الأندرين السورية.. دمرها زلزال في القرون الوسطى وتنهبها الآن «داعش»

ذكرها عمرو بن كلثوم في مطلع معلقته الشهيرة

أوابد مدينة الأندرين التاريخية
أوابد مدينة الأندرين التاريخية
TT

الأندرين السورية.. دمرها زلزال في القرون الوسطى وتنهبها الآن «داعش»

أوابد مدينة الأندرين التاريخية
أوابد مدينة الأندرين التاريخية

تتوضع مدينة الأندرين التاريخية التي تعود لآلاف السنين في منطقة البادية السورية وتحديدًا في الطريق الصحراوي الواصل ما بين مدينتي حلب وحماة، إذ تبعد عن حماة نحو 100 كلم ونفس المسافة عن حلب. وتتميز المدينة بأنها كانت من أهم الحواضر في بادية الشام والتي كانت عامرة في العصر البيزنطي حتى أنها اشتهرت بإنتاج أجود أنواع الخمور في العصور الغابرة مما حدا بالشاعر العربي عمرو بن كلثوم لتضمينها معلقته المعروفة منذ مطلعها عندما قال فيها: (ألا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصبحيْنَا وَلا تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِيْنَا)، كما ذُكِرَ اسم الأندرين في صبح الأعشى للقلقشندي، وفي معجم المؤرخ الشهير ياقوت الحموي.
والأندرين التي غابت عن وجه الأرض بسبب زلزال مدمر حلّ بها في القرون الوسطى ظلت غافية راقدة تحت تراب البادية ورمالها لقرون طويلة حتى بدايات الألفية الجديدة، حيث جاءتها بعثات تنقيب أثرية أوروبية وسورية مشتركة عملت على إظهار أوابد هذه المدينة ورفعها فوق الأرض من خلال مواسم تنقيب سنوية.
ولكن المدينة حاليًا وكحال عشرات المواقع الأثرية السورية في البادية والمنطقة الشرقية تقع تحت سيطرة إرهابيي «داعش» الذين عملوا على تدمير بعض أوابدها المكتشفة فيما يعمل لصوص وعصابات الآثار على التنقيب غير الشرعي فيها.
وحسب معلومات من مصادر محلية وتصريح خص به «الشرق الأوسط» أوضح مدير عام الآثار السورية الدكتور مأمون عبد الكريم: «وصلتنا معلومات حديثة جدا من عدة أيام وأخبار مؤسفة أنه تمت سرقة أحجار مباني الأندرين الأثرية وتكسيرها وبيعها من قبل ضعاف النفوس بقصد البناء الحديث كما جرت فيها عمليات تنقيب غير شرعي قامت بها عصابات منتشرة بالموقع، حيث قامت هذه العصابات بسرقة موجودات غرفة بعثة التنقيب الألمانية واتخذتها مقرًا لها، كذلك هناك نشاط تدميري ملحوظ، حيث تم تدمير الصلبان الأثرية الموجودة في كنائس المدينة من قبل التكفريين».
يذكر هنا، أن مكتشفات كثيرة تحققت في موقع الأندرين من خلال بعثات تنقيب محلية وألمانية وفرنسية وبريطانية كان آخرها قبل 5 سنوات من قبل بعثة ألمانية سورية، حيث تم اكتشاف أقسام كنيسة المدينة التي تجاور من جهة الغرب الحصن الموجود فيها والمكتشف منذ سنوات سابقة حيث تم إنجاز 7 أسبار للكشف عن مخطط الكنيسة والتأكد فيما إذا كانت الكنيسة قائمة خلال الفترات الإسلامية. ويعتقد بعض الباحثين والمؤرخين أن مدن البادية السورية مثل الرصافة والرقة والأندرين تم إخلاؤها أثناء الغزو المغولي في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، خاصة وأن الأندرين كانت إحدى حواضر بادية الشام المزدهرة في العصور البيزنطية حين كانت تتبع لها عدة مدن كما ازدهرت في العصر الروماني وحتى العصور الإسلامية الأولى، لكنها أخليت في الفترة المملوكية مع الغزوة المغولية الثانية ليدمرها زلزال شديد ويجعلها تغوص في باطن الأرض. ومن المكتشفات التي حصلت في الأندرين أرضيتان من البازلت والفسيفساء ومجموعة من النقود تساعد على تأريخ الكنيسة، كذلك تم اكتشاف أرضيات تحيط بالحمام الإسلامي في المدينة مع مدخل الحمام وحجارة بازلتية مكتوب عليها باللغة اللاتينية تعود للفترة البيزنطية.
وإضافة للمنقبين الألمان فقد عملت بعثة أثرية تضم خبراء فرنسيين وسوريين في موقع مدينة الأندرين مع مواقع تاريخية أخرى في البادية السورية المجاورة للأندرين ومنها الروضة وأسرية، حيث اكتشفت البعثة في موسمها الأخير ما قبل الأحداث والحرب السورية مجموعة من لوحات الفسيفساء التي كانت تزين أرضيات كنائس الأندرين السبع، واكتشفت البعثة أعمدة ونقوشا أثرية.
والأندرين كلمة سريانية جمع لأندر وتعني البيدر أي هي (مدينة البيادر) وهي أيضا مدينة (كروم العنب)، حيث تمتد جغرافيًا في حوض التصريف الداخلي للوديان القادمة من جبل البلعاس وجبال العلا وجبل الأحص والتي تصب في الفيضة المركزية التي تتربع فيها مدينة الأندرين الأثرية، زارها الرحالة والباحث التاريخي أحمد وصفي زكريا في أوائل القرن العشرين، حيث كان يدير مدرسة سلمية الزراعية القريبة منها في بدايات القرن العشرين تحدث عنها في كتابه جولة أثرية قائلا: «وحينما يقترب السائح، يرى أبنية تشبه الأبراج في زوايا جدران المباني العظيمة، التي أضحت أنقاضًا مركومة، أما المباني التي لا تزال أنقاضها كثيرة فهي الثكنات وهذه جدران طوابقها السفلى ما برحت قائمة على أنها مدفونة تحت أنقاض الطوابق العليا، ثم كنيسة عظيمة ولعلها الكاتدرائية، ثم خزان ماء جسيم ولا يزال كميات عظيمة من الآجر المشوي يصعب البحث عنها، وهناك كنيستان متجاورتان، وأخرى قرب الجدار الشرقي، وواحدة أصغر في الجنوب الشرقي من الثكنات، وتجاه الثكنات بناءان لم يشيّدا على مخططات منتظمة، أحدهما تظهر فيه غرفة مدورة وأخرى متطاولة، منتهاها على شكل نصف دائرة، مما يدل على أنه كان حماماً، وثمة كثير من الخرائب».



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.