هل تجسّر «نقابة المحررين» اللبنانية الهوة مع الصحافيين الشباب؟

أُسست عام 1944... وحقبة النقيب ملحم كرم كانت الأطول

أعضاء النقابة الفائزون في الانتخابات الأخيرة
أعضاء النقابة الفائزون في الانتخابات الأخيرة
TT

هل تجسّر «نقابة المحررين» اللبنانية الهوة مع الصحافيين الشباب؟

أعضاء النقابة الفائزون في الانتخابات الأخيرة
أعضاء النقابة الفائزون في الانتخابات الأخيرة

في خضم عملية الانتخابات التي شهدتها نقابة محرري الصحافة في لبنان يوم الأربعاء الفائت، وقف أحد الصحافيين الشباب متأملاً عدداً كبيراً من زملائه الذين لا يعرفهم، وسأل مستغرباً: «مَن هؤلاء؟».
برأيه أن هوة كبيرة تفصل بين الصحافيين من الجيل الجديد والمخضرمين. ويتابع الصحافي الشاب لـ«الشرق الأوسط» معلقاً: «شعرت وكثير من زملائي بالغربة في تلك اللحظة، لا سيما أن هناك فارقاً كبيراً في العمر بيننا. قد نكون نحن الجيل الشاب على معرفة بعضنا ببعض من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لكننا لا نعرف الذين يكبروننا سناً، وهم يشكلون الأكثرية في نقابة المحررين، على عكس نقابات أخرى تعتز بالدم الشبابي».
وحقاً، يرى الجيل الشاب أن معايير الانتساب إلى النقابة تحد من دخولهم إليها، فثمة نحو ألف صحافي اليوم غير منضوين تحت لوائها، وهو ما يوجب إعادة النظر بجدول الانتساب الذي يعيق التوازن بين الجيلين. وهذه واحدة من الانتقادات التي وُجهت إلى لائحة «الوحدة النقابية» الفائزة في الانتخابات الأخيرة لنقابة المحررين.

