لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟

كتاب معروفون أعطوا أعمالهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنيتها

الطيب صالح
الطيب صالح
TT

لماذا تغيب «الرواية الرشيقة» في الكتابة الروائية العربية؟

الطيب صالح
الطيب صالح

تحظى الرواية اليوم بمكانة خاصة بين الأجناس الأدبية كالقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة، وتتعدد أسباب امتلاك الرواية هذه الحظوة بيد أن تلك الأسباب بالمجموع لا تتعدى مسائل التلقي التي فيها تُلبي الرواية رغبات القراء في فهم العصر وفهم متغيرات ظروفه. ولو كانت الرواية معقدة اللغة ومركبة البناء وكانت منطوية على رؤى فلسفية جامدة وعويصة لتعسرت قراءتها، ولكان حالها حال أي مادة علمية أو فكرية تلقى اهتماماً من لدن المتخصصين حسب.
ولا خلاف في أن شمولية الرواية في رصدها الواقع بكل ما فيه من صور وممارسات وكذلك تلاؤمية لغتها وأسلوبها لمختلف الأذواق والمستويات، قد جعلتاها تقف على رأس الهرم القرائي الذي قوامه أجناس الأدب الأخرى بكل ما فيها من أنواع وأنماط وأشكال وصيغ.
وكلما كانت الرواية يسيرة وممتنعة، بدت أكثر نجاحاً من غيرها، ملبية ما يريده القراء منها، أياً كانت درجات اليسر وطبيعة التمنع. ولقد طغى سوق الرواية طغياناً واضحاً وازداد الإقبال عليها وكثُر عدد كتابها الموصوفين بأنهم روائيون. وقد يبدو هذا الازدياد في إنتاج الرواية تأليفاً ونشراً أمراً طبيعياً. وإذا ما علمنا أن غالبية المنتج الروائي يتسم بإطار واقعي، فإننا سنفهم سبب اللااكتراث لدى عدد من روائيينا العرب بتجريب أساليب جديدة في الكتابة السردية تخرق النسقية الحداثية، بل إن الغالب عليهم هو الاكتراث بمسايرة المعتاد السردي بلا تجريب ولا ابتداع، باستثناء الكتاب الذين يضعون تطلعاتهم الفنية في كفٍ، ورغباتهم الموضوعية في كف أخرى موازنين بين الفن والموضوع واضعين الشكل إزاء المضمون.
ومن مؤشرات عدم الاكتراث بفنية الرواية العربية الراهنة الاعتقاد بأنه كلما ازداد عدد صفحاتها، ظُن أن لها مستوى يؤكد ما بذله كاتبها من جهدٍ ومشقة في تأليفها. وقد لا نخالف جادة الصواب إذا قلنا إن عدداً من كتابنا المعروفين انهمكوا في إعطاء رواياتهم حجوماً كبيرة أكثر من انهماكهم في فنية ما تعكسه تلك الحجوم. فغالباً لا تتوفر فيها النوعية الفنية المميزة، وإنما هو حشو وتطويل لا يُراد منه سوى التباهي، وكأن قيمة الأشياء تكمن في ظاهرها الخارجي، وليس في نوعية ما تحويه داخلها من جمال.
عَن لي هذا الموضوع عندما أُحيلت إلي دراسة للتقييم من إحدى المجلات الأكاديمية التابعة لجامعة عربية عريقة، وكانت المادة المبحوثة رواية عربية معاصرة وصاحبها ما انفك النقد العربي يُغني رواياته بالدراسة والاهتمام أكثر من سواه. وكان الوقت المحدد لي ضيقاً والرواية موضوع البحث من بين الروايات التي لم أقرأها للكاتب، وحين حصلتُ عليها فاجأني كُبر حجمها بالقياس إلى المدة المحددة لي لإنجاز مهمة تقويم الرواية. فوجدتني أستغرق في قراءتها أكثر مما استغرق مني تقييم الدراسة النقدية نفسها. ليس ذلك حسب، بل هو ما اكتشفته من الحشو والإطالة والإغراق الذي ما كان لهذا الروائي أن يقع فيه لو أنه تقصد ترشيق جمله السردية، فجعل روايته في مائتي صفحة بدل أن تكون في خمسمائة إلا نيفاً من الصفحات.
ولعل هذا الترهل في الرواية مقصود كطريق به يُغالط الروائي نفسه ما بين التماس مع موضوع سياسي، وبين النأي عن أن يكون في موضع اتخاذ قرار يوصله إلى الاحتكاك أو التصادم مع المنظومة الثقافية التي لها الفضل أصلاً في التعريف باسمه والترويج لأعماله الروائية. ولعل كثيرين سقطوا في هذه القصدية فكانوا في دوامة التباري من الذين فهموا اللعبة الروائية، وظنوا أن قيمة الرواية هي في مدى تمطيط كاتبها الموضوع مطاً ليستطيل من دون أن يكون وراء الاستطالة أي جدوى أو ضرورة فنيتين.
ومن مؤكدات هذا التباري في التطويل، أننا لم نعد نُصادف رواية عربية عدد صفحاتها يقل عن مائة أو حتى مائتي صفحة، وكأن هناك عدوى استشرت بين الروائيين العرب وجعلتهم يرون أن من تقاليد الرواية أن تكثر صفحاتها، فتتعدى المائتين، وبغض النظر عن طبيعة الموضوعات والأساليب التي يطرقونها.
