بلينكن يؤكد الأولوية الأميركية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي في أفريقيا

قدرات الولايات المتحدة محدودة لوقف حرب إثيوبيا ومواصلة العملية الانتقالية في السودان

أنتوني بلينكن يختتم رحلة هي الأولى لكبير الدبلوماسيين في إدارة الرئيس جو بايدن إلى أفريقيا (أ.ب)
أنتوني بلينكن يختتم رحلة هي الأولى لكبير الدبلوماسيين في إدارة الرئيس جو بايدن إلى أفريقيا (أ.ب)
TT

بلينكن يؤكد الأولوية الأميركية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي في أفريقيا

أنتوني بلينكن يختتم رحلة هي الأولى لكبير الدبلوماسيين في إدارة الرئيس جو بايدن إلى أفريقيا (أ.ب)
أنتوني بلينكن يختتم رحلة هي الأولى لكبير الدبلوماسيين في إدارة الرئيس جو بايدن إلى أفريقيا (أ.ب)

ختم وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن رحلة هي الأولى لكبير الدبلوماسيين في إدارة الرئيس جو بايدن إلى أفريقيا، حيث سعى إلى تعزيز النفوذ المحدود للولايات المتحدة في مواجهة أزمات عدد من دول القارة، ومنها النزاع المتصاعد في إثيوبيا والأزمة الأخيرة في السودان، فيما تكثف الصين وروسيا حضورهما على مستويات عدة، ومنها زيادة الاستثمارات الصينية في كل من كينيا ونيجيريا والسنغال واستخدام مجموعة «فاغنر» للمرتزقة الروس في مالي. وأثناء الجولة التي شملت زيارات لكل من كينيا ونيجيريا والسنغال، كان على بلينكن أن يواجه تحديات تتعلق بقدرة الولايات المتحدة على الترويج لقيم الديمقراطية والتعامل مع سلسلة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة السمراء خلال الأشهر الماضية، ومنها إعادة الحكومة الانتقالية إلى السلطة في السودان، والتهديدات المتزايدة من المتطرفين والإرهابيين، والتحديات التي يشكلها في روس «كوفيد - 19» وتغير المناخ.
ووجه بلينكن في البلدان الثلاثة رسائل واضحة فيما يتعلق بالمنافسة الشديدة بين الولايات المتحدة والصين التي عملت خلال العقدين الماضيين على زيادة استثماراتها في أفريقيا. وأقر قبل عودته من دكار إلى واشنطن بأنه على الرغم من الاستقبال الحار الذي لقيه في العواصم الثلاث، قال للمسؤولين الأفارقة الكبار إن «عليكم أن تحكموا على ما نفعله، وليس فقط على ما أقوله». ولاحظ أنه عندما كان في نيروبي، عاين مشروع بناء طريق سريع تموله الصين في كينيا، وحين كان في أبوجا، مر موكبه بمحاذاة مبنى عملاق لغرفة التجارة الصينية في نيجيريا. وفيما غادر السنغال، كانت دكار تستعد لاستضافة حدث تجاري واستثماري كبير بين الصين وأفريقيا خلال الأسبوع المقبل. وفي الوقت الذي تحرز فيه جهود بايدن لمساعدة الدول الأفريقية في مكافحة «كورونا» وتشجيع السياسات الصديقة للمناخ بعض التقدم الأولي، تبدو الصورة الأوسع أقل تشجيعاً.
وعلى الرغم من نجاح الضغوط الأميركية والدولية التي ساهمت في عودة رئيس الحكومة الانتقالية السوداني عبد الله حمدوك إلى السلطة بعد الاتفاق مع قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، واجهت واشنطن صعوبات جمة في الحفاظ على بعض اتجاهات التحول الديمقراطي في عدد من الدول. وإذ استشهد بأحداث إثيوبيا والسودان، أقر بلينكن في العاصمة النيجيرية بأن «الحكومات أصبحت أقل شفافية»، موضحاً أن «هذا يحدث في جميع أنحاء أفريقيا - يتجاهل القادة حدود الولاية، ويزورون أو يؤجلون الانتخابات، ويستغلون المظالم الاجتماعية لكسب السلطة والحفاظ عليها، واعتقال شخصيات المعارضة، وقمع وسائل الإعلام، والسماح للأجهزة الأمنية بفرض قيود الوباء بوحشية».