المعركة الانتخابية
في أجواء لم تخلُ من سخونة، أجريت انتخابات مجلس نقابة محرري الصحافة في لبنان، وتنافست فيها 3 لوائح: «الوحدة النقابية»، و«صحافيون لنقابة حرة»، و«صحافيون طامحون للتغيير»، إضافة إلى منفردين، من بينهم أليسار قبيسي من «تجمع نقابة الصحافة البديلة»، وقاسم متيرك وريميال نعمة وحبيب الشلوق. ولكن في النهاية فازت اللائحة المكتملة «الوحدة النقابية» التي يرأسها النقيب الحالي جوزف القصيفي، ومعه 11 عضواً يؤلفون مجلس النقابة، بينهم: يمنى الشكر، وصلاح تقي الدين، ونافذ قواص، وجورج شاهين، ووليد عبود، وغسان ريفي.
وإثر إعلان النتيجة، حصلت مشادات كلامية بين النقيب القصيفي وآخرين من لوائح لم يحالفها الحظ، وعلت أصوات تندد بفوز لائحة السلطة في هذه الانتخابات، وكانت أليسار قبيسي (من تجمع نقابة الصحافة البديلة) في مقدم المحتجين.
أليسار أوضحت في حديث لـ«الشرق الأوسط» موقفها بالقول: «سميتها معركة الانتساب، لأنه من حق كل صحافي أن ينتسب إلى النقابة؛ لا يمكن للقيمين عليها اليوم أن يتخذوا قراراتهم في هذا الموضوع بشكل عشوائي، بل يجب أن تحصل إصلاحات. كما أن العملية الانتخابية هي مجرد تحرك بسيط شاركنا فيه ليس أكثر، أردناه ضد أزلام السلطة التي اجتمعت في اللائحة الفائزة. وعندما قلت (لتسقط لائحة السلطة)، كان ذلك من أجل الإشارة إلى التمادي الكبير الذي تمارسه السلطة على اللبنانيين عامة، وعلينا نحن الصحافيين. المطلوب إصلاحات سريعة، وتغيير قانون الإعلام ليصبح عادلاً».
هذا الرأس نقلناه إلى النقيب الفائز القصيفي الذي رد في حديث لـ«الشرق الأوسط»، فقال: «للمعارك الانتخابية عدتها وأدواتها، ولبنان بلد متنوع فيه تيارات سياسية مختلفة؛ لا أحد في لبنان من دون صبغة سياسية، أو لنقل مستقلاً مائة في المائة. نحن في لائحة (الوحدة النقابية) نمثل لبنان المتنوع، فقد اجتمع فيها نخبة من الزملاء المعروفين في مجال الصحافة، ولهم مكانتهم وحضورهم. وما يردده بعضهم غير منطقي. ونعرف تماماً أن بعض تلك الأصوات المنددة لديها هي نفسها ارتباطات عمل مع أجهزة السلطة».
وأردف القصيفي: «الانتخابات ديمقراطية، والإعلام كان منحازاً مع هؤلاء، وخصص لهم مساحات واسعة، وعلى الرغم من ذلك فشلوا. بينهم مَن ينتسب إلى النقابة، وغيرهم لا نعرفهم، ونجهل طبيعة أعمالهم. فالحري بالجميع أن ينضووا تحت سقف نقابة المحررين التي تفتح أبوابها أمام الجميع».
النقيب شكا من أن أحداً من المعترضين لا يلبي الدعوة، أو يشارك عندما تعقد جمعيات عمومية دورية، ليطالب بإصلاح من داخل النقابة. وأضاف: «يقولون إن هناك بعض الثغرات في النظام الداخلي لنقابة المحررين، ولقد تعهدنا بتصحيحها. ومشروع تعديل قانون الإعلام الذي يشمل الجميع سلك طريقه إلى مجلس النواب كذلك بالنسبة لمشروع الضمان الاجتماعي الذي نضع كل جهودنا لإقراره». وحول تهمة «التجاوزات»، تساءل النقيب: «عن أي تجاوزات يتحدثون، وقد وجد مراقبون للعملية بعد تعاوننا مع جمعية (لاد) إثر بروتوكول وقعناه معها. فإذا كان هناك من ثغرات في النظام الداخلي للنقابة، فهذا لا يعني أنه حصلت تجاوزات».
أيضاً دافع النقيب عن تلكؤ النقابة في لم شمل المحررين الصحافيين، قائلاً: «كل شخص يمارس مهنة حرة يجب أن ينتسب إلى نقابته. لم نقفل أبوابنا أمام أحد، بل جددنا في الجدول النقابي، وجمعنا تحت راية الانتساب إعلاميين يعملون في المرئي والمسموع والمكتوب والمواقع الإلكترونية؛ كل ذلك كان معلقاً في الماضي. مارسنا سياسة الانفتاح، وتحركنا في حالات كثيرة: أوقات الجائحة، وانفجار بيروت. ونعمل على قانون الضمان الاجتماعي للصحافي غير المضمون. إن نقابتنا هي الأكثر فقراً بين باقي النقابات، ومع ذلك نبذل الجهد دائماً لمساعدة أهل الإعلام من دون تفرقة». وأضاف: «هذا الأمر ترجمناه خلال أزمة الوقود، عندما سهلنا الحصول عليه. وفي فترة حظر التجول، استثنينا منه الإعلاميين. وبرأيي، ليس هناك من معارضة حقيقية؛ يوجد فقط نوع من المنافسة. ومَن يرغب في التغيير وإجراء الإصلاحات من المنتسبين إلى النقابة، باستطاعتهم أن يناضلوا من داخلها».

كثافة اقتراع
انتخابات الأربعاء الفائت سجلت كثافة ملحوظة بنسبة المقترعين تجاوزت 72 في المائة من مجمل الأعضاء المسددين لاشتراكاتهم (900 من أصل 1400 صحافي). أما الانقسام الذي شهدته اللوائح المنافسة لـ«الوحدة النقابية»، فجاء نتيجة تباين بين مرشحيها. ولكن ما الذي يدفع ببعض الصحافيين الشباب إلى الانتساب لنقابة المحررين، على الرغم من معارضتهم لنظامها وكيفية إدارتها؟ يرد الصحافي خضر حسان: «النقابات تلعب دوراً مهماً في الدفاع عن العاملين في نطاق مهنتها؛ ما دفعني للتفكير في الانتساب هو هذا الدم الجديد الذي دخل المهنة، فـ(تجمع الصحافة البديلة) زودني ببادرة أمل، ودفعني لممارسة حقي في الانتخاب. إن هدفنا نحن الصحافيين الشباب لا ينحصر فقط في الحصول على حقوقنا، بل أيضاً تطوير العمل النقابي. وإذا ما انتسبت إلى النقابة، سأسهم من دون شك، ومن داخلها، في إجراء التغيير».