لو أمعنا النظر في الرواية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وقبيل نهايته - أي قبل أن تستشري حمى المسابقات الأدبية - لوجدنا أن الغالب عليها حجومها التي تناسب مقتضيات محتواها الموضوعي ومتطلبات بنائها الفني، خذ مثلاً روايات نجيب محفوظ كـ«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» و«ثرثرة فوق النيل»... إلخ، وروايات الطيب صالح، منها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، وروايات إسماعيل فهد إسماعيل مثل «كانت السماء زرقاء»، وروايات جمال الغيطاني وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم ممن تقع صفحات رواياتهم بين 150 إلى 300 صفحة، وهي مساحة كافية لكي يلعب فيها الروائي الحاذق مبتغياً الوصول إلى غاياته من دون إثقال مغالٍ ولا تحشيدٍ مسرف.
وما كان للروايات الكلاسيكية العالمية أن تكون بحجوم قياسية تتجاوز مئات الصفحات مثل رواية «الحرب والسلم» لتولستوي، و«الإخوة كرامازوف» لديستويفيسكي، وكذلك روايات كُتبت في القرن العشرين كـ«الدون الهادئ» لشولوخوف، لولا أن القارئ آنذاك ما كان يضايقه طول الرواية، بل كان يجد في قراءة مئات الصفحات سلوى له في وقت متسع لا وسائل تجذب وعيه فتلهيه عن التلقي المعرفي والمتعة الفنية، مما يجده القارئ اليوم الذي هو مشتت ومشغول في ظل الإنترنت، ومحاط ومحاصر بمختلف الوسائط الرقمية المتيسرة بالعموم والمتاحة والقريبة من واقعه المادي.
وليس من أمرٍ على الروائي أن يضعه في باله مثل أمر أن يؤلف رواية بها يجذب القراء، ويستقطب اهتمامهم، من خلال عدم ادخار أي جهد في سبيل ترشيق روايته ترشيقاً به تتمكن من أن تنافس ما في عالم الإنترنت من وسائط رقمية وتطبيقات حاسوبية صارت تنافس الأدب - هذا إذا كان الروائي واضعاً في حسابه القراء مطوعاً خبراته كي يظفر بأكبر قدر منهم - ومن المهم اليوم لكتاب الرواية التفكير في أيسر السبل وأرشقها، فلا يستغرقون استغراقاً ينفر القراء من أعمالهم بدل أن يجذبهم إليها.
ولا خلاف أننا في تأكيدنا خطر الترهل في الكتابة الروائية لا ندعو إلى تخطي العفوية في الكتابة، ولا إلى التعسف جوراً على الفن وتضييقاً في الموضوع، إنما نسعى إلى مراعاة الاختصار في الكتابة، وعدم إرهاق الصفحة الواحدة بعشرات الأسطر التي يمكن اختزالها في سطرين اثنين، إن لم نقل في جملتين اثنتين فقط. إذ ليس في صالح الروائي أن تبدو روايته مترهلة بفكرة محدودة وفنية متواضعة فتكون كمثل «من يحضر دجاجة ويطبخها في قزان ما» ـــ والوصف لأحمد خالد توفيق في كتابه «توتيات من العصور الوسطى، 2013» (منقول بتحوير). فتخرج الرواية للقراء مترهلة بأربعمائة أو خمسمائة صفحة أو أكثر، وقد حُشيت سطورها حشواً وحُشدت صفحاتها تحشيداً، وبغلواء لا ترحم القراء ولا تراعي صبرهم في القراءة.
ولقد نأى الروائيون الكبار بأنفسهم عن الترهل، فعرفوا كيف يرشقون رواياتهم فتظهر للقراء مكتنزة وقد أخذ بعضها بأعطاف بعض، ولاءمت أشكالها طبيعة محتوياتها، فهذا إيتالو كالفينو يقول: «لست روائياً من أصحاب الروايات المطولة، إنني أركز على فكرة أو تجربة داخل نص توليفي قصير» (روايته «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» ترجمة حسام إبراهيم، 2013. ص 5).
ولسنا نغفل أمر «النوفيلا» بوصفها نوعاً سردياً يُمكن للكاتب أن يعالج عبره موضوعاً من الموضوعات الواقعية بطريقة مناسبة لا تطويل فيها... لكن الرواية تظل متقدمة على النوفيلا بقالبها الأجناسي العابر للحدود. وهو ما يجعل التحبيك الروائي يتم بإيقاعية أكثر تعقيداً مما هو في النوفيلا أو في غيرها من الأنواع السردية.
ولا خلاف في أن الحشو والإغراق مسلكان من مسالك إخفاء العيوب والمداراة على ما لدى الكاتب من إمكانات متواضعة من ناحيتي الخبرة والموهبة. من هنا تغدو القصة القصيرة بقالبها السردي المختزل هي الأكثر قدرة على غربلة المواهب وكشف الحقيقي منها عن الطارئ بعكس الرواية التي ضاعت جمالياتها في المغالبة المحمومة في حشو صفحاتها تغطية على العيوب والنواقص والتفافاً على الرسالة المراد توصيلها إلى القارئ. وما تأشيري على هذه الظاهرة سوى توكيد لحقيقة أن مستقبل الأجناس السردية سيكون لصالح القصة القصيرة كجنس به تعرف إمكانيات الكاتب عدة وعتاداً حتى لا مجال معها للتزويغ الكتابي والتداري الخفي فلا يضيع النوع بالكم، ولا تتحدد القيمة بالحجم.
وإذا كانت قيمة الرواية الجمالية لا تتحدد بعدد صفحاتها، فإن من الأهمية بمكان ترشيق الرواية ترشيقاً تتجلى فيه قيمتها الحقيقية. وكثير من الروايات التي لا يشك أحد في قيمتها الفنية كانت رشيقة، وما زالت رشاقتها إلى اليوم تجلب لها نجاحاً فنياً لافتاً للنظر، خُذ مثلاً رواية «صخب البحر» لفوكنر، ورواية «المسخ» لكافكا، ورواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد، ورواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، ورواية «صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.