أوكرانيا وحيدة أمام المطالب الروسية الحافلة بالتاريخ والخوف

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضر اجتماعاً مع الرئيس الأميركي جو بايدن في جنيف خلال يونيو الماضي (د.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضر اجتماعاً مع الرئيس الأميركي جو بايدن في جنيف خلال يونيو الماضي (د.ب.أ)
TT

أوكرانيا وحيدة أمام المطالب الروسية الحافلة بالتاريخ والخوف

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضر اجتماعاً مع الرئيس الأميركي جو بايدن في جنيف خلال يونيو الماضي (د.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضر اجتماعاً مع الرئيس الأميركي جو بايدن في جنيف خلال يونيو الماضي (د.ب.أ)

القمة الافتراضية المقررة غداً الثلاثاء بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين ستكون فرصة لتكرار الجانبين مواقفهما المعلنة في شأن الجولة الحالية من التصعيد قرب الحدود الأوكرانية، مما يترك الموقف مفتوحاً أمام عمليات عسكرية روسية وعقوبات غربية.
بحسب وثيقة سربتها أجهزة الاستخبارات الأميركية إلى وسائل الإعلام، فقد دفعت موسكو نحو 175 ألف جندي من قواتها - مائة كتيبة قتال تكتيكية - إلى أربع مناطق متاخمة لأوكرانيا فيما توجد المعدات العسكرية الثقيلة في المنطقة بعدما تركتها القوات الروسية أثناء مناورات سابقة أجرتها هناك. ويرجح الخبراء الغربيون أن تبدأ موسكو عملياتها أوائل يناير (كانون الثاني) المقبل.
التقدم الروسي قد لا يتجاوز كثيراً المناطق التي يسيطر عليها بالفعل الموالون لموسكو في «جمهوريتي» دونتسك ولوغانستك في منطقة الدونباس. لكن العملية العسكرية ستهدف إلى تدمير الجيش الأوكراني الذي تبذل كييف جهوداً كبيرة لإعادة تنظيمه وتجهيزه من خلال أسلحة وتدريب يوفرهما الغرب وطائرات مسيرة اشترتها من تركيا. وثمة من يرى في الخطة الروسية تشابهاً مع ما قامت به موسكو في حربها القصيرة ضد جورجيا في 2008 عندما حطمت القوات الجورجية وفتحت الطريق إلى العاصمة تفليسي لكنها امتنعت عن احتلالها موجهة رسالة إلى الزعماء الجورجيين حينها - الذين كانوا يرغبون أيضاً في الانضمام إلى الحلف الأطلسي - أنهم لا يستطيعون مقاومة موسكو ولا الاعتماد على الغرب. وفرضت روسيا منذ ذلك الحين أمراً واقعاً يتلخص في بقاء «جمهوريتين» مواليتين لها داخل الأراضي الجورجية.
https://www.youtube.com/watch?v=iG8-Y8nMPPY
الهدف النهائي سيكون تحقيق المطالب الروسية التي كررها أكثر من مسؤول: منع انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، و«إرغام» القيادة الأوكرانية على تنفيذ البنود المتبقية من اتفاق «مينسك 2» الموقع في 2015 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. هذه الكلمة (إرغام) هي ما استخدمه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في ختام اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قبل أيام في استوكهولم. ورغم التركيز الإعلامي على الطلبين الروسيين الأولين، فإن حمل الجانب الأوكراني على التقيد بـ«مينسك 2» كاملة يبدو كنقطة نهاية للمسار الذي تريد موسكو فرضه على جارتها الضعيفة والفقيرة.
