وجوه غاليليو المتعددة

جوانب في شخصيته غطى عليها علمه

وجوه غاليليو المتعددة
TT

وجوه غاليليو المتعددة

وجوه غاليليو المتعددة

إن الحديث عن العالم المشاكس غاليليو غاليلي، المشهور بمجابهته للكنيسة، يأخذنا مباشرة إلى مخاض القرن السابع عشر، قرن الانعطافة في الزمن الحديث، حيث تبلورت ثورة علمية هائلة خطت للبشرية درباً جديداً في رؤية العالم، رؤية عملت على تكريس المحايث على حساب المفارق، وتفسير العالم من خلال العالم نفسه، إلى الحد الذي يمكن معه الزعم أن منطلق العلمنة الحقيقي كان مرجله الأكبر هو هذا القرن المتميز جداً.
هنا بالضبط يأتي مجهود الكاتب محمد كزو الذي ألف مؤخراً كتاباً بعنوان كبير: «عقيدة الحقيقتين»، وعنوان فرعي: «أقنعة جاليليو جاليلي تنكشف في رسالة للدوقة كريستينا»، عن دار «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن 2021، حيث وقف ليس فقط عند شخصية غاليلو العالم المعروفة للجميع، بل ركز أيضاً على جوانب في الغالب تغفل من إبداعات غاليلو من قبيل كونه أديباً ولاهوتياً.
قرأ الكاتب محمد كزو عمل غاليلو من خلال رسالته الشهيرة التي وجهها إلى الدوقة كرستينا، محاولاً كشف ما سماه أقنعته الأخرى، إذ بين أن العموم لا يعرفون سوى وجهه الفلكي والفيزيائي، فهو من دافع عن الكوبيرنيكية، واجتهد في إبراز أن الأرض تدور مادياً، وليس افتراضاً مفيداً من أجل ضبط الحسابات. كما أنه اكتشف أقمار المشتري، مبرزاً أنها تدور حوله، وليس حول الأرض، مما يعني لا مركزية الأرض، عكس الفكرة المزعومة عن ثباتها في قلب الكون التي تجذرت عبر تاريخ الفلك منذ تكريسها بصفتها قناعة مع أرسطو.
لكن لغاليلو -حسب الكاتب- جوانب أخرى لا تعطى الأهمية الكافية، وأبرزها بلاغته الفاتنة التي لا تخطئها العين، والتي وظفها من أجل إقناع الناس بوجاهة طرحه الجديد. ويزداد الأمر إثارة حينما يلجأ إلى سخريته اللاذعة الشبيهة بتلك التي كان يلجأ إليها فولتير فيما بعد.
ويقف الكاتب عند أهم قناع عند غاليلو اضطر إلى لبسه في مواجهة تهمة الهرطقة، حينما تم إحراجه بكون فكرة دوران الأرض تنافي ما جاء في الكتاب المقدس، وهو قناع اللاهوتي الذي سمح له بالتوفيق بين مركزية الشمس والنص الديني عن طريق التأويل، متوجاً حجاجه بالقول بالحقيقتين: الحقيقة الدنيوية الكمية والحقيقة الغيبية الأخروية، أو لنقل بتعبير الكاتب نفسه: «الكتاب المقدس حقيقة، ومستجدات الطبيعة حقيقة»، ولا تعارض بينهما. وهنا، سيعيد غاليلو عبارة شهيرة تقول: «إن الكتاب المقدس يعلمنا كيف نذهب إلى السماء، ولا يعلمنا كيف هي السماء». وكم في هذا القول من رشدية واضحة، فالنسخة اللاتينية كرست فكرة الحقيقتين لمنافسة أفكار الكنيسة في القرون الوسطى. لكن بالطبع مع فرق في السياق بين غاليلو وابن رشد.
ولا يكتفي الكاتب محمد كزو في مؤلفه بكشف الغطاء عن الأوجه المقنعة لدى غاليليو، بل طرح سؤال راهنية البحث في أعمال غاليليو في عالمنا العربي الإسلامي، منبهاً إلى أنه «عبارة عن أفق مسعف يمكن الاستئناس به لمعالجة ضيق مَن لا يزال غارقاً في حرفية النص الديني»، تلك الحرفية التي -على حد قوله- تجفف وتفقر وتختزل المعاني الواسعة، بل يضيف الكاتب فكرة أخرى استقاها من مجهودات غاليليو اللاهوتية التي مفادها أن المد العلماني اللائكي بدأ تشكله الفعلي في أوروبا الحديثة في التربة العلمية، قبل أن يمس الجوانب الأخرى من القطاعات: سياسية وأخلاقية وفنية. وهو الأمر الذي يفرض علينا ربما إعادة قراءة الحداثة من خلال العودة إلى الثورة العلمية الطارئة في القرن السابع عشر.



