ماريتا الحلاني: الشهرة لا تهمني... تركيزي على النجاح

تلعب بطولة المسلسل المحلي {حكايتي}

تستعد الحلاني لإصدار أغانٍ جديدة
تستعد الحلاني لإصدار أغانٍ جديدة
TT

ماريتا الحلاني: الشهرة لا تهمني... تركيزي على النجاح

تستعد الحلاني لإصدار أغانٍ جديدة
تستعد الحلاني لإصدار أغانٍ جديدة

هي ابنة بيت فني عريق، ترعرعت وكبرت والشهرة تحيط بها منذ صغرها. والدها هو المطرب عاصي الحلاني ووالدتها كوليت الحلاني، التي حصدت لقب ملكة جمال لبنان في عام 1989. بالنسبة إليها الشهرة لا تهمها، فهي اعتادت على هواها الذي يلفحها منذ نعومة أظافرها. «عشتها منذ صغري لأنني كنت أرافق والدي أحياناً كثيرة في تنقلاته بين الاستديوهات والمسارح. وهو ما أسهم في تعرف الناس إليّ بسرعة، لا سيما أني دخلت بعدها عالم الغناء. لذلك فالشهرة لا تعنيني بقدر تركيزي على نجاحي في أعمالي». هكذا ردت الفنانة ماريتا الحلاني على سؤال طرحته عليها «الشرق الأوسط» عن معنى الشهرة بالنسبة لها.
وماريتا التي تطل اليوم في مسلسل (حكايتي) في دور بطولي، تحصد النجاح لأدائها الناضج، على الرغم من أن مشوارها التمثيلي ليس بطويل. فهي سبق وخاضت هذه التجربة في مسلسل (2020) في موسم رمضان الفائت. يومها جسّدت دور «سعاد» الفتاة البسيطة، وكانت مساحة الدور صغيرة، مقارنةً بالذي تلعبه اليوم في (حكايتي) من خلال شخصية «سيرينا». تتابع ماريتا: «واجهت في بداياتي انتقادات كثيرة، بينها ما يتهمني بغياب الموهبة. هناك أشخاص يحبون التجريح ورمي انتقادات غير بنّاءة يميناً ويساراً، لكنني تجاهلتها كلها وقررت أن أعمل بجهد لأنني مهووسة بالمثالية، وعندي المسؤولية الكافية لأتلمس طريقي بثبات. حتى إن بعضهم اتهمني بوصولي إلى الفن بالواسطة، وعلى أكتاف والدي. لم أُعِر كل هذه العبارات اهتماماً، لأنني منذ صغري أحب الغناء والتمثيل معاً، وأعرف تماماً الأهداف التي أريد تحقيقها في حياتي».
كلام ناضج ومسؤول يصدر عن ماريتا ابنة الـ24 ربيعاً التي تستشفّ من حديثها أنها تتمتع بالهدوء وبالتسلسل الفكري، وعقلانية تخوّلها رؤية الأمور بوضوح واتزان. تقول في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «أعلم تماماً أنني ما زلت في بداياتي التمثيلية، ولكنني سعيدة بالجهد الذي بذلته للوصول إلى هنا. لعل التفاعل الذي أشهده اليوم من الناس مع أدائي هو بمثابة مكافأة لي. صحيح أنني لم أدرس التمثيل، ولكنني خضعت لجلسات تدريب مكثفة مع الممثلة فيفيان أنطونيوس والمدرب بوب مكرزل. هذا الأمر زوّدني بالعلم والخبرة معاً، والموضوع تبلور عندما طبّقت ما تعلمته في موقع التصوير. فالدروس مهما بلغت من أهمية تحتاج إلى أرضية للاختبار. وعندما نقف أمام الكاميرا نذهب في منحى آخر، لأن الموهبة هنا تلعب دوراً كبيراً».
كثيرون اليوم يطالبون بممثلين أكاديميين لرفع مستوى الدراما، ألا يزعجكِ هذا الموضوع؟ تردّ: «أبداً لأن هناك لائحة أسماء طويلة من عمالقة التمثيل، لم يتخصصوا في هذا المجال، ولكنهم اجتهدوا وتعبوا كي يصلوا إلى ما هم عليه اليوم. وهذا الأمر يجوز في لبنان كما في دول عربية مجاورة وبلدان غربية. فأنْ تتثقف وتقرأ وتتابع، وتقوم بتجارب تمثيلية، هو أيضاً نوع من أنواع الدراسة».
تروي ماريتا الحلاني قصة دخولها المعترك التمثيلي، معتبرة أنّ موهبتها ترافقها منذ صغرها. «كنت أقلّد فنانين وشخصيات مشهورة، كما كنت أصور مقاطع أقدم فيها اسكتشات مختلفة وأنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والدتي هي أول من لحظ عندي هذه الموهبة وكانت تردد دائماً على مسمعي أنني سأصبح يوماً ما ممثلة». وتتابع: «لم أكن أملك الجرأة بعد للموافقة على عروض تمثيل تُقترح عليَّ من هنا وهناك. كنت أتهرب منها لشعوري بالخجل من ناحية، وبأني لست جاهزة بعد، من ناحية أخرى. عندما عرض عليّ المنتج مروان حداد دور البطولة في (حكايتي) ترددت، ولم يكن بعد قد عُرض مسلسل (2020) الذي أقدم فيه دوراً صغيراً، لكنني حزمت أمري ووافقت وبدأنا التصوير. إنما بُعيد عرض (2020) وتلقي الثناءات على أدائي تحمست لإكمال ما بدأته. وانغمست بدور سيرينا في (حكايتي) واستمتعت كثيراً بذلك. فالتجربة التي خضتها في (2020) زادتني نضجاً، وساعدتني كثيراً على لعب دوري بإتقان في مسلسل (حكايتي)».
تؤكد ماريتا أنّ المنتج مروان حداد والممثلة فيفيان أنطونيوس، كانا أول من وثقا بموهبتها التمثيلية، رغم أنها كانت تمتهن الغناء يومها. «مروان حداد هو شخص رائع يزيد من حماسك، ويعطيك معنويات عندما يتحدث إليك. وهذا الأمر لا نجده لدى كثير من المنتجين الكبار. فغالبيتهم ولأسباب عدة يحاولون أن يُظهروا تفوقهم على الفنان الصاعد، ويرددون على مسامعه بأنهم يغامرون باللجوء إليه. لكن مروان حداد يتصرف على عكس ذلك تماماً، وهو ما ينعكس إيجاباً على فريق عمله». وماذا عن فيفيان أنطونيوس. ما طبيعة علاقتك بها؟ توضح ماريتا: «تعرفتُ إلى فيفيان أنطونيوس منذ عدة سنوات، عندما اخترتها أستاذة تمثيل لي، فتدربت على يديها واستفدت كثيراً من ورش العمل التي أقمناها معاً. بعدها وبالصدفة علمت أنّها كتبت مسلسل (حكايتي) فكانت فرحتي مضاعفة، وهي اختارتني بالاسم لألعب دور البطولة. فلطالما ساندتني وشجعتني ولعبت دوراً مهماً في اجتياز بداياتي التمثيلية بثبات. واليوم عندما أشعر أني بحاجة إلى من ينصحني أو يدلّني على الطريق الصحيح في مهنتي أتصل بها. فإضافة إلى كونها ممثلة قديرة، هي صاحبة شخصية قريبة من القلب وعفوية وصريحة ومحبة».
تتحدث ماريتا عن الصعوبات التي واجهتها بأول أدوارها البطولية الذي تطل فيه اليوم ضمن (حكايتي) على شاشة تلفزيون «الجديد». وتقول: «كوني ألعب دور البطولة، شكّل الأمر الصعوبة الكبرى لي. الموضوع بمثابة تحدٍّ كبيرٍ، وهمّي الأكبر، انحصر في تحقيق النجاح. فأنا متطلبة بطبيعتي ولا أرضى بالأمور الوسط. فنزلت الطريق وبعت الورد في الشوارع، لأقف على مشاعر (سيرينا) التي أجسّدها عن قرب لأنّها بائعة زهور. ومن ثم دخلتُ أجواء العمل واعتدتُ على الفريق وعلى كل شيء وانطلقت. وقوفي إلى جانب ممثلين رواد أعطاني الثقة بالنفس، فكنت أُصغي إلى نصائحهم باهتمام. اليوم أعد نفسي محظوظة كوني تعاونت مع أسماء كبيرة واستفدت من خبراتهم».
وعن النصيحة التي لا تزال ترن في رأسها وحفظتها منهم، تقول: «كانوا يطالبونني دائماً بأن أعيش الحالة وأطفئ جميع المحركات الدائرة في رأسي. فأنا من النوع الذي لا يكفّ عن التفكير على عدد الدقائق. عملت بنصيحتهم واستسلمت للدور بعيداً عن أي أمور أخرى كان يمكنها أن تشوش أفكاري».
وعن الثنائية التي تؤلفها مع بطل المسلسل الإعلامي محمد قيس، ترد: «تربطني صداقة قديمة بمحمد، وكوننا ندخل معاً نفس التجربة رحنا يساند أحدنا الآخر. فهو أيضاً يمارس التمثيل لأول مرة. يقولون إن العمل مع أسماء كبيرة وممثلين محترفين ينعكس إيجاباً على الممثل الصاعد لأنهم يزودونه بالقوة ويحفزونه على تقديم الأفضل، ولكني مع محمد ارتحت كثيراً لا سيما أننا كنا متناغمين ونتدرب ونحضّر لأدوارنا معاً. فكنا يشجع بعضنا بعضاً تلقائياً، وكل منّا يريد مصلحة الآخر».
تخبرنا ماريتا عن رأي والديها فيها كممثلة وتقول: «أمي صريحة جداً، وهي لا تتوانى عن انتقادي في حال أقدمت على شيء لا يعجبها. لكنها تفاجئني حتى اليوم لأنها لم تنتقدني بعد في مسلسل (حكايتي)، فهي سعيدة بالمسلسل ككل، وتؤكد لي أنها كانت ستتابعه حتى لو لم أشارك فيه. وعلى فكرة، والدتي تفضّلني ممثلة أكثر من مغنية، ما رأيك أليست صريحة بما فيه الكفاية؟».
وماذا عن والدك عاصي، ما رأيه فيكِ كممثلة؟ تردّ: «عندما كان مسافراً وفي رسالة إلكترونية، عبّر لي عن إعجابه بي، وبأني فاجأته بأدائي، لا سيما أن الدور مركب».
وعمّا ستحمله لنا الحلقات المقبلة من (حكايتي) تقول: «هناك مرحلة جديدة سترونني فيها بعد مرحلة بائعة الورد وزوجة الثري التي تسكن الفيلا. فتابعوا الحلقات المقبلة تعرفوا عمَّ أتحدث».
تتابع ماريتا الحلاني مسيرتها الغنائية، وهي تستعد لإنزال أغنيتين جديدتين، واحدة بالمصرية من كلمات مايكل بخيت توفيق وألحان سامر أبو طالب بعنوان «أقولك سلام»، أما الأخرى فهي لبنانية بعنوان «ولو» من كلمات وألحان نبيل الخوري وتوزيع سليمان دميان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)