«خارج السرب» يتفحص وجوهاً مصرية عن قرب

يرفض المبدع النمطية، فيخلق لنفسه شكلاً جديداً ينفرد به دون غيره، انطلاقاً من أن الإبداع محوره الرئيس هو الفكر الأصيل. وفي تجربة فنية جديدة ولافتة جاء معرض الفنان التشكيلي المصري، الزعيم أحمد، بأتيليه العرب للثقافة والفنون (غاليري ضي) نموذجاً معبراً عن كيف يمكن للفنان التحليق خارج السرب حين يختار أن يكون له نهج خاص وبصمة مختلفة.
تتميز أعمال الزعيم بالتكوين المغاير على المستويات الإنسانية والفكرية والفنية على حد السواء، لا سيما في هذا المعرض الذي جاء عنوانه «خارج السرب» مجسداً لمحتواه، ويقول الزعيم لـ«الشرق الأوسط»: «أهتم دوماً بالخروج عن الإطار المحدد للفنان، وفي معرضي الحالي سعيت لكسر الحدود من حيث الأفكار والتناول معاً، فنحن معتادون في الغالب أن نسير في قوالب ثابتة ونتبع أشياء بعينها، وقد حاولت التمرد على ذلك كله، ولم يكن الأمر سهلاً، لكن بعد أن انتهيت كانت سعادتي لا تُوصف لأنني اكتشفت أن كل عمل هو في حد ذاته (خروج عن السرب)».
في البداية يجد المتلقي نفسه مدفوعاً إلى تجاوز القراءة الدرامية للأعمال التي تصل إلى 35 لوحة زيتية و13 عملاً نحتياً ليحلل القالب الذي قدمه لنا الفنان فيكتشف إلى أي مدى استطاع أن يحقق استقراراً شكلياً جديداً يخلع على العناصر الإحساس بالتغيير والاختلاف، ما يقود المتلقي إلى الغوص في أفكاره.
ورغم أن اللوحات تعكس احتفاءً شديداً بالشخوص غير المعتادة، فقد تحولت إلى علامة من علامات فنه لا تخطئها العين، على غرار بعض الرواد والمعاصرين أمثال حامد عويس وعبد الهادي الجزار ونذير الطنبولي حيث يتحول الشخص في كل عمل إلى قالب تشكيلي يمثل فكرة وكتلة وطاقة تعبيرية مغايرة تحتفظ بقوة «الشخصية المصرية»، ولم يكن له أن يصل مثلهم إلى هذه المعادلة التشكيلية من دون تعمق في التواصل مع شخوصه: «وجدت أنه في حال متابعة الناس من بعيد، يكون من الصعب الوصول إلى مرادي، لذلك قضيت أوقاتاً طويلة معهم في مساحاتهم الخاصة مشتبكاً معهم بحواسي من دون الاكتفاء بتبادل الكلام العابر».
تنقل الفنان بين أنماط مختلفة من البشر، لكن بعضهم احتل مساحات كبيرة على مسطح أعماله، ومنهم «المجاذيب» الذين تكرر وتعمق تناوله لهم بأشكال عدة، ويفسر ذلك قائلاً: «بعض الشخوص كان اختراقها صعباً ومرهقاً للغاية، ومنهم (المجاذيب) الذين التقيت بهم في الشارع، ودارت بيننا حوارات ونقاشات كثيرة، واكتشفت أن كل (مجذوب أو مجنون أو أبله) منهم، وفق ما تختار الاسم الذي يروقك، هو في واقع الأمر يمثل كياناً إنسانياً كبيراً، وإرثاً بشرياً ملهماً نهمله ونلخصه في أوصاف عابرة لا تليق بتاريخ إنسان تعب وعانى طويلاً من قسوة الحياة حتى وصل إلى ما وصل إليه!». كما احتفى الزعيم أيضاً بالصيادين في معرضه الجاري، فالفنان الذي خرج عن «السرب المكاني»، وقرر وداع العاصمة المصرية القاهرة مركز الثقافة والفنون ليستقر في الإسكندرية، اجتذبته حكايات الصيادين وأحاسيسهم وأسرارهم، يقول: إن «اندماجهم مع البحر وصل إلى حد أنهم توحدوا معه من دون أن يشعروا بالعالم حولهم، أما الأسماك فقد تحولت إلى جزء منهم، أو هم أنفسهم تحولوا إلى أسماك لا تستطيع مفارقة البحر! من هنا قدم الزعيم أحاسيس متنوعة ومتناقضة لم نعتد العثور عليها في صياغات تشكيلية سابقة لطالما تناولت البحر والسمك وصياديه.
العيون هي أول ما يستقبل المتلقي المتأمل للوحاته لأنها وفق الفنان «خير من يعبر عن مكنونات الإنسان، ودواخله»، مؤكداً: «كل إنسان حتى الشخص السطحي له منظومة خاصة به، فهو لكي يخرج تفاهته هذه على الملأ تتمازج داخله أشياء وتفاصيل، وقد اكتشفت بعد فترة من اهتمامي بالشكل الخارجي أنه خادع وظالم، ولذلك أصبحت أتعمق داخل الناس من خلال عيونهم لأنها الوحيدة التي تتحدث بصدق وتسرد الحكايات بواقعية من دون كذب».
التقط الفنان الكثير من الموضوعات الواقعية وأعاد صياغتها إلى أشكال تعكس مضامين انفعالية وربما فلسفية ورمزية في العقل الباطن لينقلها إلى الواقع المرئي بصورة أخرى حسية يستطيع الجمهور المتذوق للفن إدراك مغزاها، ولذلك تندرج الكثير من لوحاته إلى المدرسة السيريالية أو ما يمكن أن نطلق عليه «السيريالية التعبيرية»، على سبيل المثال، تناول فكرة «التكامل الإجباري» في لوحة سيريالية رائعة تصور صياداً يعثر على فردة حذاء، في رمز لتعب الإنسان أحياناً بلا فائدة تعود عليه، لعدم اكتمال العناصر أو الحلم في حياته»، فماذا يمكنه أن يحقق من دون العثور على بقية الحذاء؟» على حد تعبيره!
ووظف الزعيم الأبيض والأسود للتعبير عن أفكاره زاهداً في استخدام الألوان تأثراً بطفولته: «حين كنت أنظر عبر نافذة حجرتي في جنوب الصعيد لم أكن أرى سوى الظلام الدامس، ولذلك حتى حين أستخدم اللون في اللوحة يكون محدوداً، وغالباً ما أخطف به عين المشاهد إلى عنصر أو معنى معين في العمل».
لم يترك الزعيم أحمد السرب وحلق بعيداً في رسوماته فقط، إنما فعل الأمر نفسه في منحوتاته التي اختار لها خامات فقيرة مثل الجبس والطين: «اتجهت للنحت لأنه يمثل عالماً آخر يختلف عن الرسم، وخرجت فيه عن السرب أيضاً، فلماذا أتمسك بخامات غنية إذا كانت الحضارات القديمة استخدمت خامات عادية، ولماذا هذا التعالي في اختيار الخامة إذا كان النحت في الأساس أكثر فن يمكنه التعبير وتوصيل الأفكار بسرعة من خلال الشكل والحركة والكتلة والفراغ؟».