مراكز التسوق تحارب للبقاء بالابتكار في التصاميم والأفكار

في الثمانينات من القرن الماضي، كانت معظم عمليات التسوق، إن لم نقل كلها تجري في المجمعات والمتاجر المترامية في شوارع الموضة العالمية. لكن في العقد الأخير تراجع قوة جذب هذه المراكز والمجمعات لصالح التسوق الإلكتروني؛ ما فتح الباب أمام بعض المتشائمين بالقول، إن التسوق الفعلي آيل إلى النهاية. سارع أصحاب المتاجر للبحث عن حلول تُنقذ ما يمكن إنقاذه، لكن لم تكن الرياح في صالحهم. فقد جاءت جائحة كورونا لتُعزز أهمية التسوق من البيت بعيداً عن الازدحام وأي تقارب جسدي، لتتوالى الإفلاسات والإغلاقات بحيث لم يستطع الصمود سوى الكبار ممن لهم إمكانات عالية تساعدهم على تجاوز سنوات عجاف. وبقدر ما كانت الجائحة قاتلة أو مُقلقة، كانت أيضاً محفزة للتفكير في حلول تُنقذ هذه المراكز والمحال الإسمنتية من الانقراض تماماً. أهم هذه الحلول كانت بجعلها منطقة جذب اجتماعية وترفيهية في الوقت ذاته حتى تنافس التسوق الإلكتروني بمنح تجربة لا يمكن الحصول عليها في عزلة عن الناس. تقرير نشرته شركة «ماكنزي» لأبحاث السوق، أفادت بأن أهم نقطة تم استغلالها في هذا الصدد كانت حاجة المستهلك إلى فضاءات مفتوحة تزينها أشجار ونباتات. وأشارت الدراسة إلى أن العديد من الشباب الذين يسكنون في شقق صغيرة باتوا يتوقون إلى الانعتاق من العزلة التي تفرضها المساحات المُغلقة من جهة وجائحة كورونا من جهة ثانية. وهكذا، رغم عملية التسوق بضغطة زر من البيت، ورغم كمية الخيارات والأسعار التي يُوفرها مقارنة بالتسوق الفعلي، فإن هذا الأخير له ميزة ما يسميه خبراء التسوق «متعة التجربة التي تستعمل فيها كل الحواس».
تجدر الإشارة إلى أن العملية ليست وليدة عام 2020، بل بدأت منذ بضع سنوات، حين انتبهت العديد من بيوت الأزياء والمحال الكبيرة إلى أن التسوق بمفهومه القديم لم يعد مجارياً للعصر وجيل الشباب. لهذا؛ كان لا بد من الابتكار في التصميم والديكورات والأفكار بتحويل المباني الإسمنتية من وظيفية وعملية إلى ترفيهية واجتماعية أيضاً، إما بخلق فضاءات استراحة وفرجة وإنترنت كما هو الحال في محل «بيربري بريجنت ستريت» أو بإضافة مقاهٍ وفضاءات لإقامة حفلات صغيرة كما هو الحال في «ماتشز» بكارلوس ستريت وسط لندن، وغيرها من المحال الكبيرة. كل هذا من دون أن ينسوا دور وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها «تيك توك» الذي اجتاح عالم الموضة حالياً وفرض نفسه كوسيلة إعلانية شبابية. في الأسبوع الماضي أخذت قرية «بيستر» أو «بيستر فيلاج» وهو الاسم الذي تشتهر به، مفهوم الفرجة والترفيه إلى مستوى جديد، حيث استضافت ولمدة ثلاثة أيام الثنائي «بارلو آند بير» لتقديم وصلات غنائية مستوحاة من سلسلة «بريدجتون». وكانت أبيغايل بارلو وإيميلي بير، قد حولتا حبهما للسلسلة التلفزيونية إلى أغانٍ عبر «تيك توك» تداولها الملايين في غضون أيام؛ الأمر الذي ساهم في شهرتهما وترشيحهما لجائزة «غراميز».
