القراءة بوصفها طريقاً للتعافي

«الأدب والتحوّل» يرصد تأثيراتها على سيكولوجية الإنسان

غلاف  الكتاب
غلاف الكتاب
TT

القراءة بوصفها طريقاً للتعافي

غلاف  الكتاب
غلاف الكتاب

«هذا بيت لشفاء الأرواح»... نقش على مدخل أقدم مكتبة معروفة، تعود إلى عهد الفرعون رمسيس الثاني. ومن ثم، يبدو من المسلّم به أن لقراءة النّصوص الأدبيّة تأثيرات سيكولوجية وعاطفيّة متفاوتة على الأفراد قد يتجاوز بعضها لحظة فعل القراءة ذاتها، وهو أمر كان خبره القدماء، وحاول الأطبّاء في العصور الحديثة مأسسته في قراءات علاجيّة مرتبطة بأوجاع جسديّة أو نفسيّة محددة، فتُصرف لها الكتب مع الأدوية كما لو كانت عقاقير لشفاء الأرواح أو مسكنات للقلوب. وهناك سجلات تعود للعام 1916 عن أعمال أدبيّة كانت توزّع للجنود البريطانيين الجرحى لتخفف من آلامهم، كما يستمر أكثر من مركز أكاديمي في العالم بإجراء أبحاث علميّة وفسيولوجية تستهدف رصد انعكاسات القراءة على دماغ الإنسان، وتفسير استجاباته العاطفيّة للنصوص التي تُعرض عليه.
لكّن ربط العمل الأدبي بالدور العلاجي الطابع الموجه نحو عامّة القرّاء لا يلقى بالضرورة عميق ارتياح في جميع الأوساط الأكاديميّة والأدبيّة، والتي لا يرى بعضها جديداً في توثيق استجابات الإنسان للنصوص؛ إذ إن الجهاز العصبي المتطوّر للبشر يستجيب لكل محفّز بطريقة مختلفة وما القراءة – من هذه الناحية - إلا مجرد محفّز آخر مثله مثل الأصوات، والموسيقى، والحرّ، والبرد.
وعند هؤلاء، فإن منح تلك الهالة العلاجيّة لنصوص محددة يستلزم حكماً أن تكون سهلة العبور للغالبية من القرّاء، وهو أمر قد لا يتوافق مع الأعمال الأدبية التجريبية أو النهج المعقّد ذاته الذي يستهوي فئة محددة من ذوي الذائقة أو المعرفة أو كليهما؛ إضافة إلى توجه كثير من النصوص المعاصرة، لا سيما الأكاديمية منها إلى التركيز على الوقائع والحقائق المجردة، والدّقة العلميّة مقابل نزع كل ما هو عاطفي أو شخصي؛ مما يعزلها في النهاية وراء جدران أبراج عاجية عالية. ولهذا؛ فإن تجربة القراءة المعنية بالعواطف قد تليق ربما بالصحافة السّارية والنصوص الشعبيّة الطابع لا القراءة الجادّة.
تور ماغنوس تانجيراس في كتابه الجديد «الأدب والتحوّل: دراسة سرديّة لخبرات تغيّر الحياة جرّاء القراءة»*، يرى أن هذا التناقض يُفقد تجربة القراءة المعاصرة شيئاً من السحر الذي لطالما رافقها مذ صنعت الكتب لتسجيل نصوص تستحق البقاء لقدرتها على مخاطبة روح إنسان آخر غير كاتبها، وربما تغيير تجربته الوجودية، وإحساسه بالحياة، وبالعالم من حوله. وهو يدعو بالمقابل إلى مغادرة مربّع الجدل البيزنطي بين المثقفين إلى فضاء القرّاء أنفسهم واستكشاف تجاربهم مع النّصوص.
في أيامنا بالطبع يمكنك دائماً القبض على ردود فعل الطرفين، المثقفين والقرّاء، على كل ما ينشر من كتب ونصوص جديدة. للأولين هناك مراجعات النقّاد المحترفة في الصحف والمجلات والدوريات المتخصصة، ولبقيتنا هناك المراجعات على مواقع متاجر الكتب (أمازون مثلاً) وصفحات الإنترنت، إضافة إلى التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكثيراً ما تتباين وجهات نظر الجانبين بشأن قيمة المادة المنشورة وقد تصل إلى حد التناقض. وبما أن رأي القراء أصبح أكثر وزناً في العقدين الأخيرين لناحية تقييم قرارات النشر (للأغراض التجارية) بفضل انتشار الإنترنت، فإن هنالك دفعاً – لا شك معرفياً ورأسماليّا أيضاً؛ بحثاً عن تعظيم الأرباح - باتجاه «الاستماع إلى ما يقوله النّاس حول المشاعر التي تثيرها في صدورهم كتب معينة»، ومن ثمّ تبني خيارات استراتيجية حول تقييم النّصوص.
تانجيراس في «الأدب والتحوّل» يمشي خطوة أوسع في هذا الاتجاه لاستكشاف الفضاء الثاني بعيداً عن عالم النّقد المحترف، لكنّه بدلاً من محاولة التنظير عن القراء من خلال استقراء تعليقاتهم حول ما قرأوه على جُدر الإنترنت، أو توظيف الخوارزميّات المتقدّمة لتجميع كتل آرائهم في ملخصات، فإنّه يجلس إليهم ويتحدث معهم، ويسجل، كما في بحث علمي تجريبي، ردود أفعالهم ومشاعرهم بشأن كتب أو نصوص أحسوا أنها تركت عليهم أثراً بالغاً طويل المدى، أو بحسب تعبير بعضهم غيّرت حياتهم جذرياً.
وللحقيقة، فإن تطبيق أساليب البحث التجريبي في الدراسات الأدبيّة أمر لا يزال يعد نادراً على الرّغم من وجود بعض محاولات رائدة لرصد تأثيرات القراءة في أطر مختبرية الطابع. وقد استعان تانجيراس في سعيه للوصول إلى عيّنة من القراء بتعليق الإعلانات في جامعة كامبريدج، والبحث على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى خدمات جمعية خيرية بريطانية تعنى بتشجيع القراءة الجماعية العلاجيّة، وأجرى عشرات المقابلات التي اختار خمساً منها لنشرها في «الأدب والتحوّل». بالتأكيد، فإن المنهجية التي اختارها ليست بكفاءة الخوارزميّات من ناحية الشمول وحجم العينة، لكنها أعمق بما لا يقاس من ناحية استقراء ردود الأفعال على النصوص عن قرب وبشكل شخصيّ.
أوّل تلك المقابلات التي يسجلها «الأدب والتحوّل» تجري مع سيّدة تدعى فيرونيكا، والتي قالت، إن اكتشافها رواية «عشيق سيدة تشاترلي» – للبريطاني ديفيد هيربرت لورانس نشرها بداية في إيطاليا 1928 بعد أن تعذّر طبعها في المملكة المتحدة لأسباب رقابيّة حتى العام 1960 - شجّعها على التحرر من علاقة فاشلة تورطت بها. هناك أيضاً مقابلة مع الشابة نينا التي اعتبرت أن كتاب طفولتها المفضّل «صديقي فليكا – 1941» للروائيّة الأميركيّة ماري أوهارا قد ألهمها لمتابعة شغفها لتصبح موسيقيّة محترفة. المقابلة الثالثة كانت مع السيّدة استير، التي تحدّثت عن رؤى عميقة لفهم العلاقات الزوجيّة بما فيها علاقة والديها الفاشلة وعلاقتها الشخصيّة المتعثرة بزوجها تكونت لديها لدى قراءتها قصيدة «الحلقة» للشاعرة النرويجية الشهيرة إنغر هاغيروب. المقابلة الرابعة كانت مع الشابة جين التي وصفت كيف هزّتها رواية الخيال العلمي «شيكاستا - 1979» للروائيّة البريطانيّة دوريس ليسينغ، وغيّرت نظرتها لكل شيء اعتقدت دائماً أنه ذاتها، ومنحتها شعوراً بامتلاك غرض لحياتها.
ومع أن بعض هذه الأعمال الأدبيّة معروفة تاريخيّاً بتأثيراتها الإيجابيّة على حياة قرّائها، إلا أن تانجيراس، يقدم من خلال شهادات القرّاء وجهة نظر بديلة لما يفترض الخبراء والمتخصصون - وكما جرت العادة - بأنها النصوص المناسبة لنا، وتأتي هذه الشهادات في إطار مقابلات أشبه ما تكون بجلسات العلاج النفسي التي تتجاوز حرفية الإجابات إلى معاينة السلوك العام لمن أجريت معهم المقابلات تجاه تجاربهم الشخصيّة في القراءة مثلاً عندما يطلب إليهم أن يقرأوا نصوصهم المفضلة بصوت عالٍ أمامه.
استير سرعان ما ترقرقت الدّموع في عينيها بعدما تلت بضعة أسطر من قصيدة «الحلقة». ويذكرنا تانجيراس هنا بأن القارئة عثرت على تلك القصيدة لأول مرة قبل خمسين عاماً، ومع ذلك ما زالت محتفظة بتأثيرها العميق كما لو أنها قرأتها بالأمس القريب.
يستبعد تانجيراس من الأدب الذي يمكن أن يسبب تحولاً في حياة المتلقي تلك الكتب التي تصنّف تحت فئة «قراءة المساعدة الذاتية» والتي قد تكون مفيدة بالفعل لتشخيص مشكلة محددة، ومن ثم تطبيق بعض الحلول المقترحة للتعامل معها، لكنّها لا تشبه تجارب القراء الذين قابلهم للبحث في «الأدب والتحوّل». وما يتطرق له هنا يبدو أكثر أصالة وعمقاً، وأقرب لتجربة «روحيّة» سامية ينتجها التقاء عقلي الكاتب والقارئ على صعيد الصفحة والكلمات، تماماً كما هو جوهر القراءة منذ مكتبة الفرعون رمسيس الثاني وكما كل تواصل إنساني، بعض هذه اللقاءات يمكن أن تغيّرنا بطرق لم نتخيلها أبداً.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025
TT

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025

هناك كتب عديدة أحلم بقراءتها في مطلع هذا العام الجديد المبارك. لكني أذكر من بينها كتابين للمفكر الجزائري المرموق لاهوري عدي. الأول هو: «القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي». والثاني: «أزمة الخطاب الديني الإسلامي المعاصر - ضرورة الانتقال من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة كانط». وربما كان هذا أهم كتبه وأشهرها. والدكتور لاهوري عدي اشتهر، منذ عام 1992، ببلورة أطروحة لافتة عن صعود موجة الإسلام السياسي، بعنوان: «التراجع الخصب أو الانتكاسة الخصبة والمفيدة». هذا المصطلح شاع على الألسن وبحق. ما معناه؟ ما فحواه؟ مصطلح التراجع أو الانتكاسة شيء سلبي وليس إيجابياً، على عكس ما يوحي به المؤلف للوهلة الأولى، ولكنه يتحول على يديه إلى شيء إيجابي تماماً، إذا ما فهمناه على حقيقته. ينبغي العلم أنه بلوره في عز صعود الموجة الأصولية الجزائرية و«جبهة الإنقاذ». قال للجميع ما معناه: لكي تتخلصوا من الأصوليين الماضويين اتركوهم يحكموا البلاد. هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كابوسهم. وذلك لأن الشعب الجزائري سوف يكتشف بعد فترة قصيرة مدى عقم مشروعهم وتخلفه عن ركب الحضارة والعصر، وسوف يكتشف أن وعودهم الديماغوجية الراديكالية غير قابلة للتطبيق. سوف يكتشف أنها فاشلة لن تحل مشكلة الشعب، بل وستزيدها تفاقماً. وعندئذ يلفظهم الشعب وينصرف عنهم ويدير ظهره لهم ويفتح صدره للإصلاحيين الحداثيين الليبراليين. هذه الأطروحة تذكرنا بمقولة «مكر العقل في التاريخ» لهيغل، أو بـ«الدور الإيجابي للعامل السلبي في التاريخ». بمعنى أنك لن تستطيع التوصل إلى المرحلة الإيجابية قبل المرور بالمرحلة السلبية وتذوُّق طعمها والاكتواء بحرِّ نارها. لن تتوصل إلى الخير قبل المرور بمرحلة الشر. لن تتوصل إلى النور قبل المرور بمرحلة الظلام الحالك. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تصل إلى بر الخلاص وشاطئ الأمان. وقد سبق المتنبي هيغل إلى هذه الفكرة عندما قال:

وَلا بدَّ دونَ الشَّهْد من إِبرِ النحلِ

هذه الأطروحة تقول لنا ما معناه: الأصولية المتطرفة تشكل وهماً جباراً مقدساً يسيطر على عقول الملايين من العرب والمسلمين. إنهم يعتقدون أنها ستحلّ كل مشاكلهم بضربة عصا سحرية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ولا يمكن التخلص من هذا الوهم الجبار الذي يخترق القرون ويسيطر على عقول الملايين، إلا بعد تجريبه ووضعه على المحك. عندئذ يتبخر كفقاعة من صابون. ولكن المشكلة أنه لم يتبخر في إيران حتى الآن. بعد مرور أكثر من 40 سنة لا تزال الأصولية الدينية المتخلفة تحكم إيران وتجثم على صدرها. فإلى متى يا ترى؟ إلى متى ستظل الأصولية الدينية القروسطية تحكم بلداً كبيراً وشعباً مثقفاً مبدعاً كالشعب الإيراني؟ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا النظام الرجعي لولاية الفقيه والملالي انتهى عملياً، أو أوشك على نهايته. لقد ملَّت منه الشبيبة الإيرانية، ومِن الإكراه في الدين إلى أقصى حد ممكن. وبالتالي، فإما أن ينفجر هذا النظام من الداخل وينتصر محمد جواد ظريف وبقية الليبراليين الإصلاحيين المنفتحين على التطور والحضارة الحديثة. وإما أن يعود ابن الشاه من منفاه ويعتلي عرش آبائه مرة أخرى. ولكم الخيار.

وبخصوص إيران، أحلم بقراءة مذكرات فرح بهلوي للمرة الثانية أو ربما الثالثة. وهو كتاب ضخم يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. وتتصدره صورة الشاهبانو الجميلة الرائعة. ولكنها لم تكن جميلة فقط، وإنما كانت ذكية جداً وعميقة في تفكيرها. من يُرِد أن يتعرف على أوضاع الشعب الإيراني قبل انفجار الثورة الأصولية وفيما بعدها أنصحه بقراءة هذا الكتاب. مَن يرد التعرف على شخصية الخميني عندما كان لا يزال نكرة من النكرات، فليقرأ الصفحات الممتازة المكرَّسة له من قبل فرح ديبا. كان مجرد شيخ متزمت ظلامي معادٍ بشكل راديكالي لفكرة التقدُّم والتطور والإصلاح الزراعي الذي سنَّه الشاه في ثورته البيضاء التي لم تُسفَك فيها قطرة دم واحدة. كان مع الإقطاع والإقطاعيين الكبار ضد الفلاحين البسطاء الفقراء. وكان بإمكان الشاه أن يعدمه، ولكنه لم يفعل، وإنما تركه يذهب بكل حرية إلى منفاه. بعدئذ تحول هذا الشيخ القروسطي الظلامي إلى أسطورة على يد أشياعه وجماعات الإسلام السياسي أو المسيَّس. هذا لا يعني أنني أدافع عن الشاه على طول الخط، كما تفعل فرح ديبا؛ فله مساوئه ونقائصه الكبيرة وغطرساته وعنجهياته التي أودت به. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه كانت له إيجابيات، وليس فقط سلبيات مُنكَرة. ولكن الموجة الأصولية دمرته ودمرت سمعته كلياً، وقد آن الأوان لتدميرها هي الأخرى، بعد أن حكمت إيران مدة 45 سنة متواصلة. وعلى أي حال، فإن أفعالها وأخطاءها الكبرى هي التي دمرتها أو ستدمرها. لقد أشاعت الحزازات المذهبية في المنطقة، وأعادتنا 1400 سنة إلى الوراء. هل سننتظر مليون سنة لكي نتجاوز الفتنة الكبرى التي مزقتنا؟ هنا يكمن خطأ التفكير الأصولي الرجعي المسجون في عقلية ماضوية عفى عليها الزمن. متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية - البروتستانتية في أوروبا وأنقذتهم من جحيم الانقسامات الطائفية والمذهبية؟ متى ستنتصر الأنوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ بانتظار أن يتحقق ذلك ينبغي على جميع الأقليات أن تلتف حول الأكثرية، لأنها هي العمود الفقري للبلاد، ولأن نجاحها سيكون نجاحاً للجميع، وفشلها (لا سمح الله) سيرتد وبالاً على الجميع.

أضيف بأن الحل الوحيد للتطرف هو الإسلام الوسطي العقلاني المعتدل السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها. «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»، كما يقول القرآن الكريم. وهو الذي نصّت عليه «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، و«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عن «رابطة العالم الإسلامي»، في العام ذاته، وهو الذي تعلمته أنا شخصياً في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية، على يد أستاذ التربية الدينية الشيخ محمد أديب قسام. كان فصيحاً بليغاً أزهرياً (خريج الأزهر الشريف). كان يحببك بدرس الديانة غصباً عنك. لا أزال أتذكر كيف كان يشرح لنا الحديث التالي: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت». كأني أراه أمام عيني الآن وهو يشرح لنا هذا الحديث النبوي الشريف. هنا تكمن سماحة الإسلام ومكارم الأخلاق. فإذا كان الإسلام يشفق على الهرة أو القطة أو الحيوانات؛ فما بالك بالبشر؟ هنا يكمن جوهر الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم.