عقبات قانونية وخلافات سياسية تهدد الانتخابات الليبية

وسط مخاوف من الانزلاق مجدداً إلى حافة حرب أهلية

عقبات قانونية وخلافات سياسية تهدد الانتخابات الليبية
TT

عقبات قانونية وخلافات سياسية تهدد الانتخابات الليبية

عقبات قانونية وخلافات سياسية تهدد الانتخابات الليبية

يعترض الغموض بمستقبل العملية السياسية في ليبيا، على الرغم من اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقرر أن تُجرى يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. إذ بينما يعلّق الشعب الليبي آماله على صناديق الاقتراع؛ رغبة في أن تخرج البلاد من نفق الفوضى الأمنية والسياسية الذي تعيش فيه منذ أكثر من عشر سنوات، تبدو الصورة على الأرض قليلة الوضوح في ظل انقسامات وخلافات سياسية حول المرشحين، وطعون قانونية التي قد تمنع بعض المرشحين من المنافسة. ويتزامن هذا الحال مع أوضاع أمنية غير مستقرة تنذر بمزيد من الفوضى، وتلقي بظلال مقلقة على العملية السياسية ككل، وتهدد بتأجيل الانتخابات؛ ما يهدّد بزج ليبيا مرة أخرى في مستنقع الحرب الأهلية.
تشير التقارير اليومية الواردة من المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا إلى جاهزية ليبيا للانتخابات من الناحية النظرية؛ إذ اعتمدت المفوضية القائمة الأولية للمرشحين للانتخابات الرئاسية، التي تضمنت 73 مرشحاً، بينما بلغ إجمالي عدد المُرشحين لانتخابات مجلس النواب في كل الدوائر الانتخابية 3173 مُرشحاً ومُرشحة، وفقاً لإحصائية الثلاثاء 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد وزعت المفوضية بطاقات الاقتراع على الناخبين، وباشرت تلقي وفحص الطعون الانتخابية، وسط تأكيدات بأن «البلاد مستعدة لإجراء الانتخابات في موعدها».
لكن على الأرض تبدو الصورة مختلفة وغامضة؛ ما دفع ويرفع كثرة من المراقبين إلى توقع تأجيل الانتخابات، من منطلق أن الأوضاع السياسية والأمنية غير مواتية لإتمام العملية السياسية بالصورة المرجوة. كذلك يرى بعض هؤلاء، أن ليبيا «تسير في حقل ألغام قد ينفجر في أي لحظة»، وبذا تعود البلاد إلى المربع صفر في ظل انقسامات سياسية حادة حول المرشحين للانتخابات الرئاسية، وتوترات أمنية وعراقيل قانونية.
- مخاوف مُبرّرة
وحقاً، يبدو أن لهذه المخاوف ما يبرّرها، وأن ثمة من يؤيدها في مستويات عليا داخل أروقة المؤسسات الدولية؛ ذلك أنه قبل شهر من إجراء الانتخابات المرتقبة استقال مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا يان كوبيش، من منصبه بشكل مفاجئ، وقُبلت استقالته ليسري مفعولها رسمياً من 10 ديسمبر الحالي.
وبالتزامن مع الاستقالة، قال كوبيش – وهو سياسي ودبلوماسي سلوفاكي – في إحاطته أمام مجلس الأمن في الرابع والعشرين من نوفمبر الماضي، إن «المناخ السياسي في ليبيا حول الانتخابات لا يزال شديد الاستقطاب»، ومن ثم حذّر من أن «يؤدي تأخير الانتخابات عن موعدها إلى مزيد من الانقسام والصراع داخل ليبيا».
هذه الاستقالة وصفها مراقبون بأنها «مفاجئة»، ونقلت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية عن توماس هيل، الخبير في شؤون شمال أفريقيا بـ«المعهد الأميركي للسلام» قوله، إن «المجتمع الدولي يدفع بكل قوته لإجراء الانتخابات الليبية في موعدها. إلا أن استقالة كوبيش الآن تشير إلى أن الأمور لا تسير كما هو مأمول، وأن هناك مشاكل في الكواليس».
ثم أنه، حسب مراقبين متابعين، فإن الانتخابات التي طال انتظارها تواجه جملة تحديات، أبرزها الخلافات حول قانون الانتخابات نفسه، والنزاعات المتكرّرة بين الفصائل والجماعات المسلحة، والشقاق الكبير بين الشرق والغرب، إضافة إلى انتشار الجنود المرتزقة والسلاح في البلاد.
- عقبات قانونية وطعون انتخابية
واقع الأمر، أن الانتخابات المزمعة في ليبيا تواجه معارضة داخلية من بعض الفئات على أسس قانونية، تشكك في شرعية القوانين الانتخابية الصادرة عن مجلس النواب؛ وهو ما يهدد برفض قبول نتائج الانتخابات بعد إعلانها. ويأتي ذلك وسط خلافات واضحة وطعون ضد بعض المرشحين الأساسيين، على رأسهم رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، الذي سحب اسمه من قائمة المرشحين الأولية بناءً على طعن من منافسه في منطقة الغرب الليبي فتحي باشاغا؛ بحجة أن رئيس الحكومة لم يقدّم ما يفيد بتوقّفه عن العمل قبل 3 أشهر من تاريخ الانتخابات، كما تنصّ المادة 12 من قانون الانتخابات. إلا أن محكمة الاستئناف في العاصمة الليبية طرابلس أعادت الدبيبة إلى السباق. ومن جهة ثانية، منع مسلحون محكمة سبها – كبرى مدن الجنوب – من الانعقاد أكثر من مرة لنظر الطعن المقدّم من سيف الإسلام القذافي، ضد استبعاده من الترشح. ثم إنه جرى استبعاد خليفة حفتر قائد «الجيش الوطني الليبي» من قائمة المرشحين.
العقبات القانونية التي تواجه العملية الانتخابية ليست جديدة، فهي وفق مراقبين يتابعونها ويُلمّون بخلفياتها ظهرت منذ بداية الإعداد للعملية السياسية في ليبيا. وهنا يقول عبد الهادي ربيع، الباحث المتخصّص في الشأن الليبي، في تصريح أدلى به لـ«الشرق الأوسط»، إن «العملية الانتخابية واجهت منذ بدايتها العديد من العراقيل وتنازع الاختصاصات، خاصة في مسألة القاعدة التشريعية والقانونية للانتخابات. حيث يدّعي كل طرف لا شرعية القاعدة القانونية للانتخابات، ويهدد باستخدام السلاح للانقلاب على الانتخابات حال فوز مرشح من خارج تياره السياسي». ثم يضيف قائلاً «مع أن القوانين الانتخابية المنظمة للعملية الانتخابية كانت الحل الوحيد للوصول إلى الانتخابات في موعدها المحدد، إلا أنها جاءت مليئة بالثغرات القانونية وبأخطاء فادحة في الصياغة؛ ما زاد من حدة الاحتقان والصراعات عوضاً عن حلها. فهي فعلياً فتحت باب الطعون في العملية الانتخابية بكاملها، وهو ما يهدّد بتكرار تجربة انقلاب فجر ليبيا عام 2014 على الانتخابات النيابية، وإعادة النظر في العملية الانتخابية برُمّتها».
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قانون الانتخابات يثير خلافات داخل المجتمع الليبي؛ فهو وفق المراقبين «لا يحظى بدعم الجميع»؛ إذ ينصّ على إدارة البلاد وفقاً لنظام رئاسي يعتبر كثيرون أنه يمنح الرئيس سلطة كاملة في حين يبقى البرلمان ضعيفاً.
- شبح الحرب الأهلية
هذا، وبينما قد يوحي زيادة عدد المرشحين في الانتخابات الليبية، وإقبال المواطنين على الحصول على بطاقات الاقتراع، إلى تطلع الشعب الليبي لإجراء الانتخابات، فإن الأوضاع الأمنية السيئة تُعد أحد التهديدات الرئيسة التي تواجه العملية الانتخابية. إذ يخشى كثيرون من تحوّل الخلافات السياسية إلى نزاعات مسلحة. وللعلم، يقول كوبيش نفسه، إنه «مع اقتراب الانتخابات، ثمة مخاوف من أن تتحوّل الانقسامات السياسية والمؤسساتية الراسخة إلى مواجهة تغذيها المواقف المتشددة والخطاب التحريضي».
