كيف يرى رجل السياسة والدبلوماسية مستقبلنا البشري؟

هنري كيسنجر والذكاء الصناعي

هنري كيسنجر -  دانييل هتنلوكر - إريك شميت
هنري كيسنجر - دانييل هتنلوكر - إريك شميت
TT

كيف يرى رجل السياسة والدبلوماسية مستقبلنا البشري؟

هنري كيسنجر -  دانييل هتنلوكر - إريك شميت
هنري كيسنجر - دانييل هتنلوكر - إريك شميت

لم تزل الحيوية الفكرية التي يتمتّعُ بها هنري كيسنجر Henry Kissinger، وهو على أعتاب 100 عام (ولِد عام 1923)، مصدراً للتفكّر والإعجاب. قد نختلف مع كيسنجر ورؤاه الدبلوماسية والجيوبوليتيكية، هذا أمرٌ مقبول، وليس مصدر خلاف؛ لكننا لن نختلف في قدراته الفكرية المميزة منذ أن كان طالباً في جامعة هارفرد التي تخرّج منها عام 1950. ثمّ منذ أن نشر أوّل كتبه «الأسلحة النووية والسياسة الخارجية Nuclear Weapons and Foreign Policy» عام 1957. نحن في العادة نعرف وجهاً واحداً من أوجه كيسنجر، ذاك هو وجه السياسي والدبلوماسي البراغماتي الذي ساهم في تشكيل خريطة العالم، الشرق الأوسط خاصة، في سبعينات القرن العشرين؛ لكننا نغفل عن أوجه أخرى له، منها مثلاً وجه الفيلسوف السياسي الحاذق، ولو قرأنا كتابه الضخم المسمّى «الدبلوماسية» لتيقّنا من مصداق هذا القول.
من المثير حقاً أن يطرق رجل يتوكّأ على عصا ويمشي متثاقلاً باب مبحث معرفي وتقني جديد هو الذكاء الصناعي؛ لكنّ كيسنجر فعل هذا بالمشاركة مع اثنين من كبار الباحثين المرموقين في حقل الذكاء الصناعي؛ إريك شميت Eric Schmidt، رجل الأعمال ومهندس البرمجيات الذي ظلّ عموداً أساسياً في شركة غوغل في كل تحوّلاتها الهيكلية منذ عام 2001 حتى اليوم، والباحث الثاني هو دانييل هتنلوكر Daniel Huttenlocher عالم الحاسوب الأميركي الذي يعمل حالياً عميداً لكلية شوارزمان للحوسبة في معهد ماساتشوستس التقني الشهير MIT. الكتاب منشور حديثاً (يوم 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021)، وحمل عنوان عالم الذكاء الصناعي ومستقبلنا البشري The Age of AI and Our Human Future. ظلّ الكتاب منذ يوم صدوره على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، ولعلّ أسماء مؤلفيه ساهمت في هذا الأمر؛ إذ أحسبُ أنّ كثيرين لن يترددوا في شراء كتاب ممهور بختم هنري كيسنجر، وهذه فضيلة من فضائل مساهمة الشخصيات ذات الصيت العالمي في تناول الموضوعات ذات القيمة الاستراتيجية والراهنية العالمية من حيث قدرتها العظمى على رسم معالم المستقبل البشري.
ينتمي الكتاب إلى حقل أدبيات الفكر العلمي وفلسفته بنفس القدر الذي ينتمي فيه إلى مبحث دراسات المستقبليات Future Studies، وقد تضافرت الحيوية الفكرية لكيسنجر مع القدرات العلمية والتقنية لزميليه في خلق كتاب متوسط الحجم (في حدود 250 صفحة) سلس القراءة يتناول واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه الإنسانية لو لم تتعامل معها في سياق من الحكمة المعقلنة.
يتوزّعُ الكتاب على مقدمة قصيرة و7 فصول. جاءت عناوين الفصول بالترتيب التالي؛ الانطلاق من حيث نحن، كيف بلغنا ما بلغناه اليوم التقنية والفكر الإنساني، مِنْ تورنغ حتى يومنا الحالي وما بعده، منصّات الشبكات العالمية، الأمن والنظام العالمي، الذكاء الصناعي والهوية الإنسانية، الذكاء الصناعي والمستقبل. تعقبُ هذه الفصولَ السبعة ملاحظاتٌ تفصيلية دقيقة أضاءت متن الكتاب.
أحسبُ أنّ عناوين الفصول تكشف عن التداخل بين الرؤى الفلسفية والمضامين التقنية لموضوع الذكاء الصناعي، ثم الاجتهاد الذكي من جانب المؤلفين لربط الجانبين الفلسفي والتقني مع المعضلات الواقعية للعالم الذي نعيش فيه، مثل؛ معضلة الأمن، والنظام العالمي، والطبيعة التواصلية اللحظية المشتبكة التي خلقتها الشبكات العالمية... إلخ.
