بعد مشروع «البوصلة الاستراتيجية» الذي طرحه مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في الاجتماع الوزراء الأوروبي يوم 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي يُراد منه تحديد وتعيين الأولويات الاستراتيجية للاتحاد في ملفي الأمن والدفاع لمواجهة «المخاطر متعددة الأوجه»، التي تحيق بالنادي الأوروبي، جاء، أول من أمس، زمن التحرك لمواجهة التغلغل الصيني عبر العالم، خصوصاً في الدول الفقيرة، وعلى رأسها أفريقيا.
الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة يُعتبر أن «التهديدات تأتي من كل مكان من الأرض والبر والبحر وهي محدثة ومجددة على السواء». ولذا، كان على أوروبا أن تتحرك. ومما ترى أن عليها القيام به هو إيجاد الوسائل والإمكانيات الضرورية لمواجهة أحد أشكاله الأكثر إلحاحاً، وعنوانه نجاح الصين في العقدين الأخيرين في أن تحل محل القوى الأوروبية المستعمرة سابقاً في العدد من مناطق العالم، وأولها أفريقيا.
وبما أن الصين تُعدّ «المنافس الاستراتيجي والمنهجي الأول» للغرب، وبما أنها تستخدم مشروعها الضخم «طرق الحرير الجديدة» لتعزيز حضورها عبر المشروعات متنوعة الأشكال التي تنفذها لوصل اقتصادها براً وبحراً بأسواق العالم، فإن الأوروبيين يعتبرون أنه حان الوقت ليطرحوا مشروعهم البديل.
من هنا، الخطة التي طرحتها، أول من أمس، رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين، وسمتها «غلوبال غايتواي». ومما فُهم من الوثيقة المقدمة ومما عرضته فان دير لاين لاحقاً، فإن مشروعها يقوم على توفير ما لا يقل عن 300 مليار يورو لفترة زمنية تمتد من 2022 إلى 2027، للاستثمار في القطاعات الاستراتيجية الرقمية والصحية والمناخية والطاقة والنقل، إلى جانب التعليم والأبحاث التي تشكل الأولويات الأوروبية. إما مصادر التمويل، فإنها ستأتي من القطاع العام، أي من موارد الاتحاد والدول الأعضاء الـ27 والمؤسسات المالية الأوروبية ومؤسسات التنمية الوطنية، وكذلك استثمارات القطاع الخاص، كما ورد في بيان صادر عن المفوضية.
يُراد للمشروع الأوروبي أن يكون بديلاً عن الاستراتيجية الصينية، وأن يوفر رداً على الدينامية الصينية، بحيث يختلف عنها من زوايا كثيرة، لجهة مراعاة مبدأ الشافية والابتعاد عن الفساد واعتماد الشفافية والإدارة الحكيمة واحترام البيئة. ويأخذ الأوروبيون على الصين استخدامها القروض والمساعدات المالية لأغراض سياسية، بمعنى مصادرة القرار السياسي للدول التي تتعامل معها بكين عبر توفير القروض واستخدام المديونية وسيلة للتأثير على قراراتها. وكما كانت ورقة الدخول الأوروبية إلى الدول الفقيرة، خصوصاً في أفريقيا، عنوانها التعامل مع دولة لا ماضٍ استعماريّاً لها في أفريقيا، ولا شروط تضعها على الأطراف المتعاملة معها، فإن الأوروبيين يطرحون اليوم أنفسهم على أنهم البديل عن الأداء الصيني، كما برز في العقدين الأخيرين، وبشكل أوضح منذ إطلاق خطة «الطريق والحزام»، التي تقول عنها إنها صرفت لأجلها 140 مليار دولار.
ليس سراً أن الغربيين يرون في الصين «منافساً استراتيجياً» على جميع الصعد السياسية والعسكرية والجيوسياسية والصحية والفضائية... ومنذ أن انطلقت أزمة «كوفيد - 19»، وجد الغربيون أنفسهم «رهائن» أيدي صينية، إن لجهة توفير الكمامات أو أجهزة التنفس الاصطناعي والأدوية. واليوم، تعاني الصناعات الغربية من نقص المكونات الإلكترونية التي تأتيها أساسا من الصين. من هنا، الجهود التي يخطط لها الاتحاد الأوروبي لاستعادة سيادته الصحية، إضافة إلى الأمنية والدفاعية. وخلال قمة السبع شهر يونيو (حزيران) الماضي في بريطانيا، أقر المؤتمرون وبينهم أربع دول أوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا)، خطة لمواجهة التغلغل الصيني اقتصادياً وتجارياً، فإن خطة الاتحاد الأوروبي تندرج في هذا السياق.
وعبر هذه الخطة، تسعى أوروبا لتعزيز موقعها على المسرح الدولي سياسياً واقتصادياً وتجارياً. وينظر الأوروبيون بكثير من القلق إلى استخدام بكين العواصم التي تتعامل معها، ليس فقط كسوق تجارية أو كمصدر للمواد الأولية التي تحتاج إليها صناعاتها، بل كأطراف مكسوبة الولاء لدعم تغلغلها في الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها.
وهكذا، فإن الصين تدير حاليا أربع منظمات دولية، هي: «الفاو» و«الغذاء والزراعة» و«منظمة الطيران المدني (إياتا)»، و«منظمة التنمية الدولية والمنظمة الدولية للاتصالات». وتُعدّ الصين حالياً الشريك الاقتصادي الأول لأفريقيا. ووفق دراسة أفريقية صدرت حديثاً، فإن النظرة الأفريقية الإجمالية للصين «إيجابية»، بخلاف ما عليه النظرة إلى الدول المستعمرة السابقة. وتجدر الإشارة إلى أن دكار، عاصمة السنغال استضافت مؤخراً «منتدى التعاون الصيني - الأفريقي»، الذي غرضه تعزيز المبادلات، فيما نتيجته الأخرى زيادة النفوذ الصيني في القارة السوداء.
يبقى أن المشروع الأوروبي سيحتاج لكثير من الجهد والوقت، ليتحول إلى واقع إذ يتعين بداية تحقيق توافق داخلي حول كيفية تكوين رأس المال المقدر بـ300 مليارات دولار، وكيفية توزيعه بين دول الاتحاد من جهة، ووفق أي آلية، وبين القطاعين العام والخاص. والصعوبة الثانية تكمن في معرفة ما إذا كانت المشروعات التي سينوي الاتحاد تنفيذها ستتم تحت راية الاتحاد الأوروبي، أم أن كل طرف يختار ما يريد السير به من مشروعات.
وبانتظار أن تحل جميع هذه المسائل، وباعتبار أن الماكينة البيروقراطية الأوروبية بطيئة للغاية، فليس من المستبعد أن يمر وقت طويل قبل أن يظهر إلى الوجود أول مشروع أوروبي ملموس.
الأوروبيون يرصدون 300 مليار يورو لمواجهة الصين... خصوصاً في أفريقيا
الأوروبيون يرصدون 300 مليار يورو لمواجهة الصين... خصوصاً في أفريقيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة