«المتوالية القصصية» جنساً أدبياً مستقلاً

إدوار الخراط أول قاص عربي أطلق المصطلح على مجموعته «أمواج الليالي»

إرنست همنغواي
إرنست همنغواي
TT

«المتوالية القصصية» جنساً أدبياً مستقلاً

إرنست همنغواي
إرنست همنغواي

يضيء الدكتور ثائر العذاري، أستاذ النقد الحديث في كتابه الجديد «المتواليّة القصصية: الأصول والتجنيس والتمثلات» الصادر عام 2020، واحداً من المصطلحات الإشكالية الحديثة التي أثارت خلافاً كبيراً بين النقاد والباحثين. وقد انعكس ذلك على المشهد النقدي، حيث شهدنا مساجلات خصبة بين الدكتورة نادية هناوي، والدكتور ثائر العذاري خلال السنوات الماضية حول ماهية هذا المصطلح وحدوده وحمولاته وتجلياته. وشخصياً، كنت قد أضأت جوانب من هذا المفهوم النقدي وطبقته على بعض الأعمال القصصية، منها مجموعة «غيمة عطر» وأشرت إلى أن هذه المجموعة تعدّ مثالاً على مفهوم المتوالية السردية أو المتوالية القصصية، وخاصة بعد أن أدرج المؤلف عنواناً فرعياً تصنيفياً مهماً هو «متوالية قصصية» بوصفه عتبة نصية دالة. وبيّنت أن النقد الحديث اعتاد على إطلاق مصطلح المتوالية السردية على الوحدات السردية الصغرى التي تشكل سرداً أوسع، إلا أن التوظيف الجديد يذهب أبعد من ذلك لأنه يحيلنا إلى ظاهرة اشتراك قصص مجموعة قصصية معينة في مشتركات أسلوبية رؤيوية، يجعلها مترابطة إلى حد كبير وتقترب في تضافرها من الرواية الحديثة. وأشرت إلى بعض النماذج العالمية الممثلة لهذا المنحى، وفي مقدمتها مجموعة «أهل دبلن» للروائي الآيرلندي جيمس جويس، و«في زماننا» لإرنست همنغواي، إلا أننا يجب أن نعترف بأن السجال النقدي بين الدكتورة نادية هناوي، والدكتور ثائر العذاري، هو الذي وضع المصطلح تحت ضوء ساطع وأغنى جوانبه المختلفة. ومما أكده العذاري، أن القاص إدوار الخراط هو أول قاص عربي أطلق مصطلح «المتوالية القصصية» على مجموعته «أمواج الليالي» الصادرة عام 1991 كما تحمس الدكتور العذاري لفكرة عدّ المتوالية القصصية جنساً أدبياً مستقلاً، وهو ما أثار حفيظة د. نادية هناوي التي رفضت فكرة التجنيس هذه؛ إذ ترى أن لا جدوى من الخلط بين ما هو تقانة واشتغال مخصوص، وبين ما تجنيس مؤطر بالنظرية، وقد نشرت هنادي حصيلة سجالها في كتابها النقدي الموسوم «في الجدل النقدي» الصادر عام 2021.
ويبدو أن الدكتور ثائر العذاري قرر أن يخوض المواجهة حتى النهاية من خلال المباشرة بكتابة كتابه الجديد هذا. ويعترف الناقد بأنه اصطدم بهذا المصطلح عام 2011 عندما كان أستاذاً زائراً بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية؛ فراح يتقصى أصوله ومصادره وتمثلاته. ولم يقتصر جهد الناقد على الاطلاع المضني على المراجع الأساسية، بل عمد إلى إجراء عملي يحسب له، وذلك من خلال إقامة حوار مباشر حول المصطلح مع أحد أبرز النقاد المهتمين به هو روبرت لوشر، والذي سبق للقارئ العربي أن اطلع على دراسته المهمة حول المتوالية السردية في كتاب عن نظرية الأجناس الأدبية. يأخذنا الناقد العذاري في كتابه هذا في سياحة نقدية واسعة لاستقصاء أصول المصطلح الذي يرى أنها تعود إلى