تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»

«لغط» مع تركيا وليبيا.. وإعادة العلاقات مع سوريا عشية زيارة السبسي لفرنسا

تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»
TT

تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»

تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»

يتابع المراقبون في تونس وفي المنطقة ودوليا باهتمام خاص مستجدات الأحداث في تونس التي تتراوح بين انتصار «العقلانية والواقعية» من جهة، وتراكم «التناقضات السياسية» من جهة ثانية.
وقد استفحل الغموض خاصة بعد تعاقب المواقف السياسية والدبلوماسية المتناقضة الصادرة عن عدد من الرسميين التونسيين بما في ذلك في ما يتعلق بمستجدات مواقف الحكومة الجديدة من النظام السوري ومن تركيا الحليف التقليدي لتونس منذ 60 عاما ومن السلطات الليبية. وإذ يطنب كبار الساسة في واشنطن والعواصم الأوروبية والعربية في التنويه بـ«نجاح النموذج التونسي» تعاقبت نقاط الاستفهام حول «مهنية» بعض كبار المسؤولين الجدد في الحكومة والأحزاب الكبرى المؤثرة في القرار السياسي الداخلي والخارجي.

استفحلت «الانتقادات» وردود الفعل «المتوترة» داخليا وخارجيا لبعض مواقف تونس الدبلوماسية بعد أول مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية التونسي والأمين العام للحزب الحاكم الطيب البكوش الأسبوع الماضي. وقد أسفر ذلك المؤتمر الصحافي عن تصريحات ومواقف «مثيرة للجدل» عن تركيا وعن تطبيع العلاقات بين تونس وكل من سوريا وحكومة طرابلس.
وتفاعلت ردود الفعل بنسق أسرع لأن البكوش نظم في نفس اليوم حوارا علنيا مع السفراء العرب والأجانب المعتمدين في تونس بحضور الإعلاميين ونشطاء في المجتمع المدني التونسي وعدد من السياسيين والسفراء التونسيين السابقين بزعامة السفير نور الدين حشاد نائب الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ورئيس مؤسسة «الشهيد فرحات حشاد» للدراسات.
وقد قوبلت بعض تصريحات البكوش في المناسبتين بـ«تحفظات» بعض السفراء العرب بينهم السفير المصري بتونس أيمن مشرفة الذي تدخل علنا بحضور الصحافيين لإعلان تحفظاته على قرار حكومة تونس التعامل مع حكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا خلافا للقرار الدولي الذي نص على الاعتراف بشرعية برلمان «طبرق» (1700 كلم شرق طرابلس) وحكومته وسحب الاعتراف من سلطات طرابلس.
وفي الوقت الذي قدر فيه غالبية صناع القرار في العالم «هدوء الانتقال السياسي» في تونس رغم الاضطرابات الأمنية الخطيرة في بقية دول الربيع العربي كثرت التساؤلات عن «خفايا» استفحال «التناقضات» في المواقف السياسية للرسميين التونسيين بما في ذلك في المجال الدبلوماسي.
وأخذت «الزوبعة الإعلامية والسياسية» حجما أكبر بعد تصريح أدلى به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي حاول فيه التنصل من تصريحات وزير خارجيته والأمين العام للحزب الحاكم الذي أسساه معا قبل 3 أعوام.

عشية زيارة فرنسا

الرئيس التونسي «تبرأ» من تصريحات وزير خارجيته في نفس اليوم في حوار مع قناة فرنسية دولية حول زيارته الأولى لفرنسا (اليوم). لكن عوضت أن ترفع تصريحات قائد السبسي «الالتباس» تعاقبت ردود الفعل الشعبية والدبلوماسية على ما وصفته بعض وسائل الإعلام التونسية والدولية بـ«اللخبطة» و«التناقضات المتعاقبة» في المواقف الرسمية لسلطات تونس «التي يعلق الجميع آمالا عريضة على نجاح تجربتها التعددية والديمقراطية»، على حد تعبير رئيس حكومتها الجديد الحبيب الصيد.
وقد أكدت مصادر دبلوماسية وسياسية غربية لـ«الشرق الأوسط»، أن «مسؤولين فرنسيين وعرب لم يفهموا سر إعلان تونس عن تطبيع علاقاتها مع النظام السوري عشية زيارة الرئيس التونسي الأولى من نوعها منذ انتخابه وبعد أيام قليلة من مشاركته في القمة العربية في شرم الشيخ التي أدلى خلالها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بموقف معارض واضح للنظام السوري الحالي ولحلفائه».

خروج عن «الإجماع العربي»

في الأثناء تناقضت تفاعلات السياسيين التونسيين من المواقف التي صدرت عن وزير الخارجية والأمين العام لحزب «نداء تونس» الحاكم الطيب البكوش. وبدا من أبرز المدافعين عن تصريحات وزير الخارجية الوزير الأزهر العكرمي القيادي في نفس الحزب الذي اتهم منتقدي البكوش بـ«إخراج التصريحات من سياقها» وبـ«سوء فهمها». كما دافع عن تلك التصريحات الناطق الرسمي باسم الخارجية التونسية الذي اعترض على تهمة «خروج القيادة التونسية عن الإجماع العربي»، أي عن قرار غالبية القادة العرب في قممهم مقاطعة نظام بشار الأسد بعد اتهامه بمسؤولية قمع شعبه وقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء.
كما تدخل التهامي العبدولي - مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية والأفريقية والأمين العام لأحد الأحزاب الخمسة التي تشكل الائتلاف الحاكم الحالي - لتبرير قرار إعادة فتح السفارة التونسية في دمشق والسورية في تونس بـ«حرص الحكومة التونسية على» رعاية مصالح جاليتها في سوريا والمقدرة بـ6 آلاف شخص بينهم طلاب وتجار ونساء وأطفال.

تطبيع مع نظام بشار؟

لكن السؤال الكبير الذي يطرحه مسؤولون من الائتلاف الحكومي السابق الذي قطع العلاقات مع نظام بشار الأسد مطلع 2012 هو: لماذا الحرص على ترفيع مستوى التمثيل الدبلوماسي التونسي في دمشق، بينما سبق لحكومة المهدي جمعة أن فتحت العام الماضي «مكتب تواصل إداريا في السفارة التونسية في دمشق» مهمته متابعة شواغل الجالية التونسية؟
ولماذا الإصرار على «تطبيع العلاقات مع النظام السوري الذي تسبب في مقتل ربع مليون من أبناء شعبه وتشريد 12 مليون آخرين». أليس في مثل هذه الخطوة خروج عن «الإجماع العربي» وعن مقررات القمم العربية والمجالس السابقة للجامعة العربية التي قررت سحب الاعتراف بنظام بشار الأسد ودعم المعارضة السلمية له؟
وهل لم تكن حكومة الترويكا اتخذت قرار القطيعة مع نظام بشار الأسد تحت لافتات الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ هل تخلت عن تلك المواقف الآن وهي «مهد حركات التغيير والإصلاح في دول الربيع العربي»، على حد تعبير عماد الدايمي الأمين العام لحزب المؤتمر والوزير مدير مكتب الرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي سبق أن قرر طرد السفير السوري في تونس مطلع عام 2012، احتجاجا على تورطه في قتل شعبه وقمع انتفاضته السلمية.

حوارات الجزائر والمغرب وتونس

لكن المدافعين عن خطوة التطبيع مع النظام السوري - مثل الإعلامي المنجي الخضراوي القيادي في نقابة الصحافيين التونسيين - يذكرون بكون «البرامج الانتخابية لحزب نداء تونس وكثير من الأحزاب السياسية التونسية تعهدت منذ مدة طويلة بتطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد وبإعادة فتح السفارة السورية لدى تونس ونظيرتها التونسية في دمشق. كما اعترض الوزير التونسي الطيب البكوش على «ملاحظات» منتقديه وبينهم ممثل الدبلوماسية المصرية في تونس حول «قرار التعامل مع حكومتي طبرق وطرابلس» بكون المنطقة الغربية في ليبيا تضم 120 ألف تونسي مقابل 20 ألفا في المنطقة الغربية. ومن واجب السلطات التونسية التعامل مع الأمر الواقع وإعادة فتح القنصلية القديمة خدمة لمصالح الجالية التونسية ولأن المعابر البرية المشتركة بين تونس وليبيا تخضع حاليا لسلطات طرابلس غير المعترف بها دوليا.
وأشار البكوش إلى كون ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا برناردينو ليون وسفراء الدول الغربية وكذلك حكومات الجزائر والرباط وتونس تنظم منذ سنوات لقاءات مع سياسيين بارزين من حكومتي طبرق وطرابلس وفي هذا السياق تتعاقب لقاءات «الحوار السياسي الليبي - الليبي» الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ مدة في كل من الجزائر والمغرب وتونس وداخل مدن ليبية.

«أزمة حادة «مع تركيا»

في الأثناء تحدثت مصادر كثيرة عن «أزمة حادة» فجرتها تصريحات وزير خارجية تونس عن تركيا التي اتهمها بـ«تسهيل عبور الإرهابيين التونسيين عبر أراضيها نحو سوريا ثم تسهيل عودتهم إلى مواطنهم ثم الضلوع في عمليات إرهابية نظمت في تونس». وقد احتجت الخارجية التركية رسميا على تلك التصريحات واستدعت السفير التونسي في أنقرة محمد صالح تقية للاستفسار عن مثل هذه الاتهامات التي قامت وسائل إعلام تونسية بالترويج لها مجددا. كما أعلنت مصادر رسمية في أنقرة أنها تطالب الجانب التونسي بالاعتذار، وخصوصا أن تركيا سبق أن قدمت لتونس «مساعدات كبيرة لمكافحة الإرهاب» بينها أكثر من 1200 لباس عسكري واقٍ من الرصاص وعشرين مدرعة مصفحة مضادة للألغام والمدفعية.
كما سبق لتركيا أن قدمت مساعدات اقتصادية وأخرى مالية ولوجيستية مدنية للبلديات ووزارتي الداخلية والدفاع التونسيتين.
لكن السفير المختار الشواشي الناطق باسم وزارة الخارجية التونسية اعتبر أن «تصريحات الوزير الطيب البكوش عن تركيا وقع تحريفها». فيما حاول وكيل وزارة خارجية تونس التخفيف من حدتها وأورد أن «الجانب التركي تفهم تصريحات البكوش وأن القصد من تلك التصريحات مناشدة المسؤولين الأتراك التشدد في مراقبة من يصفون أنفسهم بـ«الجهاديين» ويعبرون أراضي تركيا للالتحاق بالعصابات الإرهابية وبينها «داعش» و«القاعدة» في سوريا.
إلا أن مصادر تركية أوردت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «أنقرة استغربت اتهامها من قبل وزير خارجية تونس بالتورط مباشرة أو غير مباشرة في دعم الإرهاب والإرهابيين وبتسهيل عبورهم في وقت يعلم فيه الرسميون التونسيون أن القنصليتين التونسيتين في إسطنبول وأنقرة تضم فريقا كبيرا من الأمنيين التونسيين الذين يقومون بالتنسيق مع السلطات الأمنية التركية حول مكافحة الإرهاب بما في ذلك التثبت في قائمة عشرات آلاف السياح التونسيين الذين يتوجهون سنويا إلى تركيا على غرار أكثر من 30 مليون سائح من العالم اجمع». كما أكدت مصادرنا أن «السلطات الأمنية التركية سبق لها أن سلمت قبل (الثورات العربية) وبعدها عددا من المتهمين بالإرهاب إلى حكوماتهم بينهم تونسيون وليبيون وجزائريون وأروبيون».
كما أكد السفير التركي لدى تونس عمر جوشوك لـ«الشرق الأوسط»، أن «تركيا ترفض الاتهامات الموجهة إليها بـ«التساهل» في تنقل الإرهابيين عبر أراضيها لأنها أوقفت خلال الأعوام الماضية عددا كبيرا من المشتبه فيهم بالإرهاب من بين حاملي جنسيات مختلفة. ودعا السفير التركي كل بلدان أوروبا والعالم التي لديها شباب يتسلل من تركيا نحو تونس إلى «القيام بإجراءات وقائية» من بينها منع المشتبه فيهم في بلدانهم الأصلية «لأن تركيا التي تقوم بجهد أمني كبير لا يمكنها أن تمنع دخول السياح العاديين خاصة إذا كان مظهرهم الخارجي عاديا وليس في ملفاتهم ما يوحي بتورطهم في أي نوع من أنواع الجريمة المنظمة أو الإرهاب».

دبلوماسية ما قبل الثورة

ولم تتردد المواقع الإعلامية والاجتماعية القريبة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي ومن حكومة «الترويكا» بجناحيها الإسلامي والعلماني في انتهاز فرصة «غلطات» وزير خارجي تونس لتنتقد الحكومة الحالية وحلفاءها. واتهم البرلماني عماد الدايمي الأمين العام لحزب المرزوقي الحكومة الحالية بمحاولة «إعادة البلاد إلى مرحلة دبلوماسية ما قبل ثورة 2011». وذهب البرلماني عن حزب حركة النهضة الصحبي عتيق - وعضو مكتبها التنفيذي - إلى أبعد من ذلك إذ اتهمه بالتطبيع مع نظام «مورط في جرائم قتل جماعي لشعبه» بعد سنوات من وقوف رموز «الثورة التونسية مع الشعب السوري المقموع».
ودافع الوزير السابق عدنان منصر عن خيار القطع مع النظام السوري من منطلقا «حقوقية وسياسية».
أما طارق الكحلاوي المستشار السابق للمرزوقي فاتهم وزير الخارجية التونسي بكونه أصبح «خطرا على الأمن القومي التونسي»، وتساءل عن «سر التناقض بين مواقف البكوش وتصريحات رئيس الجمهورية قائد السبسي المسؤول الأول دستوريا عن السياسة الخارجية وعن الأمن القومي».

انتقادات وتساؤلات

في المقابل، اتهم عصام الشابي البرلماني السابق والناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري تصريحات وزير الخارجية التونسي واتهم الفريق الحاكم الجديد بالارتجال والأضرار بمصالح تونس من خلال «المواقف غير المدروسة» التي وقع الإدلاء بها عن تركيا وسوريا وليبيا. وأضاف الشابي: «كنا نتمنى أن يتميز الفريق الحالي في وزارة الخارجية عن الفريق السابق في إشارة إلى حكومة (الترويكا) بزعامة حزب النهضة الإسلامي التي كان الشابي من أبرز معارضيها».
إلا أن المنصف عاشور القيادي في حزب نداء تونس المقرب من الطيب البكوش قلل من أهمية «الانتقادات الموجهة إلى الأمين العام لحزب نداء تونس» وذكر بكون 9 دول عربية وعدد كبير من الدول الغربية لديها بعثات دبلوماسية في دمشق. وذكر بكون البرنامج الانتخابي لحزب نداء تونس وعدة أحزاب سبق أن تعهدت بـ«إعادة التمثيل الدبلوماسي» بين تونس وسوريا، وهو ما شرع البكوش في تنفيذه عبر الإعلان عن فتح مكتب قنصلي في دمشق وعن بعثة سوريا في تونس.
هل تؤدي هذه الزوبعة إلى إقناع الساسة الجدد في تونس بضرورة الانتقال من «الارتجال والهواية» إلى «المهنية والاحتراف» سياسيا ودبلوماسيا؟
سيأتي الجواب خلال الأسابيع القليلة المقبلة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.