ولكن الاتفاق الأخير في السودان يبدو بادرة تبعث على الأمل، علما بأن مجموعة رئيسية مؤيدة للديمقراطية رفضت ما حصل، واصفة إياه بأنه «شكل من أشكال الخيانة». وكان بلينكن نفسه حذراً إذ اكتفى بـ«تشجيع» العودة إلى العملية الانتقالية. ولكنه لا يزال يريد رؤية المزيد. وفي تغريدة على «تويتر»، قال بلينكن: «أحض كل الأطراف على إجراء المزيد من المحادثات ومضاعفة الجهود لإكمال المهمات الانتقالية الرئيسية على مسار بقيادة مدنية نحو الديمقراطية في السودان»، مكرراً «دعوتنا إلى قوات الأمن من أجل الامتناع عن استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين».
وفي إثيوبيا، رفض رئيس الوزراء آبي أحمد دعوات المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان من أجل إنهاء الحصار الإنساني على منطقة تيغراي الشمالية، موطن المتمردين الذين يتقدمون الآن في اتجاه العاصمة أديس أبابا. وفي الوقت نفسه، يستفحل الفساد ويساء استخدام السلطة، فضلاً عن الافتقار إلى الشفافية في إعاقة البنية التحتية الأفريقية ومبادرات التنمية والتخفيف من حدة الفقر التي تتبناها الولايات المتحدة.
في ختام جولته التي استمرت أسبوعاً، قال بلينكن إن مالي «تظل ركيزة أساسية للاستقرار المستقبلي في منطقة الساحل ولدينا مخاوف عميقة في شأن هذا الاستقرار ومخاوف عميقة بشأن التطرف والإرهاب اللذين ينشران مخالب في المنطقة». وأضاف أنه «سيكون من المؤسف بشكل خاص أن تشترك الجهات الخارجية في جعل الأمور أكثر صعوبة وتعقيداً»، في إشارة إلى مجموعة «فاغنر» التي نشرت مرتزقة في سوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا، مما أثار احتجاجات من الغرب وآخرين.
وعلى الرغم من أن بايدن تحدث عن إعادة أفريقيا إلى مكانة بارزة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن الأولويات الأخرى والتطورات الملحة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأميركا اللاتينية، تنافس بعضها البعض على الأولويات الكبرى لإدارته في الأشهر العشرة الأولى لإدارته.
وأعلن البيت الأبيض أن بايدن سيعقد قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا العام المقبل «لتعزيز العلاقات مع الشركاء الأفارقة على أساس مبادئ الاحترام المتبادل والمصالح والقيم المشتركة». ويتوقع أن يسعى الرئيس بايدن إلى إظهار اهتمام أكبر بالقارة السمراء. وعلى الرغم من عدم ذكره مسألة المنافسة مع الصين، قال بلينكن إن «انخراطنا في أفريقيا، مع أفريقيا، لا يتعلق بالصين أو أي طرف ثالث آخر».
ووافقته وزيرة الخارجية السنغالية أيساتا تال سال، التي ستشارك في استضافة منتدى التعاون الصيني الأفريقي بين 29 نوفمبر (تشرين الثاني) و30 منه في دكار نظيرتها الصينية. وقالت: «لدينا دبلوماسية سيادية لا نستبعد منها أحداً». وأشار وزير الخارجية النيجيري جيفري أونياما إلى وجود مشاريع بنية تحتية كبرى مع الصين الآن في نيجيريا، قائلاً: «رأينا فرصة عظيمة مع الصينيين».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