لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟

كتاب معروفون أعطوا أعمالهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنيتها

الطيب صالح
الطيب صالح
TT

لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟

الطيب صالح
الطيب صالح

تحظى الرواية اليوم بمكانة خاصة بين الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة، وتتعدد أسباب امتلاك الرواية هذه الحظوة بيد أن تلك الأسباب بالمجموع لا تتعدى مسائل التلقي التي فيها تُلبي الرواية رغبات القراء في فهم العصر وفهم متغيرات ظروفه. ولو كانت الرواية معقدة اللغة ومركبة البناء وكانت منطوية على رؤى فلسفية جامدة وعويصة لتعسرت قراءتها، ولكان حالها حال أي مادة علمية أو فكرية تلقى اهتماماً من لدن المتخصصين حسب.
ولا خلاف في أن شمولية الرواية في رصدها الواقع بكل ما فيه من صور وممارسات وكذلك تلاؤمية لغتها وأسلوبها لمختلف الأذواق والمستويات، قد جعلتاها تقف على رأس الهرم القرائي الذي قوامه أجناس الأدب الأخرى بكل ما فيها من أنواع وأنماط وأشكال وصيغ.
وكلما كانت الرواية يسيرة وممتنعة، بدت أكثر نجاحاً من غيرها، ملبية ما يريده القراء منها، أياً كانت درجات اليسر وطبيعة التمنع. ولقد طغى سوق الرواية طغياناً واضحاً وازداد الإقبال عليها وكثُر عدد كتابها الموصوفين بأنهم روائيون. وقد يبدو هذا الازدياد في إنتاج الرواية تأليفاً ونشراً أمراً طبيعياً. وإذا ما علمنا أن غالبية المنتج الروائي يتسم بإطار واقعي، فإننا سنفهم سبب اللااكتراث لدى عدد من روائيينا العرب بتجريب أساليب جديدة في الكتابة السردية تخرق النسقية الحداثية، بل إن الغالب عليهم هو الاكتراث بمسايرة المعتاد السردي بلا تجريب ولا ابتداع، باستثناء الكتاب الذين يضعون تطلعاتهم الفنية في كفٍ، ورغباتهم الموضوعية في كف أخرى موازنين بين الفن والموضوع واضعين الشكل إزاء المضمون.
ومن مؤشرات عدم الاكتراث بفنية الرواية العربية الراهنة الاعتقاد بأنه كلما ازداد عدد صفحاتها، ظُن أن لها مستوى يؤكد ما بذله كاتبها من جهدٍ ومشقة في تأليفها. وقد لا نخالف جادة الصواب إذا قلنا إن عدداً من كتابنا المعروفين انهمكوا في إعطاء رواياتهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنية ما تعكسه تلك الحجوم. فغالباً لا تتوفر فيها النوعية الفنية المميزة، وإنما هو حشو وتطويل لا يُراد منه سوى التباهي، وكأن قيمة الأشياء تكمن في ظاهرها الخارجي، وليس في نوعية ما تحويه داخلها من جمال.
عَن لي هذا الموضوع عندما أُحيلت إلي دراسة للتقييم من إحدى المجلات الأكاديمية التابعة لجامعة عربية عريقة، وكانت المادة المبحوثة رواية عربية معاصرة وصاحبها ما انفك النقد العربي يُغني رواياته بالدراسة والاهتمام أكثر من سواه. وكان الوقت المحدد لي ضيقاً والرواية موضوع البحث من بين الروايات التي لم أقرأها للكاتب، وحين حصلتُ عليها فاجأني كُبر حجمها بالقياس إلى المدة المحددة لي لإنجاز مهمة تقويم الرواية. فوجدتني أستغرق في قراءتها أكثر مما استغرق مني تقييم الدراسة النقدية نفسها. ليس ذلك حسب، بل هو ما اكتشفته من الحشو والإطالة والإغراق الذي ما كان لهذا الروائي أن يقع فيه لو أنه تقصد ترشيق جمله السردية، فجعل روايته في مائتي صفحة بدل أن تكون في خمسمائة إلا نيفاً من الصفحات.
ولعل هذا الترهل في الرواية مقصود كطريق به يُغالط الروائي نفسه ما بين التماس مع موضوع سياسي، وبين النأي عن أن يكون في موضع اتخاذ قرار يوصله إلى الاحتكاك أو التصادم مع المنظومة الثقافية التي لها الفضل أصلاً في التعريف باسمه والترويج لأعماله الروائية. ولعل كثيرين سقطوا في هذه القصدية فكانوا في دوامة التباري من الذين فهموا اللعبة الروائية، وظنوا أن قيمة الرواية هي في مدى تمطيط كاتبها الموضوع مطاً ليستطيل من دون أن يكون وراء الاستطالة أي جدوى أو ضرورة فنيتين.
ومن مؤكدات هذا التباري في التطويل، أننا لم نعد نُصادف رواية عربية عدد صفحاتها يقل عن مائة أو حتى مائتي صفحة، وكأن هناك عدوى استشرت بين الروائيين العرب وجعلتهم يرون أن من تقاليد الرواية أن تكثر صفحاتها، فتتعدى المائتين، وبغض النظر عن طبيعة الموضوعات والأساليب التي يطرقونها.
لو أمعنا النظر في الرواية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وقبيل نهايته - أي قبل أن تستشري حمى المسابقات الأدبية - لوجدنا أن الغالب عليها حجومها التي تناسب مقتضيات محتواها الموضوعي ومتطلبات بنائها الفني، خذ مثلاً روايات نجيب محفوظ كـ«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» و«ثرثرة فوق النيل»... إلخ، وروايات الطيب صالح، منها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، وروايات إسماعيل فهد إسماعيل مثل «كانت السماء زرقاء»، وروايات جمال الغيطاني وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم ممن تقع صفحات رواياتهم بين 150 إلى 300 صفحة، وهي مساحة كافية لكي يلعب فيها الروائي الحاذق مبتغياً الوصول إلى غاياته من دون إثقال مغالٍ ولا تحشيدٍ مسرف.
وما كان للروايات الكلاسيكية العالمية أن تكون بحجوم قياسية تتجاوز مئات الصفحات مثل رواية «الحرب والسلم» لتولستوي، و«الإخوة كرامازوف» لديستويفيسكي، وكذلك روايات كُتبت في القرن العشرين كـ«الدون الهادئ» لشولوخوف، لولا أن القارئ آنذاك ما كان يضايقه طول الرواية، بل كان يجد في قراءة مئات الصفحات سلوى له في وقت متسع لا وسائل تجذب وعيه فتلهيه عن التلقي المعرفي والمتعة الفنية، مما يجده القارئ اليوم الذي هو مشتت ومشغول في ظل الإنترنت، ومحاط ومحاصر بمختلف الوسائط الرقمية المتيسرة بالعموم والمتاحة والقريبة من واقعه المادي.
وليس من أمرٍ على الروائي أن يضعه في باله مثل أمر أن يؤلف رواية بها يجذب القراء، ويستقطب اهتمامهم، من خلال عدم ادخار أي جهد في سبيل ترشيق روايته ترشيقاً به تتمكن من أن تنافس ما في عالم الإنترنت من وسائط رقمية وتطبيقات حاسوبية صارت تنافس الأدب - هذا إذا كان الروائي واضعاً في حسابه القراء مطوعاً خبراته كي يظفر بأكبر قدر منهم - ومن المهم اليوم لكتاب الرواية التفكير في أيسر السبل وأرشقها، فلا يستغرقون استغراقاً ينفر القراء من أعمالهم بدل أن يجذبهم إليها.
ولا خلاف أننا في تأكيدنا خطر الترهل في الكتابة الروائية لا ندعو إلى تخطي العفوية في الكتابة، ولا إلى التعسف جوراً على الفن وتضييقاً في الموضوع، إنما نسعى إلى مراعاة الاختصار في الكتابة، وعدم إرهاق الصفحة الواحدة بعشرات الأسطر التي يمكن اختزالها في سطرين اثنين، إن لم نقل في جملتين اثنتين فقط. إذ ليس في صالح الروائي أن تبدو روايته مترهلة بفكرة محدودة وفنية متواضعة فتكون كمثل «من يحضر دجاجة ويطبخها في قزان ما» ـــ والوصف لأحمد خالد توفيق في كتابه «توتيات من العصور الوسطى، 2013» (منقول بتحوير). فتخرج الرواية للقراء مترهلة بأربعمائة أو خمسمائة صفحة أو أكثر، وقد حُشيت سطورها حشواً وحُشدت صفحاتها تحشيداً، وبغلواء لا ترحم القراء ولا تراعي صبرهم في القراءة.
ولقد نأى الروائيون الكبار بأنفسهم عن الترهل، فعرفوا كيف يرشقون رواياتهم فتظهر للقراء مكتنزة وقد أخذ بعضها بأعطاف بعض، ولاءمت أشكالها طبيعة محتوياتها، فهذا إيتالو كالفينو يقول: «لست روائياً من أصحاب الروايات المطولة، إنني أركز على فكرة أو تجربة داخل نص توليفي قصير» (روايته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» ترجمة حسام إبراهيم، 2013. ص 5).
ولسنا نغفل أمر «النوفيلا» بوصفها نوعاً سردياً يُمكن للكاتب أن يعالج عبره موضوعاً من الموضوعات الواقعية بطريقة مناسبة لا تطويل فيها... لكن الرواية تظل متقدمة على النوفيلا بقالبها الأجناسي العابر للحدود. وهو ما يجعل التحبيك الروائي يتم بإيقاعية أكثر تعقيداً مما هو في النوفيلا أو في غيرها من الأنواع السردية.
ولا خلاف في أن الحشو والإغراق مسلكان من مسالك إخفاء العيوب والمداراة على ما لدى الكاتب من إمكانات متواضعة من ناحيتي الخبرة والموهبة. من هنا تغدو القصة القصيرة بقالبها السردي المختزل هي الأكثر قدرة على غربلة المواهب وكشف الحقيقي منها عن الطارئ بعكس الرواية التي ضاعت جمالياتها في المغالبة المحمومة في حشو صفحاتها تغطية على العيوب والنواقص والتفافاً على الرسالة المراد توصيلها إلى القارئ. وما تأشيري على هذه الظاهرة سوى توكيد لحقيقة أن مستقبل الأجناس السردية سيكون لصالح القصة القصيرة كجنس به تعرف إمكانيات الكاتب عدة وعتاداً حتى لا مجال معها للتزويغ الكتابي والتداري الخفي فلا يضيع النوع بالكم، ولا تتحدد القيمة بالحجم.
وإذا كانت قيمة الرواية الجمالية لا تتحدد بعدد صفحاتها، فإن من الأهمية بمكان ترشيق الرواية ترشيقاً تتجلى فيه قيمتها الحقيقية. وكثير من الروايات التي لا يشك أحد في قيمتها الفنية كانت رشيقة، وما زالت رشاقتها إلى اليوم تجلب لها نجاحاً فنياً لافتاً للنظر، خُذ مثلاً رواية «صخب البحر» لفوكنر، ورواية «المسخ» لكافكا، ورواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد، ورواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، ورواية «صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!