ثمانينات القرن الماضي، من خلال انشغال عدد كبير من النقاد في الولايات المتحدة بهذا المصطلح ودلالاته. وحاول الناقد التمييز بين المجموعة القصصية التقليدية التي تكتب في أوقات متباعدة، وبين المتوالية القصصية التي تشترك أقاصيصها في مقومات كثيرة منها البنية المكانية الموحدة، كما هو الحال في «أهل دبلن» لجميس جويس. كما يذهب الناقد إلى الاعتقاد أن مجموعة نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» هي واحدة من أقدم المتواليات في الأدب القصصي العربي الحديث، والتي تدور أحداثها داخل مكان محدد، وقد تبنى المتوالية القصصية، كما يرى الناقد من خلال التركيز على «شيء» واحد مثلما فعل الكاتب الكويتي طالب الرفاعي في متوالية «الكرسي» التي تمحورت حول الكرسي وتنويعاته الوظيفية المتنوعة. وقد تتشكل المتوالية القصصية على زاوية النظر التي يتعامل بها القاص مع التجربة القصصية أو على وحدة الشخصية القصصية، كما هو الحال في مجموعة أحمد المديني «عند بوطاقية» التي تتمحور حول شخصية واحدة هي «بوطاقية». ويخلص الناقد إلى استنتاج مركزي في كتابه هذا يرى فيه، أن المتواليات القصصية ليست مجاميع قصصية تقليدية، بل هي جنس أدبي قائم بذاته، له خصائصه وتقنياته المتعلقة به. وعبر استضاءاته النقدية، توصل الناقد إلى أن الناقد الشكلاني الروسي شكلوفسكي هو من أوائل الذين شخّصوا ظاهرة المتوالية القصصية وعدّوها أصلاً للرواية، من خلال التركيز على دور البنية الإطارية كما هو الحال في «ألف ليلة وليلة». وأكد الباحث، أن معظم النقاد الذين درسوا المتوالية القصصية عدّوا «ألف ليلة وليلة» الأصل التاريخي لها.
ولا يكتفي الناقد باستضاءاته على الأدب العالمي، بل فحص تمثلات مهمة لهذا الضرب السردي في تراثنا العربي من خلال التركيز على نماذج دالة منها «كليلة ودمنة» لابن المقفع و«مقامات الهمداني» و«ألف ليلة وليلة» والتي كان لها أثر بالغ في نشوء جذور القصة والرواية التي مثلتها «حكايات الديكاميرون» لبو كاشيو و«حكايات كانتزبري» لجوسر، وذلك من خلال الاعتماد على فكرة الحكاية الإطارية التي تضم مجموعة من الرواة الذي سيروي كل منهم حكاية.
ويلفت الناقد النظر، وهو يستقصي أصول المصطلح إلى أن أوروبا وأميركا قد شهدتا خلال القرن التاسع عشر ظهور لون من المتواليات الشعرية، قبل أن تظهر المتواليات القصصية.
لكن الباحث يرى أن أول متوالية قصصية في القرن العشرين هي مجموعة «أهالي دبلن» لجيمس جويس التي تدور داخل مدينة واحدة وتكشف عن حياة الناس وطباعهم وأسواقهم وبيوتهم، وكأنها تريد أن تؤشر خصوصية الهوية الآيرلندية التي كانت تعاني من وطأة الاحتلال البريطاني آنذاك.
كما توقف الناقد أمام ظهور مجموعة قصصية مهمة عام 1919 للقاص شيرود اندرسن هي «واينسبرغ - أوهايو» التي عدّت متوالية قصصية كان لها تأثيرها اللاحق في إشاعة هذا الجنس القصصي. ولاحظ الناقد وجود عناصر مشتركة في هذه المجموعة، فضلاً عن وحدة المكان وهي تشابه في طبائع الشخصيات التي دفعت المؤلف إلى وضع عنوان أولي لها هو «كتاب الشخصيات غريبة الاطوار» كونها أيضاً تعاني من الوحدة والانعزال.
