العظماء... والنساء

روسو يتوسل لزوجته أن تتركه ونيتشه لم تقبل به أي امرأة

تولستوي
تولستوي
TT

العظماء... والنساء

تولستوي
تولستوي

هناك مثل شائع يقول: وراء كل رجل عظيم امرأة. بمعنى أن كل مبدع أو قائد سياسي بحاجة إلى امرأة تسند ظهره وتلهمه لكي يستطيع أداء المهمة التي خلق من أجلها على أكمل وجه. ولكن علاقة الرجال العظام بالمرأة مختلفة باختلاف الشخصيات والطباع. فمنهم من كانت علاقته بزوجته جيدة جداً على طول الخط كشارل ديغول مثلاً. فلم يخنها أبداً طيلة حياته كلها، ولم يشرك بها أي امرأة أخرى. وهذا شيء رائع ونادر جداً لدى القادة الكبار. هذا هو المثال النموذجي الأخلاقي الأعلى في الحياة. ولكن من يستطيع تحقيقه؟ هيهات! ومنهم من كانت له عشيقات وخيانات لا تحصى ولا تعد من أمثال فيكتور هيغو وآخرين عديدين.
كونت... الحب الولهان
ومنهم من كانت حياته العاطفية مضطربة جداً كالفيلسوف أوغست كونت الذي لم يستقر في النهاية إلا على حب عذري أفلاطوني بالخالص. وإليه رفع أعظم الابتهالات وخالص التحيات... ومحبوبته العذراء البتول التي ماتت شابة في الثلاثين من عمرها لها تمثال صغير في باريس يقع على منتصف الطريق بين ساحة الباستيل وساحة شاتليه. وكثيراً ما توقفت أمامه متأملاً خاشعاً عندما كنت أمر من هناك. وكثيراً ما مررت. ومعلوم أنها كانت متدينة جداً، بل وحتى متنسكة صوفية. ما أعظمك يا رابعة العدوية! وقد فجعت بالحياة قبل أن تبدأ الحياة ولم تعرف الرجال. ومنهم من كان يتنقل باستمرار من امرأة إلى أخرى بحثاً عن المزيد من المتع الشهوانية، دون أن يستقر بالضرورة على واحدة بعينها. وهذه هي القاعدة في الأغلب الأعم عند المبدعين الكبار. إنهم يحبون التنويع والتجديد. من كل بستان زهرة. وهؤلاء أخطر الناس. أبعدنا الله عنهم وأجارنا منهم. ومنهم من لم تكن لهم أي علاقة بأي امرأة ككانط مثلاً: أكبر فيلسوف في تاريخ الغرب الحديث. وبالتالي فلا تنطبق عليه تلك العبارة الشهيرة: «لا فتوحات فكرية من دون فتوحات غرامية». ومنهم من قتله الحب أو جننه كالشاعر الألماني الكبير هولدرلين. ولم يكن يخطر على باله إطلاقاً أن يعشق امرأة غيرها رغم أنها كانت متزوجة. كان يعتبر ذلك كفراً أو جريمة بالمعنى الحرفي للكلمة. ولم يكن يريد منها شيئاً: فقط أن يلمحها عن بعد وهو عابر تحت البلكون حتى دون أن تدري... وهو بذلك يشبه شعراءنا العذريين الكبار من أمثال مجنون ليلى أو جميل بثينة أو ذي الرمة ومي، إلخ... (بين قوسين: شخصياً أعتبر الحب العذري أرقى أنواع الحب، وأعتبر الشعراء العذريين بمثابة ملائكة فوق مستوى البشر).
روسو... حياة مستحيلة
ومنهم من سمح لزوجته أن تتركه بعد أن ازدادت عليه الضغوط، وأصبحت لا تحتمل ولا تطاق. وأكبر مثال على ذلك جان جاك روسو. فبعد أن احمرت عليه الأعين من عدة جهات، وشعر بأنه دخل في الدائرة الحمراء للخطر، شرح لها حقيقة الوضع وخيرها بين البقاء معه أو تركه لكي تنجو بنفسها من خطر ماحق. وقال لها بأنه سيتكفل بنفقتها عن بعد. وأفهمها أن الحياة الطبيعية معه صارت من رابع المستحيلات، بعد أن أصبحت كتبه تمزق وتحرق في عدة عواصم أوروبية من باريس إلى جنيف إلى أمستردام... فقد اتهموه بالزندقة والإلحاد والخروج على «صحيح الدين». وبالتالي فإذا ما وصلوا إليه فسوف يحرقونه هو الآخر أيضاً، وسوف يمزقونه إرباً إرباً. ولكنه لم يتراجع ولم ينبطح أمام الإخوان الأصوليين رغم قوتهم وجبروتهم. في تلك اللحظات الحاسمة يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وتُعرف معادن الرجال. ويرى الكاتب الفرنسي أندريه موروا، أنه لا توجد قاعدة محددة بهذا الصدد. فرياح العبقرية قد تهب على الشخص المتزوج أو غير المتزوج. قد تهب على الشخص السعيد بزواجه، كما قد تهب على الأعزب أو على من لا يطيق زوجته أبداً.
تولستوي يهرب من جحيم زوجته