ومن جانبهم، يعترف السياسيون في ليبيا بأن الظروف الأمنية غير مواتية لإجراء الانتخابات، وإن كانوا في الوقت نفسه يشدّدون على ضرورة إجرائها في موعدها باعتبارها «القنطرة الوحيدة للعبور من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار»، كما قال الدكتور محمد عامر العباني، عضو مجلس النواب الليبي، لـ«الشرق الأوسط». وتابع العباني، أن «ليبيا نجحت من قبل عام 2014 في إجراء انتخابات نيابية في ظروف أمنية أكثر سوءاً»، مشدداً على أنها «الآن مستعدة لإجراء الانتخابات في موعدها».
ولكن في المقابل، المخاوف من سقوط البلاد مرة أخرى في دائرة الحرب الأهلية ليست بعيدة عن توقعات المراقبين للأوضاع على الأرض، وهو ما يؤكده الباحث السابق في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» بين فيشمان، في مقاله المنشور نهاية الشهر الماضي، تحت عنوان «انتخابات ديسمبر في ليبيا تطرح خطر العودة إلى الحرب الأهلية».
فيشمان يرى، أن على «ليبيا التي قطعت شوطاً طويلاً منذ إنهاء حربها الأهلية الثالثة في منتصف عام 2020 ألا تخاطر باستئناف العنف أو تقسيم البلاد من خلال إجراء انتخابات مستعجلة. ونظراً للجو المشحون بالانقسامات وإلى احتمال اندلاع أعمال عنف كبيرة، من الحكمة إرجاء الانتخابات لفترة محددة إلى حين حلّ العديد من القضايا المهمة». وحقاً، دفعت الأوضاع الأمنية «الهشة» في ليبيا وزير الداخلية خالد مازن، إلى التلميح بإمكانية تأجيل الانتخابات، عندما قال، إن «اتساع الانتهاكات الأمنية في الأيام الأخيرة، بات يعرقل عملية تأمين ويهدد سلامة واستمرار العملية الانتخابية في البلاد».
- تأجيل الانتخابات
الراغبون في تأجيل الانتخابات يستندون في مطالبهم إلى «غياب» المرشح التوافقي، مقابل وجود أسماء على قائمة المرشحين قد تؤدي إلى انقسامات حادة داخل ليبيا، منهم سيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس معمر القذافي، الذي ثار الشعب ضده في عام 2011. ويعتقد مراقبون، أن «قبول ترشح القذافي قد يدفع البعض لمقاطعة الانتخابات، كما أن رفض ترشحيه قد يدفع مؤيديه إلى حمل السلاح». يضاف إلى ذلك، وجود لاعبين بارزين على الساحة السياسية الليبية بين المرشحين، مثل خليفة حفتر وعبد الحميد الدبيبة، وهو ما يراه البعض «نذير خطر قد يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف في البلاد».
وهنا يقول ريتشارد سبنسر، في مقال نشرته صحيفة «التايمز» البريطانية، إن «نوعية المرشحين» واحدة من العوامل المنذرة بالخطر. إذ كتب في نوفمبر الماضي تحت عنوان «الانتخابات الرئاسية الليبية: اختيار بائس لمرشحين يدعمون الفوضى»، قائلاً «مساعي مجموعة يُتهم أفرادها بالفاسدين والمجرمين الباحثين عن السلطة، قد تدفع ليبيا التي مزّقتها الحرب إلى منعطف درامي في مسيرتها نحو تحقيق الاستقرار والسلام».