أما النموذج الثالث الذي استرعى اهتمام الناقد فكان مجموعة «في زماننا» لإرنست همنغواي الصادرة عام 1924، التي ركزت على بشاعة الحرب العالمية الأولى كثيمة مركزية، كما أن قصصها القصيرة كانت تحكي تجارب شخصية مركزية واحدة هي «نيك آدمز»، وهو شخصية مركزية في الكثير من قصص همنغواي.
لكن الناقد يرى أن المرحلة الحقيقية للاعتراف بالمتوالية القصصية جنساً أدبياً مستقبلاً بدأت مع صدور كتاب الناقد فورست انغرام عام 1971 حول الموضوع، والذي درس حلقة القصة القصيرة في القرن العشرين، موظّفاً مصطلح «حلقة» بدل المتوالية القصصية. ويرى انغرام في كتابه ذاك، أن المتوالية القصصية هي «حزمة من القصص القصيرة المترابطة مع بعضها، بحيث تتعدل التجربة القرائية لأي منها بعد قراءة الأخريات»، كما أضاف إنغرام فقرة جديدة تذهب إلى أن الحلقة القصصية هي «حزمة من القصص القصيرة التي ترتبط إحداها بالأخرى بطريقة توازن بين استقلالية كل قصة منفردة، وبين ضرورات الوحدة الكلية».
ومن المهم هنا، أن الناقد لم يقتصر على التعريف بأداء الناقد إنغرام، بل سجل عليه بعض المآخذ المتعلقة بدور القارئ بين المتواليات القصصية التي اقترحها الناقد، فضلاً عن المقارنة بين أفضلية حلقة القصة القصيرة و«المتوالية القصصية» والتي ينحاز فيها الناقد إلى التسمية الأخيرة؛ لأنها أكثر مقبولية بالنسبة للقارئ العربي الذي سبق له وأن اطلع عليها في توصيف مجموعة إدوار الخراط «أمواج الليالي» الصادرة عام 1991. لكن العذاري في رأيه هذا يستند إلى رأي الناقد روبرت لوشر الذي عبّر عنه في اتصال مباشر عبر الإنترنيت، والذي أكد فيه أن المتوالية القصصية جنس سردي مستقل، منفصل عن الرواية، وعن القصة القصيرة نفسها، لكن حدودها سائلة؛ ما يجعلها تشتبك مع مجموعة من الأشكال المتنوعة. ومن الجانب الآخر، يتفق الباحث مع رأي الناقد رالف لندن في تقسيم المتواليات القصصية إلى أربعة ضروب أساسية، هي المتوالية القصصية العنقودية والمتوالية القصصية المتسلسلة والمتوالية القصصية الحلقية والنوفيلا، ويفرد الباحث صفحات عديدة للتعريف بهذه الضروب وتمثلاتها في الأدبين العالمي والعربي.
ويختتم الباحث كتابه بالحديث عن بنية التماسك في المتوالية القصصية، حيث يذهب إلى أن هذا الجنس الأدبي ينهض على ثنائية، هي التوتر والتعدد الناتجين من كون كل قصة في المتوالية لا بد أن تكون مكتفية بذاتها. وخلص إلى القول، إن كتاب المتواليات القصصية اكتشفوا بمرور الزمن أنها ميدان واسع للإبداع وابتكار أساليب لا يحدها سوى خيال الكاتب لبناء «التماسك». ويحاول الباحث أن يتلمس مظاهر التماسك في عدد من المتواليات القصصية، والتي سبق لي وأن درستها ومنها متوالية «ألف صباح وصباح» للروائي حامد فاضل التي كتبت مقدمتها والتي أشرت فيها إلى انتمائها إلى مفهوم المتوالية السردية، ومجموعة «غيمة عطر» لحميد الربيعي التي درستها بوصفها متوالية سردية.
كتاب الدكتور ثائر العذاري جهد أكاديمي ونقدي متميز ويمثل إضافة مهمة للنقدية الأدبية العربية الحديثة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.