انظروا حالة تولستوي مثلاً. فالشجارات العنيفة بينه وبين زوجته صوفيا كانت متواصلة لاحقاً ومرعبة. نقول ذلك رغم أنهما تزوجا عن قصة حب كبيرة، وأقسما يميناً بالله على ألا يخونا بعضهما البعض طيلة الحياة. بل وأنجبت له المدام 13 طفلاً فقط! ولكنها اكتشفت لاحقاً أنه حبّل إحدى الفلاحات وأنجبت له طفلاً إضافياً أيضاً. (صاروا 14). ومعلوم أنه كان إقطاعياً أرستقراطياً كبيراً. ولكنه أراد التخلي عن كل ذلك لاحقاً لكي يعيش حياة الفلاحين الفقراء، بل وأراد توزيع معظم أملاكه عليهم. ولكن زوجته عارضته بشدة واحتدم الصراع. قالت له: هذه الثروة لعائلتك وأولادك وليست للآخرين. هل أصابك مسٌ من جنون؟ هل فقدت عقلك؟ أنت فعلاً مجنون. ولكن ما الفرق بين العبقرية والجنون؟ وهنا تكمن عظمة تولستوي، بالإضافة إلى كونه أديباً ضخماً. فنزعته الإنسانية كانت لا تضاهى. على أي حال لقد ساءت الأمور بينه وبين زوجته بعد السنوات الأولى وتدهورت وتفاقمت. وحل الزعيق والصراخ محل الوئام والانسجام. وقد وصل به الأمر إلى حد الهرب من البيت في أواخر أيامه والموت وحيداً على الطرقات والدروب... مات في محطة قطارات جنوب موسكو. لقد غادر المنزل بعد 50 سنة زواج مع صوفيا وهو في الثانية والثمانين من عمره. ما عاد يطيقها وما عادت تطيقه.
ولكن بشكل عام يمكن القول بأن العباقرة لا يتزوجون عادة. فديكارت لم يتزوج، وسبينوزا لم يتزوج، وقل الأمر ذاته عن فولتير وفلوبير وبودلير ورامبو ونيتشه وبيتهوفين وفان غوخ وعشرات غيرهم. هل يمكن أن تتخيلوا نيتشه متزوجاً أو رب عائلة؟ من رابع المستحيلات. لحسن الحظ فإن أي امرأة لم تقبل به، رغم كل محاولاته المتكررة والفاشلة. لماذا لا يتزوج هؤلاء المجانين المدعوون بالعباقرة؟ لأن العبقري بكل بساطة يتزوج عبقريته فقط. إنه مشغول بها إلى حد الهوس، إلى درجة أنه لا يستطيع أن يشرك بها شيئاً. إنه يعتقد أنه مكلف بمهمة في الحياة، وأن هذه المهمة أغلى عليه من روحه. وإذا ما خير في لحظة ما بين إبداعه وحياته الشخصية، فإنه سيضحي بالثانية دون تردد. (بين قوسين: العباقرة ليست لهم حياة شخصية ولا ينبغي أن تكون، خصوصاً في عصر الزلازل والاضطرابات الكبرى). وبالتالي فلا أحد ينصح المرأة بأن تتزوج من العباقرة أو القادة السياسيين الكبار المشغولين جداً برسالتهم، والذين قد يتعرضون للخطر الأعظم في أي لحظة. فالرجال العاديون الطبيعيون أفضل عادة للمرأة من العباقرة. ومع ذلك فإن هؤلاء هم الذين يجذبون النساء كثيراً لأن وهج الشهرة يعمي العيون.
ماركس: ليتني لم أتزوج
يبدو أن ماركس تأسف أكثر من مرة لأنه تزوج وأنجب. نقول ذلك رغم أنه تزوج عن قصة حب كبيرة وطويلة. وامرأته (جيني ماركس) كانت مثقفة رائعة ومن عائلة أرستقراطية عريقة. وكان متعلقاً بها جداً. ولكنه كان يقول ما معناه: من يريد أن يتنطح للقضايا الكبرى لا ينبغي أن يورط نفسه بعائلة وأولاد. حرام. خطأ كبير. فلو كان عازباً حراً لاستطاع مواجهة التحديات بقوة أكبر ولما خشي على عائلته من عواقب تصرفاته وانخراطاته ونضالاته. يضاف إلى ذلك أن تحمل نفقات العائلة ومسؤولياتها شيء مرهق فعلاً. يقال بأنه في بعض اللحظات ما كان قادراً على شراء علبة حليب صغيرة لطفلته الرضيعة. كان ذلك قبل أن يتعرف على إنغلز الذي أنقذه. ومعلوم أنه كان بلا عمل ولا مدخول طيلة حياته. ماركس كان عاطلاً عن العمل. من يصدق ذلك؟ كان أكبر «صعلوك متسكع» في أوروبا، كما وصفته الكاتبة الفرنسية المعروفة فرنسواز جيرو. وكانت تلاحقه كل أجهزة المخابرات دفعة واحدة. وفي الوقت ذاته كان عبقرياً ملأ الدنيا وشغل الناس. ولكنه عاش أياماً مرعبة وهو يرى عائلته تتخبط في البؤس على وشك المجاعة. عندئذ كفر بالحياة والحب والزواج، وقال بينه وبين نفسه: ليتني لم أتزوج قط. لماذا ورطت نفسي بكل هذه القصة؟ لماذا ورطتهم معي؟ ما ذنبهم؟ ولكن كل هذا لم يمنعه من أن يقيم علاقة مع الخادمة في ليلة ما فيها ضوء عندما كانت مدام ماركس غائبة عن البيت في زيارة لأهلها. بل أنجبت له ولداً غير شرعي مثلما فعل أستاذه ومعلمه هيغل مع مؤجرته. ولله في خلقه شؤون.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!