وإذا كان امتناع كييف عن الحصول على عضوية «الناتو» والاتحاد الأوروبي يبقي أوكرانيا تحت السيطرة الخارجية الروسية، فإن التطبيق الكامل لاتفاقية مينسك سيعني استحواذ موسكو على روافع مهمة للهيمنة على السياسة الداخلية الأوكرانية. ذاك أن الاتفاقية المذكورة التي وقعت وسط مناخ الهزيمة التي نزلت بأوكرانيا في القرم وشن الأوكرانيين المتحدثين باللغة الروسية لحرب انفصاليهم في منطقة الدونباس، وضع كييف في موقف المهزوم المضطر للتسليم بإملاءات الخصم وشروطه ومنها منح دونتسك ولوغانتسك المزيد من السلطات وتحولهما إلى كيانين فيدراليين في الدولة الأوكرانية. من وجهة نظر السياسيين الأوكرانيين المناهضين للتمدد الروسي، سيجعل الرضوخ لهذا الطلب من الجمهوريتين اللتين لا يعترف العالم بهما، من أوكرانيا أداة طيعة في يد السياسة الروسية بسبب قدرة أنصار موسكو في الدونباس على ممارسة حق النقض لأي من القرارات الأوكرانية التي لا تلائم الروس.
والأرجح أن بوتين لن يتراجع هذه المرة عن مطالبه. في حين أن تصريح بايدن عن أنه أعد جملة من الإجراءات التي «ستجعل من الصعب جداً جداً على السيد بوتين المضي إلى ما يريد أن يمضي إليه» يبدو كتأكيد على أن الولايات المتحدة والغرب عموماً لن يقوما بما يزيد عن فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا التي عوقبت أصلاً بعد ضمها شبه جزيرة القرم.
https://www.youtube.com/watch?v=F5vtDbPFyfo
يضاف إلى ذلك أن بوتين الذي قدم مسوغات تاريخية وآيديولوجية في مقال طويل نشره في يوليو (تموز) الماضي عن وحدة الشعبين الروسي والأوكراني وعن استحالة أن تكون روسيا عدواً لأوكرانيا لأسباب تمتد من الروابط الاجتماعية إلى الدين والعرق. واتهم بوتين في مقاله الأوساط الأوكرانية الحاكمة بتحريف كل التاريخ المشترك وتصوير المرحلة السوفياتية كاحتلال لأوكرانيا فيما صوروا، برأيه، الكارثة المشتركة التي تمثلت في فرض نظام المزارع المشتركة وما أعقبها من مجاعة في ثلاثينات القرن الماضي، كعملية إبادة نفذها الروس ضد الأوكرانيين. في غضون ذلك، يتابع بوتين، نهب السياسيون اليمينيون المتطرفون والنازيون الجدد والأوليغارشيون المحليون الشعب الأوكراني وأودعوا المسروقات في المصارف الغربية.
https://www.youtube.com/watch?v=bAFfYzPa8xM
بديهي أن يقدم الرئيس الروسي وجهة نظر أحادية من أحداث القرن الماضي وأن يغفل حقائق أخرى من التاريخ المشترك الروسي - الأوكراني من مثل حظر الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر استخدام اللغة الأوكرانية ثم قضاء البلاشفة في 1918 على محاولة الاستقلال الأوكرانية، حيث يتعارض ابتعاد أوكرانيا عن النفوذ الروسي مع كل منظومة التفكير الروسية بالذات كدولة عظمى من حقها أن تتمتع بنفوذ غير قابل للنقاش على جيرانها الذين يفترض بهم تأمين الحماية لها وعدم الانضمام إلى خصومها.
عليه، يتجاوز التوتر الحالي الخشية الروسية من وصول حلف «الناتو» إلى حدود البلاد. فالحلف موجود قريباً من روسيا في دول البلطيق التي تشكل نقطة احتكاك أخرى مع الغرب. لكن الدول الصغيرة الثلاث هناك لا تتمتع بالحمولة التاريخية والنفسية التي لأوكرانيا بالنسبة للروس الذين لا تربطهم بهذه الجمهوريات علاقات من الصنف الذي ساد لمئات السنين مع أوكرانيا التي باتت جزءاً من الهوية والتراث الروسيين.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