بداية المسيرة
أسست نقابة محرري الصحافة عام 1944، وترأس أول مجلس لها المونسينيور لويس خليل. وبعده تسلمها روبير أبيلا، وتوالت مجالسها حتى عقد الستينات من القرن الماضي حين انتخب الصحافي الراحل ملحم كرم نقيباً لها. وتُعد حقبة كرم الأطول في المشوار النقابي لهذا المجلس، إذ استمر في مركزه نقيباً من الستينات حتى عام 2011، تاريخ رحيله. وعلى الأثر، عُين سعيد ناصر الدين نقيباً بالوكالة.
وفي عام 2012، أُجريت انتخابات جديدة، وفاز إلياس عون بمنصب النقيب. وجرى التجديد لعون بعد انتخابات حادة، واجه خلالها المرشح المنفرد أنطوان الشدياق. وعام 2018، ترشحت لائحتان لمجلس نقابة المحررين، كان على رأسها كل من جوزف القصيفي من ناحية، وأندريه قصاص وإلياس عون من ناحية ثانية، وفاز يومها القصيفي الذي أعيد انتخابه قبل أيام.
ممثل اتحاد الصحافيين العرب في الاتحاد الدولي للصحافيين، علي يوسف، الذي هو أحد الأعضاء الفائزين في الانتخابات الجديدة تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن مدى رضا الاتحاد عن أداء نقابة المحررين، وقال: «أخذت النقابة هذا الموقع نتيجة التقدير للطريقة التي تعمل بها في المرحلة الحالية. سابقاً، لم يكن هذا الزخم والاجتهاد حاضرين في النقابة، حتى أن الإعلام بشكل عام كان يسير بطريقة كلاسيكية عادية، ولكن مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية دخل في عالم مختلف. اليوم، توجد يقظة جديدة إزاء دور الإعلام في العالم أجمع، وهو ما نحاول مواكبته في مجلس نقابة المحررين».
ويشير يوسف إلى أن الإعلام الجديد الذي تصبو إليه النقابة «يرتكز على صيغ جديدة تعنى بالالتزام بالشأن العام بطريقة مستقلة حرفية مهنية معاً. وهذا الأمر يأتي رداً على الانحراف الذي أصاب الإعلام ومؤسساته في العالم أجمع».
ويضيف: «انتقل الإعلام اليوم من صانع للرأي إلى صانع للحدث. كل شيء أصبح مبرراً اليوم في العمل الإعلامي لتحقيق الهدف المنشود». ويتابع يوسف: «أضحك عندما أسمع أصواتاً تطالب بأمور غير أساسية في إعلام اليوم. نحن ندخل على الرؤية المستقبلية للإعلام الذي هو سلاح فتاك يمكن أن يعمر أو يهدم بلداً».
ويؤكد يوسف أنه يجب فصل المهنة عن وسائل التواصل الاجتماعي «فليس كل من دون عبارة أصبح صحافياً، أو صور بتلفونه المحمول حادثة صار مصوراً صحافياً. هناك نقاشات جدية نخوضها، وليت هؤلاء المعترضين على فوزنا يتشاركون معنا الآراء. عقدنا جمعيات عمومية، ودعونا إليها أكثر من مرة، ولم يلبِّ أحد منهم الدعوة. أما بالنسبة للانتساب إلى النقابة، فأنا أتحدى صحافياً واحداً رُفض طلبه، وكان مستوفياً للشروط».
ويختتم: «نحن في مرحلة إعادة بناء بعد انهيار مؤسسات إعلامية كثيرة. عندما تقدمنا بمشروع قانون للإعلام نُوقش مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وكذلك مع الأمم المتحدة، تلقينا الثناء على مشروعنا، وعُد أحد المشاريع الإعلامية المتطورة في العالم العربي. الإعلام صناعة، ونحن نرغب في تحويله إلى صناعة صعبة تدخل في الدورة الاقتصادية للبلاد».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.