«غرام المبدعين»... عربيات وأجنبيات تركن آثارهن على السيرة والكتابة

أيمن الحكيم يكتب عن قصص حب معروفة وأخرى غامضة و«سرية»

يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش
يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش
TT

«غرام المبدعين»... عربيات وأجنبيات تركن آثارهن على السيرة والكتابة

يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش
يوسف إدريس - نجيب محفوظ - محمود درويش

يتناول الكاتب والناقد السينمائي أيمن الحكيم قصص حب غريبة و«مجنونة» في كتابه «غرام المبدعين... حكايات حب العشاق المجانين» الصادر حديثا عن مركز إنسان للدراسات والنشر والتوزيع بالقاهرة.
ما بين النجاح والفشل تتقلب هذه القصص التي خاضها عديد من الكتاب والشعراء المصريين والعرب مع نساء عربيات وأجنبيات، وشكلت جزءا من مسيرة حياتهم، وأثرت بشكل أو بآخر فيما قدموه من أعمال إبداعية، منها ما اشتهر واكتنفه الكثير من الغموض مثل قصة الشاعر الفلسطيني محمود درويش والفتاة اليهودية تامار باهي «ريتا»، التي ولدت لأب بولندي وأم روسية في حيفا عام 1943، وقصة روث المكسيكية ابنة فنان الجداريات المكسيكي الشهير دييجو ريفييرا التي تزوجها يوسف إدريس، ومنها ما عرف واستغربه البعض ورفضته عائلة طرف من أطراف العلاقة مثلما حدث في قصة زواج الشاعر المصري أمل دنقل بالكاتبة عبلة الرويني، والروائي إحسان عبد القدوس وزوجته لواحظ عبد المجيد المهيلمي «لولا».
أما الشاعر فاروق شوشة فقد رفض هو نفسه التقدم لطلب زوجته هالة الحديدي ما دام والدها على رأس الإذاعة المصرية، وانتظر حتى أحيل للتقاعد وعندما تقدم لها اشترط والدها أن يكون لقاؤه الأول مع شوشة في مكان محايد بعيداً عن بيته، فالتقاه في حديقة جروبي وسط القاهرة، وهناك اتفقا على كل شيء.
تضمن الكتاب 19 قصة وحكاية، كشفت جوانب من الحياة العاطفية لهؤلاء الكتاب والشعراء، ونظرة كل منهم إلى الآخر سواء كان امرأة أو رجلا، وقد روى بعض هذه الحكايات أصحابها بأنفسهم مثل الشاعر فاروق شوشة، والروائي جمال الغيطاني، والروائية هالة البدري، ورجاء الرفاعي زوجة الأديب يوسف إدريس، والشاعر إبراهيم داود، والكاتبة عبلة الرويني زوجة الشاعر أمل دنقل، وهناك قصص حكاها أبناء المبدعين مثل قصة إحسان عبد القدوس الذي تحدى والدته ملكة الصحافة في زمانها، وصاحبة مؤسسة روز اليوسف، وتزوج رغما عنها، وقد حكى الحكاية بتفاصيلها الكاتب الصحافي محمد عبد القدوس نجل إحسان.
وفي الكتاب أشار الحكيم إلى ما رشح عن تلك الحكايات والقصص من إبداعات، فكانت رواية «البيضاء» تجليا لعلاقة يوسف إدريس بامرأة أجنبية، البعض يقول إنها اليونانية الجميلة «ماريا بابادوبلو»، وآخرون يجزمون أنها نتجت عن قصة زواجه العجيبة من «روث» الفنانة المكسيكية وابنة الفنان العالمي «دييجوا ريفييرا» وقد وثقها الأديب إيمان يحيى في روايته «الزوجة المكسيكية»، أما الشاعر فاروق شوشة فقد كانت هالة الحديدي ملهمته خلال سنوات زواجه الأولى، وقد كانت حاضرة في قصائد ديوانه «لؤلؤة في القلب»، وهو الثالث في ترتيب دواوينه، واعتبره النقاد ديوانا استثنائيا، لأن قصائده كانت مليئة بالسعادة، والبهجة والحب وحب الحياة.
وعن بحثه في «الملف العاطفي لنجيب محفوظ» لم يعثر المؤلف أيمن الحكيم سوى على قصة غرام كبيرة وزيجة واحدة وبعص العلاقات السريعة والمؤقتة، فقد كان نجيب محفوظ حسب ما كان معروفا عنه «مستعداً لأن ينتزع قلبه من صدره إذا أحس أنه سيعطله عن الكتابة، وقرر طواعية أن يمنحها حياته كلها، ويضحي بمتع الحياة ومسراتها من أجلها، ومن هنا يمكن تفسير تأخره في الزواج حتى بعد سن الأربعين من عمره، وقد جاء زواجه مصادفة وبلا تخطيط، وتم في وقت ركود إبداعي، وفي ظرف وصفه هو بنفسه بأنه كان «غريباً وعجيباً».