استضافة «بيستر فيلاج» لهما لم يأت من فراغ. فهما كفيلتان بجذب شريحة الشباب من جهة ويصبان في رؤية اللبنانية ديزيريه بولييه التي ترأس «فاليو ريتايل» التي تنضوي تحتها قرى تسوق عالمية عدة. فمنذ أكثر من 20 عاماً عندما أنيطت بها مهمة قيادة المجموعة، وضعت نصب أعينها أن تُحول ما بدا كرحلة بحث عن سلع من مواسم ماضية بأسعار مخفضة إلى تجربة ممتعة تجمع التسوق بشتى الفنون. وحسب قولها في لقاء سابق مع «الشرق الأوسط»، كانت نيتها أن «تزاوج الموضة بالسياحة وفي الوقت ذاته تجعلها مركز تسوق من المستوى الرفيع الذي يمكن أن يزوره شخص عادي أو شخصية بأهمية سلطان بروناي». الجواب عما إذا كانت قد حققت هدفها، يمكن التوصل إليه بسهولة وبمجرد وصول الزائر إلى «بيستر فيلاج» هذه الأيام. لن يخطر بباله أن المنتجات المطروحة أمامه هي من مواسم ماضية بقدر ما سيشعر بأنه في شارع بطول الشانزليزيه يختزل له كل ما تشتهيه النفس من منتجات ومفاهيم تسوق عصرية بما فيها الاستدامة. والأجمل أنه سيُشعره بقيمته كزبون إذا عرف كيف يستفيد من الخدمات المُقترحة، بدءاً من حجز الشقة الفخمة مسبقاً أو حجز كل الأزياء والإكسسوارات التي تروق له عبر الإنترنت ليجدها في انتظاره في غرفة مخصصة للاستراحة. يمكنه أيضاً الاستعانة بمتسوق شخصي باللغة التي يُتقنها، من دون تكاليف وما شابه من تسهيلات وإغراءات من شأنها أن تغذي غرور أو حاجة أي متسوق للمساعدة. وبهذا يمكنه أن يستغل يومه بشكل أفضل ومن دون تعب.
وهذا ما يؤكد أن ديزيريه بولييه نجحت في مهمتها وأصبح بإمكان هذه القرى الآن القول وبكل ثقة، أنها نفضت عنها صورة «الآوتليت» تماماً وجددت نفسها لتواكب العصر ومتطلباته. هذه الرسالة تُريدها أن تصل إلى مسامع الزبون العربي بوجه خاص. فهو أملهم في الخروج من أزمة «كورونا»، كون هذه القرى مثل غيرها من مجمعات ومراكز التسوق العالمية والمحال الإسمنتية، عانت من الجائحة. قرية بيستر مثلاً أغلقت أبوابها لأكثر من عام ونصف العام تقريباً بعد أن أعفت كل المحال المتواجدة فيها، وعددها 160 تقريباً، من الإيجار. لم تدب فيها الحركة إلا في 12 من شهر أبريل (نيسان) الماضي، لتنتعش في شهر يوليو (تموز) بفضل الزبون العربي الذي عوّض عن الزبون الصيني، لا سيما من المملكة السعودية والكويت؛ كونه أول من تم الإفراج عنه من الحجر الصحي وفُتحت أمامه أبواب السفر بعد الانتقال من القائمة الحمراء إلى القائمة الصفراء. وهناك أمل كبير في أن تزيد أعدادهم بعد أن خففت بريطانيا قيودها فيما يخص السماح لمن تلقوا لقاح «سينوفارم» بالولوج إليها بعد أن كانوا ممنوعين من ذلك.
أهم ما في الرسالة التي يُريد المسؤولون إيصالها إلى زبونهم، أن القرية الصغيرة نفضت عنها صورة أنها وجهة للمنتجات المخفضة وبأنها الآن وجهة رفاهية وترفيه في الوقت ذاته، توفر للزائر كل متطلباته. جذب الجيل الجديد أيضاً من الأولويات؛ لهذا فهناك تشجيع واضح للموضة المستدامة، بكل ما تعنيه من خامات رحيمة بالبيئة أو إعادة تدوير وتأجير، وهو ما يدخل في صُلب كينونتها حتى قبل أن تُصبح الاستدامة موضة العصر.