الفراغ والوحدة و«كورونا» في مجموعة قصصية

محمد البرمي يكتب مرثية لـ«المحبين والأوغاد وقطاع الطرق»

الفراغ والوحدة و«كورونا» في مجموعة قصصية
TT

الفراغ والوحدة و«كورونا» في مجموعة قصصية

الفراغ والوحدة و«كورونا» في مجموعة قصصية

لا يبدو الكاتب المصري محمد البرمي مشغولاً بتنويع أجواء مجموعته القصصية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، التي تحمل عنواناً لافتاً «للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق»، فمعظم نصوص الكتاب تحمل ملامح متشابهة لبطل واحد يدور حول نفسه على مدار 122 صفحة من القطع الصغير. تختلف بعض التفاصيل هنا أو هناك، لكننا نظل في النهاية إزاء شخصية مركزية يمكن رصد سماتها الأساسية عبر شاب في نهاية الثلاثين أو بدايات الأربعين، حساس، مثقف، يعاني من الإخفاق وعدم تحقيق ذاته مهنياً وعاطفياً ومادياً، ويقضى يومه وهو يحارب أشباح الوحدة والفراغ، فلا زوجة تؤنس وحدته أو حبيبة تطل عليه مثل نسمة في يوم قائظ.
مثل هذا الشاب من السهل للغاية أن يختلط في ذهنه الواقع بالخيال، والحقيقة بالوهم، كما يحدث في قصة «دون كيشوت على مقهى الحسين». في الحي التاريخي السياحي، يتعرف على شخصية غامضة تبدو خارجة للتوّ من كتب الأساطير؛ عجوز يحمل تمثالاً عبارة عن فارس يمتطي صهوة حمار وهو يشهر سيفه في مواجهة عدو خفي. يجسد التمثال شخصية الكاتب «دون كيشوت» الشهيرة التي ابتدعها الكاتب الإسباني ثيربانتس، وبات يُضرب بها المثل في العبثية واللاجدوى، بعد أن أخذت على عاتقها محاربة طواحين الهواء! تشده شخصية العجوز، فيسعى للتقرب منه، ودعوته إلى فنجان من القهوة. في البداية، يبدو العجوز متوجساً، لكنه في النهاية يقبل دعوته، وتنشأ الثقة بينهما، ثم يبدأ العجوز الغامض في بثّ رسائل أكثر غموضاً للصديق الشاب. يقول العجوز إنه لا ينتمي لشيء، ولا يمكن أن يكون جزءاً من نظام، حتى لو كان الترس الأهم كي يدور الكون من حوله، وكل محاولاته لأن يصبح جزءاً من شيء ذهبت هباءً منثوراً أو صارت كزبد البحر، لم تنفعه أو تضره. هو رجل له تصورات أخرى عن الوجود لا تشبه تلك الحكايات المعتادة، حين تضيق به الأرض يمنح نفسه للسماء، وحين يضج منها يمنح نفسه للبحر ليصبح وليمة لأعشابه، أو يمنح نفسه للأرض فيصبح طعاماً لديدانها. لا يخاف الموت، لكنه يطمع في البقاء أكبر قدر ممكن على قيد الحياة.
تتعدد اللقاءات بين الطرفين حتى يبثه العجوز رسالته الأخيرة: «لا مسافة بين الشيء واللاشيء، كلاهما يشبه النوم على مساحة أرفع من عمودك الفقري، إلى اليمين قليلاً ستسقط، وإلى اليسار قليلاً ستسقط، أما البقاء كما أنت فيضمن لك السلامة». تزيد الرسائل المحملة بالألم من ارتباك البطل، لكنه يوقن تماماً أن عليه تغيير خط سيره نهائياً ليهرب من مصير دون كيشوت!
يبدو البطل في معظم القصص شديد الارتباط بمنطقة «وسط البلد» بالقاهرة، فهو يحبها «بنسماتها وضجيجها وعلاقاتها المتشابكة وشجار الأصدقاء والضوضاء القادمة من السيارات والباعة الجائلين»، على حد وصفه في قصة «روف جهنم»، لكنه حين يجر خطواته بتثاقل نحو مقر العمل في قصة «رجل تافه وامرأة تائهة» لا يجد جديداً؛ كل شيء عادي؛ الضحكات البلاستيكية التي يوزعها كل يوم على زملائه، الجاكت الأسود الثقيل الذي يرتديه كلما بدا اليوم ممطراً، الغضب المكتوم بداخله بسبب أدائه لوظيفة لا يحبها. ويضاعف من حزنه في ذلك الغروب الشتوي الملبد بالغيوم أن حبيبته تزوجت، وكان عرسها بالأمس. في غمرة الإحباط، يترك نفسه تنداح كما تشاء، وفي المترو يتعرف على فتاة ثلاثينية.
يتبادلان أرقام الهواتف، لكنه سرعان ما ينسى الأمر، ويفاجأ باتصال منها في المساء، تخبره فيه أنها تود أن يلتقيا. يلبي طلبها، وفي الطريق إلى أحد المطاعم، توجز له قصتها، فهي أرملة توفي زوجها تاركاً لها طفلين تعيلهما بلا مورد سوى مبلغ شهري تحصل عليه بانتظام من عمتها التي تقيم بالقاهرة. تبحث عن الحب، وتأمل أن يكون هو الفارس الموعود، لكنه في نهاية السهرة يشعر بتأنيب الضمير، فهو لا يريد إعطاءها مزيداً من الآمال الكاذبة، فيتحجج لها بأعذار واهية، ويتركها فريسة الحزن والإحباط.
هذا الإحساس العارم بالأسى كثيراً ما يكتسب حساً وجودياً مفعماً بالاغتراب في كثير من قصص المجموعة البالغ عددها 24 قصة. ففي القصة التي تحمل عنوان الكتاب نفسه ثمة مقهى فارغ إلا من 3 شخوص؛ الراوي، ورجل، وامرأة، تلامس الوحدة أطراف أصابعهما. لا أحد يضحك، لا صوت يخرج. يراقب البطل الرجل والمرأة؛ حيث تتباعد المسافات بينهما، حين تعود إليهما الحياة، يأخذ كل منهما وضع القرفصاء، ثم يدفن ذراعيه كسلحفاة محتضناً وحدته وخوفه وقلقه. كمن يتعلق بقشة أخيرة، ينادي البطل عامل المقهى، لكن صوته لا يخرج هو الآخر، ينكمش في داخله، يخرج منه شيء كالبكاء. وتظهر في هذا التوقيت فتاة جميلة حقاً، تقلب أوراقه، لكنها لا تراه أو تلمسه. من بعيد، يظهر رجل مبتهج يناديها بقوة؛ هيا يا عزيزتي، فيخرجان معاً متشابكي الأيدي، ليبقى البطل وحيداً منكمشاً داخل قضبان المقهى يحاصره الأوغاد وقطاع الطرق!
وتحت عنوان «أيام الكورنتينا» التي تضم عدداً من النصوص القصيرة جداً، يقدم المؤلف ما يشبه اعترافاً للقارئ، قائلاً: «لأكن صادقاً، هذه الأقاصيص كتبتها على فترات متباعدة عن مشاعري وأفراحي وأحزاني، وبعضها كان سيصبح مشروعاً بالفعل، أم البعض الآخر فكان محض مشاعر فقط؛ محبة وخذلان ويأس وخوف من الموت والغربة والوحدة وشبح (كورونا). لماذا جمعتها؟ كنت أخشى أن أموت في فترة الرعب التي اجتاحت العالم بسبب الجائحة، وكنت أريد أن أترك إرثاً من بعض مشاعري دون خجل أو مواربة. وحين منحني الله العمر، وأكملت تلك المجموعة القصصية، آثرت ألا أحذف تلك الأقاصيص، وأبقى عليها كذكرى من لحم ودم برائحة الموت».
بالطبع، كان يمكن لمحمد البرمي أن يتجاهل مثل هذا «الاعتراف» أو «التقديم»، لكنه آثر الصدق مع قارئه، وهو ما يحسب له. جاءت بعض هذه النصوص القصيرة موفقة في حبكتها وعالمها، كما في قصة «علاج للحنين». أما بعضها الآخر، فجاء أقرب إلى الخواطر والتأملات ذات التعبير المباشر والنبرة التقريرية، كما في قصة «انسحاب». لكن يبقى للمجموعة أنها رسمت مرثية شجية للإنسان المحبط في عالم محاط بالأوبئة والكوارث.



انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

انطلاق الدورة الـ19 لـ«البابطين الثقافية» بمضاعفة جوائز الفائزين

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

كرمّت «مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية»، صباح اليوم (الأحد)، الفائزين بجوائز الدورة الـ19 للجائزة، مع انطلاق هذه الدورة التي حملت اسم مؤسس وراعي الجائزة الراحل عبد العزيز سعود البابطين، تخليداً لإرثه الشعري والثقافي.

وأُقيم الاحتفال الذي رعاه أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بحضور (ممثل أمير البلاد) وزير الإعلام والثقافة وزير الدولة لشؤون الشباب عبد الرحمن المطيري، ومشاركة واسعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين والدبلوماسيين وأصحاب الفكر من مختلف أنحاء العالم العربي، كما حضر الحفل أعضاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

جانب من حضور دورة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين (الشرق الأوسط)

وقال وزير الثقافة والإعلام الكويتي، عبد الرحمن المطيري، في كلمته، إن هذا الملتقى «الذي يحمل في طياته عبق الشعر وأريج الكلمة، ليس مجرد احتفالية عابرة، بل هو تأكيد على أن الثقافة هي الروح التي تحيي الأمم، والجسر الذي يعبر بنا نحو مستقبل زاخر بالتسامح والتعايش والمحبة».