أيضاً، يرى المطالبون بتأجيل الانتخابات ضرورة الاتفاق على أساسيات العملية السياسية، وتسلسلها، وقواعد الترشح قبل الشروع في تنفيذها... وأن تكون هذه القواعد نابعة من الشعب الليبي نفسه وليست مفروضة عليه من الخارج. وهنا يعلّق عبد الهادي ربيع بأن «المسار السياسي الحالي لم يكن خيار الليبيين، بل كان خيار الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الذي أقرّ ذلك في مخرجات مؤتمر برلين بشأن ليبيا، ولم يكن السياسيين الليبيين ليقبلوا بهذا المسار ما لم يجبرهم عليه المجتمع الدولي». ثم يتابع، أن «هذا المسار يبدو أنه الأنجح ظاهرياً، حيث أمكن توحيد الكثير من المؤسسات، وجرى حل مسألة تنازع الشرعية بشكل كبير، إلا أن إغفال ملفات دقيقة وحساسة كإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية وحل الميليشيات ونزع سلاحها زاد من تأجّج الجمر تحت الرماد؛ إذ يهدد انتشار السلاح في البلاد بنسف أي تقدم سياسي في ليبيا، والعودة إلى مربع الصراعات».
وفعلاً، تعد قضية المرتزقة من أهم التحديات التي تواجه ليبيا، حيث اجتمعت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في جنيف بسويسرا يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ووضعت خطة عمل لانسحاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب بشكل متوازن ومرحلي وتدريجي، ونُشرت أول مجموعة من مراقبي وقف إطلاق النار التابعين الأمم المتحدة في 10 أكتوبر الماضي، ومع ذلك «ما زالت هذه القضية مثيرة للقلق داخل ليبيا وخارجها». وفي إحاطته أمام مجلس الأمن، شدد الطاهر السني، مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة، على «ضرورة الاستجابة لمطلب الشعب الليبي السيادي، والمتمثل في إنهاء أي نوع من أنواع الوجود الأجنبي على الأراضي الليبية». وعلى الجانب الآخر، يرفض أنصار الانتخابات تأجيلها، ويؤكدون، أن «مخاطر التأجيل أكبر بكثير من مخاطر الاستمرار في العملية السياسية». وتبعاً للعباني، فإن «الانتخابات عرس يتمناه الليبيون، وتأجيلها ليس بالأمر السهل؛ كون المجتمع الدولي يضغط لإجرائها في موعدها... تنفيذ الاستحقاقات الانتخابية تم بروية وتأنٍ، ودعوات التأجيل لن يكون لها محل على أرض الواقع».
- دعم المجتمع الدولي
الانتخابات المقررة في نهاية الشهر الحالي تأتي نتيجة للتسوية السياسية التي قادتها الأمم المتحدة في فبراير (شباط) الماضي، وتضمنت وقف إطلاق النار، كما وضعت برنامجاً زمنياً للعملية السياسية الضامنة إجراء انتخابات. لكن «الاتفاق لم يتطرق إلى التفاصيل المتعلقة بصلاحيات المرشحين وأهليتهم، وشروط ترشحهم»، وهنا يقول سبنسر، إن «إلغاء الانتخابات، قد يؤدي إلى عودة العنف، بيد أن رفض المرشحين قبول النتيجة، وهو أمر غير مستبعد بالنظر إلى جيوشهم الخاصة ودعم المرتزقة الأجانب المتنافسين، يمكن أن يؤدي إلى سيناريو أسوأ». وهو ما يوافق رأي كوبيش بأن «الإحجام عن إجراء الانتخابات قد يؤدي إلى تدهور خطير للوضع في البلاد، كما يمكن أن يفضي إلى مزيد من الانقسام والصراع».
