاق الصناعة النووية لإنتاج الطاقة الكهربائية على حساب خطط التركيز على الطاقة البديلة اللاكربونية.
أيضاً، ينص برنامج بيكريس على تشديد التعامل مع الجنح والجرائم ومضاعفة الأحكام لتلك الحاصلة فيما يسمى «المناطق الحساسة» التي تروج فيها تجارة المخدرات وتصفية الحسابات والانتهاكات من كل نوع. وهي تؤيد بناء سجون إضافية تتسع لما لا يقل عن 20 ألف نزيل وإيجاد مراكز تأديبية مغلقة للقاصرين الذين يرتكبون جنحاً، وتتمسك بفرض أحكام مشددة على كل المعتدين على منتسبي الأجهزة الأمنية.
- الهجرة غير الشرعية
وفي التعاطي مع الهجرات الشرعية، تريد فاليري بيكريس فرض سياسة «الكوتا» لتعيين حاجات الاقتصاد كل عام، وفي المقابل وهي عازمة على الحد من سياسة لمّ الشمل العائلي وخفض المساعدات الاجتماعية التي يستفيد منها طالبو اللجوء بالتوازي مع رفضها للهجرات غير الشرعية. ورغم تمسكها بالاتحاد الأوروبي، فإنها تعتبر أن «القوانين الدستورية الفرنسية يجب أن تكون لها الأولوية على القوانين الأوروبية». وككل الساعين لترشيح «الجمهوريون»، تريد بيكريس خفض المديونية وخفض الضرائب وتشجيع الصناعة وتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين والتخلي عن قانون تحديد أسبوع العمل بـ35 ساعة. وبالنسبة للضرائب، فإنها تريد تمكين الأهل من تقديم هبات لأبنائهم وأحفادهم لا تقل عن 100 ألف يورو معفاة من الضرائب كل ستة أعوام. ولتشجيع الأسر وتنشيط السياسة العائلية، تقترح بيكريس زيادة المخصصات الحكومية. وفي المسائل العلمانية، فإنها تريد فرض قَسَم الولاء للقيم الجمهورية على جميع العاملين في الوظائف العامة، كما أنها تعتبر الحجاب بمثابة وسيلة «إخضاع» للفتيات والنساء.
- قفزة في الاستطلاعات
خلال الأيام الستة المنقضية، حققت فاليري بيكريس في استطلاعات الرأي قفزة استثنائية تصل إلى عشر نقاط. والأهم من ذلك كله، أن الاستطلاع الأخير بيّن أنها تستطيع التغلب على الرئيس ماكرون. وفي هذا الإطار، يكمن تخوف المعسكر الرئاسي من ظهور هذه المرشحة أنها تتبنى برنامجاً قريباً من برنامج ماكرون. وبالتالي، قد تكون قادرة على اجتذاب شرائح مجتمعية سبق أن صوّتت قبلاً لماكرون، أو أنها انضمت إلى حزبه «الجمهورية إلى الأمام» أو إلى الأحزاب الرديفة التي تؤيده، مثل حزب الحركة الديمقراطية الوسطي الذي يرأسه المرشح المخضرم فرنسوا بايرو، أو حزب «آفاق» الذي أطلقه أخيراً رئيس حكومته السابق إدوار فيليب.
وهكذا، الواضح اليوم، بالنسبة لخبراء السياسة الفرنسية الداخلية، أن المعركة الرئاسية ستُحسم داخل معسكر اليمين. وما يميز فاليري بيكريس أنها تطرح برنامجاً متشدداً بما يكفي لاجتذاب بعض الذين تستهويهم طروحات زيمّور أو لوبن... ولكنهم يرفضون المغالاة التي تدمغهم. واقتصادياً، فإن برنامجها ليبرالي بما فيه الكفاية لاجتذاب مَن سار وراء ماكرون بفضل ليبراليته. لكن فيس المقابل، بيكريس يمكن أن تعاني من مشكلة التوفيق بين الجناحين المتشدد والمعتدل داخل «الجمهوريون» بحيث لا تعثر على «نقطة التوازن» التي ترضي الجميع... أو على الأقل لا تحدث شروخاً بين حساسياته المختلفة.
بيد أن كل ما سبق لا يعني بتاتاً أن ماكرون خسر سلفاً المعركة الرئاسية. فالرجل يملك في جعبته أوراقاً رابحة، لعل أبرزها أنه سيكون بعد أيام قليلة رئيساً للاتحاد الأوروبي. وهذا الموقع سيمكّنه من إطلاق مبادرات، وأن يكون دائم الحضور على المستويات الوطنية والأوروبية والدولية، ما سيوفّر له رافعة سيستخدمها، بلا شك، لتأكيد الريادة الفرنسية، ولتبيان كونه المسؤول الأوروبي الأكثر بروزاً بعد انسحاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الأسبوع المنقضي، من المسرح السياسي.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.