يحكي المؤلفون في مقدّمة الكتاب الظروف التي أحاطت بفكرة تأليف الكتاب، وهي ظروف أقربُ إلى الصُّدف النادرة. تخبرنا المقدّمة أنّ أحد المؤلفين (هو كيسنجر، حتى إن لم يصرّحوا بذلك؛ لكنّ القارئ يفهم هذا من السياق) كان مدعواً قبل 5 سنوات من نشر الكتاب لمؤتمر، جعل الذكاء الصناعي على رأس قائمة موضوعاته. كان من الطبيعي والبديهي ألا يفكّر كيسنجر بحضور المؤتمر، لأنّ الذكاء الصناعي أبعد ما يكون عن اهتماماته حتى ذلك الحين؛ لكنّ صدفة جميلة جعلت كيسنجر يلتقي بأحد الأشخاص (هو إريك شميت)، واستطاع شميت تغيير وجهة نظر كيسنجر بشأن الذكاء الصناعي. «الذكاء الصناعي سيؤثّرُ عمّا قريب في كلّ حقل من حقول النشاط الإنساني». هذا ما سمعه كيسنجر من شميت، وكان كفيلاً بتغيير قناعة الأول وجَعْلِهِ يحضر المؤتمر.
يَعِدُ الذكاء الصناعي بتحقيق تغيير شامل في الحياة الإنسانية على الأصعدة كافة؛ المجتمع، الاقتصاد، السياسة، الأمن الوطني، الخريطة الجيوبوليتيكية، مصادر القوة الاستراتيجية للدول، ومن المؤكّد أنّ التفكّر في جميع السيناريوهات المستقبلية الممكنة أمر يقعُ خارج نطاق قدرة أي فرد أو مبحث علمي أو تقني بمفرده؛ بل إنّ دراسة هذه التغييرات الموعودة تتطلّب معرفة وخبرة قد تكون أبعد من نطاق الخبرة البشرية السائدة؛ لذا لا بدّ أن تتعاضد خبرات مشتبكة من حقول العلم والتقنية والتأريخ والسياسة والإنسانيات لدراسة طبيعة الذكاء الصناعي والمعضلات التي يمكن أن تنشأ عنه.
سعى المؤلفون في هذا الكتاب إلى تمكين القارئ من تحصيل معرفة شاملة، وإن كانت عامّة وغير تفصيلية، بشأن الأسئلة المفصلية التي ستواجهها الإنسانية في السنوات القليلة المقبلة، وكذلك إلقاء الضوء على الوسائل والأساليب التي تمكّننا من معرفة كيفية الاستجابة المناسبة لها.
أدناه بعض الأسئلة التي يتناولها الكتاب...
- كيف ستبدو الابتكارات المحفّزة بالذكاء الصناعي في حقول الصحة والبيولوجيا والفضاء وتطبيقات ميكانيك الكم؟
- كيف سيكون شكل الحروب المدعمة بتقنيات الذكاء الصناعي؟
- هل سيكشف الذكاء الصناعي عن جوانب مخفية من الواقع، ليس للكائن البشري سبيل لبلوغها في نطاق قدراتنا البشرية؟
- كيف سيتغيّر البشر عندما تبدأ الوسائل المدعمة بالذكاء الصناعي في التأثير على عملية صناعة القرار البشري؟
- ماذا يعني أن نكون بشراً Human في عصر تتزايد فيه قدرات الذكاء الصناعي حتى تبلغ تخوماً تتفوق فيها على الذكاء البشري (البيولوجي)؟
يعترف المؤلفون في نهاية تقديمهم للكتاب أنّ الأمر سيكون أقرب لغطرسة مكروهة فيما لو ادّعوا قدرتهم على وصف ملامح حقبة مفصلية في تأريخ الإنسانية في نطاق كتاب واحد بمفرده، ويؤكّدون أنْ ليس في استطاعة فرد واحد - مهما تعاظمت قدراته المهنية والفكرية والفلسفية والرؤيوية – القدرة على تفهّم كلّ جوانب مستقبل قريب سيكون فيه بمستطاع الآلات تطبيق وسائل المنطق ومدّها إلى تخوم أبعد كثيراً من نطاق القدرات البشرية ؛ وعليه فلا مهرب أمام المجتمعات من التعاضد فيما بينها، لا بقصد الفهم المجرّد لتقنيات الذكاء الصناعي فحسب، بل من أجل إعادة التكيّف الحتمي بكيفية لا تضحّي بالقيم البشرية النبيلة والرفيعة.
أملي كبيرٌ في أن يجد هذا الكتاب ترجمة عربية قريبة له؛ فنحن في نهاية المطاف جزء من هذا العالم، ولا بدّ لقارئنا العربي أن يجد إطلالة له على مستقبل سيكون فيه للذكاء الصناعي اليد الطولى في كلّ جوانب الحياة المادية والفكرية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.