ملهمات نجيب محفوظ

ويشير الحكيم إلى أن نجيب محفوظ حين كان يسكن وأهله في حي «العباسية» كان على موعد مع قصة حب حقيقية، وهي تجربة تركت أثرها في قلبه وفي رواياته، كانت الحبيبة جارة له وابنة عائلة ثرية، تسكن في «سرايا» لوالدها تقع في شارع «حسن عيد» الذي يربط بين شارعي العباسية و«الملكة نازلي»، كان أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة، في الثالثة عشرة من عمره، أما هي فكانت في العشرين، وكان وجهها «أشبه بلوحة «الجيوكندا»، لم تكن فتاة تقليدية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفاً آنذاك».
«وظل حبه لها قائماً وصامتا عاما كاملا حسب ما جاء في كتاب «نجيب محفوظ... صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» لرجاء النقاش»، وقد حالت الفوارق الطبقية والعمرية دون أن تكتمل العلاقة، التي كانت مجرد حب من طرف واحد، وهي التي جسدها محفوظ في روايته «قصر الشوق» وفي شخصية «عايدة شداد التي وقع «كمال عبد الجواد» في غرامها وسحرها، ولم يكن كمال عبد الجواد سوى نجيب محفوظ، ولم تكن «عايدة شداد» سوى حبيبته «فاتنة العباسية»، حسب قسم من النقاد.
وقد عاد نجيب محفوظ ليستلهم قصتها ويكتب عنها في «المرايا»، وسماها «صفاء» الفتاة الجميلة ذات العشرين ربيعاً التي تسكن «سرايا الكاتب»، والتي أحبها نجيب الصبي الصغير ابن الخامسة عشرة وملكت قلبه، وقد كان حبه لها حسب ما وصفه في الرواية بلا مواقع ولا مواقف ولا تاريخ يذكر، وقد اعترف نجيب محفوظ للأديب جمال الغيطاني أنه عاش مأساة وجدانية بعد أن فارقته هذه الفتاة، ولم ينس ليلة زفافها في قصر أبيها حيث حرص على أن يذهب ليراها لآخر مرة.

زواج سري

ظل لسنوات طويلة يهرب من الزواج ويعتبره خطراً على مستقبله الأدبي، أما كيف تزوج، فيذكر «الحكيم» أن القرار كان محسوبا وبمواصفات عقلية بحتة، وقد اختار زوجة مناسبة لظروفه وشخصيته ولمهمته الكبرى في الحياة، وقد اعترف لرجاء النقاش وهو يروي سيرته، قائلا «كنت في حاجة إلى زوجة تساعدني على الكتابة، تفهم أنني لست كائنا اجتماعيا، ولا أحب أن أزور أحداً أو يزورني أحد، وأنني وهبت حياتي كلها للأدب».
وفي الإسكندرية كان محفوظ على موعد مع مبتغاه وقد وجد ضالته في «عطية الله»، قابلها مصادفة، كانت صغيرة، ربما لم تبلغ بعد الثامنة عشرة من عمرها، رآها حين كان يزور صديق له، أعجبه هدوؤها ورزانتها ورجاحة عقلها، وبحساباته العقلية وجد فيها الزوجة التي يبحث عنها، وأدرك أنها فرصته الأخيرة للزوج، كانت العقبة الكبرى هي فارق العمر الكبير بينهما، كان يكبرها بنحو ربع قرن، لكنه فوجئ بموافقتها، وهكذا تزوج العازب الشهير من «عطية الله إبراهيم رزق» في العام 1954، ولم يستطع أن يخبر أمه بأمر زواجه، وكان الحل الوحيد هو أن يكون زواجه سريا، وأن يتكتم خبره حتى لا يتسرب لها، ولذلك لم يعرف به إلا إخوته.
وظل زواج محفوظ سريا، إلى أن انكشف بعد نحو عشر سنوات، وبمصادفة بحتة، فقد تشاجرت ابنته «أم كلثوم» في المدرسة الابتدائية مع زميلة لها، وقد كشفت المشاجرة عن هويتها، ووصل الخبر بالصدفة إلى الشاعر صلاح جاهين، وما هي إلا ساعات حتى كان الخبر يتصدر جلسات النميمة.

نساء درويش وقصائدهن

وفي الفصل الذي خصصه الحكيم للحديث عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ونسائه العابرات والساكنات في قلبه، جاءت اليهودية «تمارا باهي» الشهيرة بـ«ريتا» في صدارة المشهد، كانت تعمل راقصة، والتقى بها درويش لأول مرة، وهي في السادسة عشرة من عمرها، بعد انتهائها من الرقص، خلال حفل للحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان درويش أحد أعضائه، وقد ربط الحب بينهما، واستمرت علاقة درويش بها لفترة من الزمن، ولكن نشوب حرب يونيو (حزيران) 1967 عجل بالفراق بينهما بعد أن علم درويش أنها التحقت بسلاح البحرية الإسرائيلي.
ولم يظهر لدرويش قصائد تشير لعلاقته بريتا إلا في عام 1967، نعم أرسل لها الكثير من الخطابات العاطفية، لكن نصيبها من الشعر بدأ بقصيدة «ريتا والبندقية»، ثم قصائد «ريتا أحبيني»، و«تقاسيم على الماء» و«الحديقة النائمة»، وقد تكرر اسم ريتا في دواوين درويش «آخر الليل»، و«العصافير تموت في الجليل»، و«حبيبتي تنهض من نومها»، و«أحبك أو لا أحبك»، و«أعراس». كما ظهرت أيضاً في قصيدة «شتاء ريتا الطويل» بديوان «أحد عشر كوكباً» الذي صدر عن دار العودة في 1993، ولم يتوقف ظهور «ريتا» عند الإبداع الشعري لكنها ظلت تتردد أيضاً في أعمال درويش النثرية حتى رحيله.
حاول الحكيم خلال رحلته في حياة محمود درويش رصد ما قاله أصدقاؤه من حكايات وأسرار ظلت خافية حتى رحيله، وقد كانت أكثرها قوة وضجيجا ما كشفه الكاتب سليم بركات، حين تحدث عن وجود ابنة غير شرعية لدرويش من علاقة أو نزوة مع امرأة غامضة، كما تحدث الحكيم عن زواج درويش السريع من رنا قباني ابنة شقيق الشاعر السوري نزار قباني، والمصرية حياة الحيني التي وافقت بلا تردد على الزواج منه، وأحبته بصدق وأحبها درويش كذلك.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!