ربيع من جهته يتوقع أن «يدفع المجتمع الدولي لإجراء العملية الانتخابية في موعدها، لكن أطرافاً عديدة ستنقلب على النتيجة». ولذا؛ يرى أن «الأهم من إجراء الانتخابات في موعدها هو إجبار الجميع على القبول بنتيجتها. ولكن أحداً لا يملك ذلك، خاصة مع بوادر الانقسام والصراعات التي بدت بين أجهزة وزارة الداخلية في العديد من المناطق والصراع مع القوات المسلحة أو الاجتماعية في هذه المناطق». وبالفعل بدأ المجتمع الدولي يحذر من التداعيات الأمنية والسياسية على الانتخابات الليبية. وقال السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، في تغريدة على «تويتر»، إن واشنطن تشارك الليبيين والمجتمع الدولي مخاوفهم، مطالباً «بالعمل على تهدئة الأوضاع واحترام العملية الانتخابية والقانونية في ليبيا، ورفض السماح للجماعات المسلحة بتهديد الانتخابات».
وبالتزامن مع الكلام الأميركي، بحثت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في ليبيا مع سفير الاتحاد الأوروبي في ليبيا خوسيه ساباديل، والمبعوث الأممي إلى ليبيا يان كوبيتش، سبل دعم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة... وجرى التأكيد على استمرار الدعم الدولي لإجراء الانتخابات في موعدها، وحماية نزاهتها.
أخيراً، يترقب المجتمع الدولي ما ستسفر عنه الأيام المقبلة، بينما يتابع العديد من المحللين المهتمين بالشأن الليبي الأوضاع في صمت. ويعتبر هؤلاء، أنه يستحيل التنبؤ بما ستسفر عنه الأيام المقبلة، وما إذا كانت ليبيا ستنجح في إتمام العملية السياسية والتقدم نحو مستقبل أكثر استقراراً عبر انتخابات يتوافق على نتيجتها الشعب الليبي، أم أن الانقسامات السياسية والتوترات الأمنية ستؤدي إلى تأجيل الانتخابات. كذلك، إزاء ما سيعنيه رفض تقبّل النتائج، وما إذا كان سيخلق حالة من الفوضى الأمنية والاضطراب السياسي.
- الطريق المُتعِبة إلى الانتخابات المتعثرة
> تُعدّ العملية السياسية الحالية التي ستكلل بانتخابات رئاسية وبرلمانية محاولة لإعادة صياغة البنية السياسية والمؤسساتية لليبيا، وإنهاء نزاعاتها المتعددة، والتي تفاقمت خلال السنوات الماضية مع اندلاع الصراع الجهوي بين منطقتي الشرق (برقة) والغرب (طرابلس)، والذي جاءت التسوية السياسية الحالية لوضع حد له، ولرسم المخطط الزمني للعملية السياسية الحالية لا بد أن نعود سنوات للوراء لندرك خلفياتها.
وكما هو معروف، أجج تشكيل حكومة «الوفاق الوطني» في ديسمبر (كانون الأول) 2015 الصراع بين الشرق بقيادة فايز السراج، والغرب بقيادة خليفة حفتر، وبخاصة أن برلمان الشرق لم يعترف بحكومة السراج. وعلى مدار عامي 2017 و2018، تواصلت اجتماعات باريس في العاصمة الفرنسية للوصول إلى تسوية سياسية بين الشرق والغرب، لكنها لم تنجح في وضع حد لهذا الصراع الدموي.
الاختراق المأمول حدث في الخامس من فبراير (شباط) 2021، وتمت الموافقة على تشكيل مجلس رئاسي وحكومة موحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وفي الشهر التالي، حصلت حكومة الدبيبة على ثقة البرلمان من أجل قيادة ليبيا في مرحلة انتقالية حتى إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وفي يونيو (حزيران) 2021 عقد «مؤتمر برلين 2» للتحضير للانتخابات واستكمال العملية السياسية. وبعد شهر، اجتمع مجلس الأمن لبحث الأزمة الليبية والمساعدة في الوصول إلى حل بشأن القضايا الخلافية التي تعرقل استكمال المسار السياسي. ثم في أكتوبر (تشرين الأول) صادق مجلس النواب الليبي على قانون الانتخابات التشريعية. وخلال 21 من الشهر الفائت استضافت باريس مؤتمراً لتقديم الدعم للانتخابات الليبية، مع العلم أن موعد الانتخابات الرئاسية هو 24 ديسمبر الحالي، والانتخابات التشريعية في يناير (كانون الثاني) المقبل.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.