وأضاف: «إن لقاءنا اليوم ليس فقط تكريماً لمن أبدعوا الكلمة وشيَّدوا صروح الأدب، بل هو أيضاً دعوة لاستلهام الإرث الثقافي الكبير الذي تركه لنا الشاعر الراحل عبد العزيز سعود البابطين (رحمه الله)، والذي كان، وسيبقى، قامة ثقافية جمعت بين جمال الكلمة وسمو الرسالة... رسالة تُعبِّر عن القيم التي تجمع بين الحضارات. ومن هنا جاءت مبادراته الرائدة، التي عرَّف من خلالها الشرقَ بالشعر العربي، وقدَّم للغرب بُعدَه الإنساني، جاعلاً من الشعر جسراً يربط القلوب، ومفتاحاً للحوار بين الثقافات».

رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين يلقي كلمته في افتتاح الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

في حين قال رئيس مجلس أمناء «مؤسسة البابطين الثقافية»، سعود البابطين، إن هذه الدورة تأتي احتفاءً «بالشعر، فن العرب الأول على مر العصور، وتكريماً للمبدعين والفائزين مِنَ الشعراءِ والنقاد، ووفاءً ومحبة لشاعر هذه الدورة (عبد العزيز البابطين) الذي أخلص في رعاية الشعر العربي وخدمة الثقافة العربية بصدق ودأب وتفانٍ طيلة عمره كله، بلا ملل ولا كلل».

وفي خطوة لافتة، قدَّم رئيس مجلس الأمناء، أمين عام المؤسسة السابق، الكاتب عبد العزيز السريع، الذي رافق مؤسس الجائزة منذ نشأتها، ليتحدث عن ذكرياته مع راعي الجائزة الراحل، والخطوات التي قطعها في تذليل العقبات أمام إنشاء المؤسسة التي ترعى التراث الشعري العربي، وتعمل فيما بعد على بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات.

وأعلن البابطين، في ختام كلمته عن مضاعفة القيمة المالية للجوائز ابتداءً من هذه الدورة، وفي الدورات المقبلة لـ«جائزة عبد العزيز البابطين».

ونيابة عن الفائزين، تحدَّث الأديب والشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان، مشيداً بـ«جهود (مؤسسة البابطين الثقافية) في دعمها اللامحدود للفعل والنشاط الثقافي داخل وخارج الكويت».

وأضاف: «في هذا المحفل الثقافي البهيج، يمرُّ في الذاكرة شريط لقاءات تمَّت منذ 3 عقود، كان فيها الفقيد العزيز الصديق عبد العزيز البابطين يحمل دائماً هَمّ تراجع الاهتمام بالشعر، ويضع اللَّبِنات الأولى لإقامة مؤسسة تُعنى بكل ما من شأنه خدمة ذلك الفن العظيم، ثم ينتقل عمل المؤسسة إلى الأفق الدولي، من خلال ما يُعنى بقضية حوار الثقافات والحضارات».

وألقى الشاعر رجا القحطاني قصيدة عنوانها «إشعاع الكويت»، من أشعار الراحل عبد العزيز البابطين.

يُذكر أن فعاليات الدورة الـ19 مستمرة على مدى 3 أيام، بدءاً من مساء الأحد 15 ديسمبر (كانون الأول) إلى مساء الثلاثاء 17 ديسمبر الحالي. وتقدِّم الدورة على مسرح مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي 5 جلسات أدبية، تبدأ بجلسة بعنوان «عبد العزيز البابطين... رؤى وشهادات»، تليها 4 جلسات أدبية يعرض المختصون من خلالها 8 أبحاث عن الشاعر عبد العزيز سعود البابطين المحتَفَى به، و3 أمسيات شعرية ينشد فيها 27 شاعراً.

وزير الثقافة والإعلام عبد الرحمن المطيري ووزير الخارجية عبد الله اليحيا ورئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم وأمين عام «مؤسسة البابطين الثقافية» سعود البابطين وضيوف الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

الفائزون:

* الفائز بالجائزة التكريمية للإبداع الشعري الشاعر الدكتور خليفة الوقيان، وقيمة الجائزة 100 ألف دولار.

* الفائزان بجائزة الإبداع في مجال نقد الشعر «مناصفة»، وقيمتها 80 ألف دولار: الدكتور أحمد بوبكر الجوة من تونس، والدكتور وهب أحمد رومية من سوريا.

* الفائزة بجائزة أفضل ديوان شعر، وقيمتها 40 ألف دولار: الشاعرة لطيفة حساني من الجزائر.

* الفائز بجائزة أفضل قصيدة، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر عبد المنعم العقبي من مصر.

* الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقيمتها 20 ألف دولار: الشاعر جعفر حجاوي من فلسطين.