«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية
TT

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

«التسامح في الإمارات»... الأبعاد والجذور التاريخية

فضاءات ومحاور بحث معمق، متخصصة في عوالم التعايش والتناغم المتأصلة والمؤتلِقة ضمن مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة، يناقشها ويقاربها كتاب «التسامح في الإمارات... سيرة جديدة وضّاءة للأخوة الإنسانية (شهادات وقصص بطلها الآخر)»، للصحافي والباحث السوري رفعت إسماعيل بوعساف، الصادر، أخيراً، عن دار «ميتافيرس برس» للنشر. ويعرض المؤلِّف أبرز شواهد تآلف وتقارب حضارات وأديان وثقافات، موضحاً أهم المقومات التي امتازت بها وعلى رأسها: تجذّر التواصل والانفتاح في المجتمع، وتمسك قادة الإمارات بالقيم الإنسانية، وسماحة أهلها واتسامهم بالوسطية والاعتدال، والمشروعات والمبادرات النوعية الكفيلة بترسيخ التسامح محلياً وعالمياً (مثل: وثيقة الأخوة الإنسانية، وبيت العائلة الإبراهيمية، ووزارة التسامح، والمعهد الدولي للتسامح، والأعمال والمبادرات الخيرية المتنوعة).

يتضمن الكتاب، الواقع في 411 صفحة، على أربعة أبواب رئيسية، وخاتمة تضم مقترحات وتوصيات. وتناقش فصوله جوانب كثيرة شاملة يُجمل فيها بوعساف، وعبر سير مشاهداته ومعايشاته في الإمارات طوال أكثر من 20 عاماً، وكذا في ضوء خلاصات أبحاثه الخاصة بالدراسة، مصادر وينابيع جدارة وتميز مجتمع الإمارات في مدارات التّسامح، مبيناً في مستهلّ إضاءاته الأبعاد والجذور التاريخية لحكاية التسامح في هذه الأرض، في المحطات والأزمان كافّة، طبقاً لأسانيد وتدوينات تاريخية جليّة، فأهلها لطالما تميزوا بكونهم يحتفون بالآخر المختلف عنهم ويرحبون به ولا يرفضونه أو يعزلون أنفسهم عنه، وهكذا ضمّوا وحضنوا بين ظهرانيهم أفراداً من أعراق ومذاهب شتّى بقوا يبادلونهم الحب ويتأثرون ويؤثّرون بهم، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ويستعرض المؤلف عقبها، حقائق فاعلية وإثمار مساعي وبرامج دولة الإمارات العربية المتحدة، الرامية إلى تعزيز التقارب بين الأديان وأطياف الإنسانية... وكذا إطفاء ألهبة أزمات الهُويات، واستئصال أسباب الصراعات المذهبية وقطع دابر التعصب. ثم يدرس ويحلل ماهيات أعمدة وتجليات التسامح والتعايش في ميادين الحياة بالإمارات: المجتمعية والصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية والإعلامية. ويقدم، أيضاً، جملة شهادات وإشادات لأبرز السياسيين ورجالات الدين والبحاثة والكتّاب الأجانب حول ثراء الإمارات بقيم الانفتاح والتعايش والتواصل، ومنهم: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤولون أمريكيون، ونجم الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا، والروائي البرازيلي باولو كويلو، ونجم بوليوود شاروخان، وعالم النفس والباحث الكندي البروفسور إدوارد دينر. كما يُفرد الكتاب محطات موسَّعة لشرح طبيعة وقيمة حصاد جهود الدولة ومبادراتها ورؤى قادتها، الضامنة تمكين وتقوية هياكل ومرتكزات التسامح والتآخي الإنساني في مجتمع الإمارات والعالم أجمع، التي تكللها أعمال ومشروعات عمل خيري وإنساني ترصد لها الإمارات ميزانيات ضخمة، تطول أصقاع الأرض قاطبةً ولا تميز فيها بين دين أو إثنية أو طائفة.

ويحفل الباب الرابع في الكتاب، الموسوم «حوارات وسيمفونية»، بحوارات وأحاديث مع رجال دين ومسؤولين ومثقفين وأطباء وإعلاميين ومهندسين ومبدعين، بعضهم يقيم في الدولة منذ أكثر من 60 عاماً، يروون فيها حقائق ومواقف كثيرة، بشأن التسامح وواقع انفتاح المجتمع وقبوله الآخر المختلف ورسوخ التعايش والمحبة فيه. وتضم قائمة هؤلاء المحاورين: أحمد الحَدَّاد، مفتي دبي وعضو «مجلس الإمارات للإفتاء»، وبول هيندر، أسقف الكنيسة الكاثوليكية في جنوب شبه الجزيرة العربية (2004-2022م)، وراجو شروف، رئيس معبد «سندي غورو دربار» الهندوسي، وحمّود الحناوي، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في سوريا، وسوريندر سينغ كاندهاري، رئيس معبد «غورو ناناك دربار السيخي»، وعشيش بروا، مسؤول «المركز الاجتماعي البوذي» في الشارقة، وإيان فيرسرفيس، الشريك المؤسس ورئيس تحرير «موتيڤيت ميديا غروب»، وزليخة داود، أول طبيبة نسائية في الإمارات (1964م)، وبيتر هارادين، الرئيس السابق لـ«مجلس العمل السويسري»، وراميش شوكلا، أحد أقدم المصورين في الإمارات.