حسني رضوان يحول ألوان البياض إلى حكايات وحيوات مدهشة

في معرضه «شظايا» في «غاليري الزاوية» برام الله

من لوحات المعرض
من لوحات المعرض
TT

حسني رضوان يحول ألوان البياض إلى حكايات وحيوات مدهشة

من لوحات المعرض
من لوحات المعرض

المتجول في معرض الفنان حسني رضوان، الذي يحمل اسم «شظايا»، يقف طويلاً أمام كل لوحة.. يتمسمر، يفكر، يعدل نظارتيه أكثر من مرة إن كان يضع نظارتين، أو يغير زوايا النظر ما بين يمنى ويسرى، يتراجع إلى الوراء قليلاً، ويقترب أكثر أحيانا، لعله يذهب بعيدا في تفاصيل تشظي رضوان، الذي لا يمكن أمام إبداعاته المتتالية منذ سنوات أو عقود، إلا التأمل، بل والمزيد من التأمل في مواجهة لوحات لا تستعصي على التأويل، بقدر ما تحمل تأويلات عدة كما هو حال الأعمال الإبداعية الحقيقية، التي تقول كل شيء ولا تقول شيئًا في آنٍ، وكأنها ترمي بالكرة في أحضان حراس المرمى الجيدين من العابرين والمهتمين بتفاصيل المعرض في غاليري الزاوية بمدينة رام الله.
ما بين «البورتريهات» البعيدة عن المعنى الكلاسيكي للبورتريه، واللوحات الصاعدة إلى السماء، والهابطة إلى ما تحت قاع البحر، ثمة حكايات خلف الشخصيات ضبابية الملامح في لوحات رضوان التي إذا ما جمعتها في عينيك، وألقيت بها مجددًا على الأرض بألوانك الخاصة، تتخلص من «شظايا» الفنان، باتجاه حالة من التكامل الوجداني غير المسبوق، في زمن لم يعد للوحة بشكلها التقليدي قيمة تذكر، مع أنها لا تزال من أساسيات الفن الحديث، وإن اختلفت الآراء إزاء دورها المحوري الآن في الفنون البصرية في الألفية الثالثة.
في اللوحة الأبرز، ربما، يتراءى لي تكوين امرأة بتفاصيل جسدية فاتنة، ووجه بلا ملامح، غابت ملامحه في زحام الألوان وقرقعة ضربات فرشاة الفنان.. تجلس المرأة (التي قد لا يراها آخرون امرأة)، على كرسي يبدو هشًا عن قرب، ومتماسكًا إذا ما عدت إلى وراء بضعة أمتار، تراقب المجهول المحمر، وتستعيد بوجهين أو يزيد، ذكريات ما، هي ليست بالتأكيد كذكريات كل واحد منا، ولكنها تحيله إليها قصرًا، في استرجاع لزمن موجع أو مفرح، أو كليهما معًا، أو رحلة ما جميلة أو قبيحة.. هي حالة «السرحان» في اللاشيء ربما، أو محاولة تبدو يائسة لاستشراف مستقبل غامض كغموض يومياتنا في فلسطين.
وفي لوحة أخرى، تبدو الأجساد أو أنصاف الأجساد أو ثلثاها أو ثلاثة أرباعها كجزء من حكاية أسطورية، أو متخيل سينمائي يحمل زرقة «أفاتار» ورفاقه، بعضهم ينظر إلى منزل كان له، أو لا يزال، أو يمني النفس بالعودة إليه، وبعضهم يدير وجهه إلى الجهة الأخرى وكأنه الجدار الخانق، فيما يفتعل آخرون حالة تبدو وكأنها، على غير الواقع، نوع من اللاإكتراث.
أما اللوحة المزهوة بالصفار، وبالألوان الزاهية، وبينها ألوان العلم الفلسطيني، وما يشبه الكوفية أسفل وجه بين اثنين متعاكسين شكلاها، وكأنها بطلان لراوية خطها رضوان بالألوان ولم يرسمها بالكلمات، فتحمل فيما تحمل من تأويلات، حكاية تحولات الفلسطيني وقضيته بين زمنين أو أكثر، وانعكاسات المراحل السياسية المتعاقبة، ولربما في العقدين الأخيرين عليه، ما بين مقاوم ومسالم، أو مقاوم ومقاوم بشكل آخر، أو مستسلم «منبطح» وأكثر انبطاحًا واستسلاما، فيما يمكن إسقاطها على واقع المثقف الفلسطيني في زمن العولمة، وتسليع المنتج الإبداعي عمومًا، لكنها في النهاية تعبير حالة «انفصام» بامتياز.
وفي اللوحة التي يمكن أن نسميها «طاولة الشاي»، هناك حكايات العابرين في المقاهي والمنافي حين يلتقون صدفة، ويسردون روايات البرتقال التي تكاد رائحتها العبقة تخبو أمام رائحة المعسل والتمباك المعتق، أو لعلها حكايات الأصدقاء في مقهى برام الله، تبدو كنميمة أحيانا، أو «فضفضة» أحيانا أخرى، أو ليست إلا تعبيرًا عن حميمية ما.
ولا يمكن المرور من بين اللوحات المتنوعة على أهميتها، عن لوحة السيدة الجالسة على السلم (الدرج)، وإن كانت رسمت بخطوط بسيطة تبدو مقصودة، ففيها الكثير من الانتظار الذي بات هاجسنا اليومي في فلسطين، وقد تعكس أيضا حالة إنسانية في زمن «الديجيتال» و«التتش».
في «شظايا» حسني رضوان، تتحول الألوان إلى حكايات وحيوات، وكأنها بالفعل كما قال أحد أصدقاء رضوان على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: وصارت الألوان أرواحًا، تسكن أجسادًا ميتة.. ورق على قطعة خشب تحولها إلى كائن حي مثلنا.. روح وجسد يستمد منا صفتنا للحياة، ونستمد منه تلك الطاقة التي تمكننا من الحياة.. يا لتلك الألوان المخيفة بروعتها، كيف لها أن تحمل هذا الكم الهائل من الطاقة، التي عجز البشر عن حملها، ربما لأنها اجتمعت مع بعضها بألفة وحب، عجز البشر عن الإتيان بمثله. علينا أن نكون ممتنين إذن، للفنان حسني رضوان، الذي مزجها معًا بدقة وحرفية نبعت من طاقة الحب والمشاعر النبيلة بداخله، فصورت لما الفن بأجمل وأبهى صورة.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.