اكتشاف أعمال جديدة للكاتب الفرنسي المثير للجدل لوي فرديناند سيلين

وصف بأنه «الأعظم في التاريخ الأدبي على الإطلاق»

سيلين
سيلين
TT

اكتشاف أعمال جديدة للكاتب الفرنسي المثير للجدل لوي فرديناند سيلين

سيلين
سيلين

دخل جان بيير تيبودات، وهو كاتب في الشأن الثقافي بإحدى الصحف الفرنسية، مكتب إيمانويل بييرا، المحامي المختص بالملكية الثقافية، يجرجر حقيبتين ضخمتين محشوتين بالأوراق الصفراء المملوءة بالكتابة المخربشة.
كان السيد تيبودات قد أخبر المحامي على الهاتف أنه «شيء ضخم»، قبل أن يأتي إلى مكتبه العام الماضي بحقيبتيه المنبعجتين.
في الداخل وجد السيد بييرا كنزاً أدبياً: مخطوطات مفقودة منذ زمن بعيد للوي فرديناند سيلين، الكاتب الفرنسي مثار الإعجاب والكراهية معاً، والذي ألف روائع مثل «رحلة إلى أقاصي الليل» التي نشرت عام 1932، بالإضافة إلى كراسات معادية للسامية.
«هذا أعظم اكتشاف أدبي على الإطلاق»، قال ذلك السيد بييرا مندهشاً في أحد الحوارات، واصفاً حالة الإثارة التي انتابته حين فرش الأوراق حول مكتبه وتفصحها مع السيد تيبودات.
كان سيلين يقول دائماً إن المخطوطات سرقت من شقته في باريس بعد هربه إلى ألمانيا عام 1944 نتيجة خوفه من أن يعاقب بوصفه متعاوناً بعد تحرير الحلفاء للمدينة.
بعد عقود من البحث غير المجدي، فقد معظم المختصين بسيلين الأمل بالعثور على المخطوطات - 6000 صفحة غير منشورة تضمنت نسخة كاملة من رواية طبعت فقط بصورة غير مكتملة، إلى جانب عمل لم يكن معروفاً من قبل.
قال السيد تيبودات إنه أُعطي المخطوطات من قبل فاعل خير، أو فاعلي خير، لم يكشف عن هويتهم - ورفض إعطاء مزيد من التفاصيل - قبل نحو 15 عاماً. لكنه خبأ الكنز منتظراً أرملة سيلين حتى تتوفى، بناء على طلب فاعل الخير الذي كانت رغبته أن «أسرة معادية للسامية» لن تستفيد من الكنز الدفين، حسبما ذكر في إحدى المقابلات.
والآن ها هو قد جاء إلى مكتب المحامي بييرا آملاً في الاحتفاظ بها في المجال العام، حيث يمكن للباحثين الوصول إليها.
«لقد فقدنا الأمل في العثور عليها»، قال آنك دورافور، وهو باحث في الشأن الأدبي ألف كتاباً عن معاداة سيلين للسامية. «إنه لأمر مذهل».
بيد أن الاكتشاف ما لبث أن صار مثار جدل. رفع ورثة سيلين دعوى ضد السيد تيبودات في فبراير (شباط)، متهمينه بالتعامل مع مسروقات ومطالبين بالمخطوطات بوصفهم المالكين الحقيقيين لتركة سيلين.
الاكتشاف وتهمة السرقة اللذان كشفت عنهما أولاً صحيفة «اللوموند» أثناء الصيف، نتجا عن معرفة جديدة بسيلين في فرنسا. كان دون شك روائياً عظيماً، لكنه اعتنق حكومة متعاونة مع النازيين أرسلت كثيراً من اليهود الفرنسيين إلى المعتقلات أثناء الحرب العالمية الثانية. يُدرّس في المدارس الثانوية لأسباب تعود بصفة خاصة إلى أسلوبه الثوري في التقاط الطريقة التي يتحدث بها الناس، لكنه أيضاً ممن يذكِّرون الفرنسيين باستسلام بلادهم لألمانيا ودورها في المحرقة.
يقول الباحث الأدبي ديفيد أليوت إن المسألة بالنسبة للعديد من الفرنسيين هي أنه إذا كان سيلين «عبقرية أدبية» فقد كان إنساناً عميق العيوب. «ولسنا نعرف كيف نتعامل مع شخص مثله في فرنسا. إن تاريخ فرنسا هو ما نجد في هذه المخطوطات».
في يونيو (حزيران) 1944، رست قوات الحلفاء على ساحل نورماندي، فهرب حشد من المتعاونين من باريس، ومنهم سيلين الذي غادر مع زوجته الجديدة لوسيت دستوش، فيما كانت قطته بيبير تحت ذراعه وقد خاط بعض الذهب داخل سترته. قال إنه ترك مخطوطاته خلفه في شقة مونمارتر محشوة داخل دولاب. لكنها اختفت بعد ذلك.
يبقى كثير من التفاصيل حول كيفية وصولها إلى يدي السيد تيبودات غامضة.
عاد سيلين إلى فرنسا عام 1951 بعد أن حصل على عفو. وقد ألقى باللائمة على أوسكار روزمبلي، وهو جار له وظفه ليتولى حساباته، بشأن اختفاء الأوراق - تهمة لم يُعرف أنه أنكرها.
«كان روزمبلي رجلاً مثقفاً يعرف أن سيلين كاتب عظيم وأن هذه الوثائق مهمة»، ذلك ما ذكره إيميل برامي، وهو بائع كتب يهودي في باريس يبلغ الحادية والسبعين من العمر كرس حياته لأعمال سيلين. «المسار الوحيد المتاح اليوم هو مسار روزمبلي».
في أواخر التسعينات، ذكر برامي أنه وجد ماري - لوس، ابنة روزمبلي، في كورسيكا، وأخبرته أنه كان لديها «كثير من الأشياء المتعلقة بسيلين». لكنه لم يتمكن من لقائها لأنها كانت تلغي المواعيد في اللحظة الأخيرة وباستمرار، حسبما قال. عندئذٍ توقف عن المحاولة وتوفيت الآنسة روزمبلي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 ومعها أسرارها.
ذكر السيد تيبودات، الذي حمل المخطوطات إلى المحامي، أنه لم يسمع بالسيد روزمبلي قبل أن يجري معه البوليس مقابلة في يوليو (تموز) بعد إقامة الدعوى.
قال إنه تلقى المخطوطات - التي تضمنت نسخة كاملة من رواية «كاسبيب» (Casse-pipe) التي نشرت جزئياً عام 1949، بالإضافة إلى رواية لم تكن معروفة من قبل عنوانها «لندره» (لندن) - في أوائل الألفين من مصدر رفض التصريح به.
قال في مقابلة هاتفية: «أولئك الذين أعطوني إياها رأوا أنهم يتخلصون منها. كانت عبئاً عليهم». في الوقت الذي وصلت إليه المخطوطات، كان السيد تيبودات يكتب فيه عن قضايا ثقافية لصحيفة «ليبراسيون».
كان لمصدره مطلب واحد، كما ذكر: الاحتفاظ بالمخطوطات سراً حتى تتوفى السيدة دستوش، أرملة سيلين. قال له المانح إن الهدف هو الاحتفاظ بالمكاسب المحتملة - التي قد تبلغ الملايين من الدولارات - بعيداً عن أسرة تلوثت بمعاداة السامية.
الأوراق التي وصلت إلى السيد تيبودات كانت خليطاً مربوطاً بمشابك غسيل خشبية - الطريقة التي اعتاد سيلين أن يربط بها الأوراق المفككة من أعماله.
قال السيد تيبودات في المقابلة: «لقد قيدني ذلك القَسَم؛ لم أستطع خيانة أولئك الناس. لذا كنت أنتظر. لم أتوقع أن يطول الأمر إلى هذا الحد».
توفيت السيدة دستوش في نوفمبر 2019 وعمرها 107 أعوام، ما منحه الوقت الكافي لتفحص الأوراق، استكشافها ونسخها، حسبما ذكر.
قال إنه «كان عملاً مضنياً ولكنه حسي. قضاء ليالٍ بأكملها وحيداً مع مخطوطات سيلين بشعور لا ينسى».
التقى السيد تيبودات بورثة سيلين في يونيو (حزيران) 2020 ومحاميه إلى جانبه. لم يكن اللقاء طيباً.
اقترح السيد تيبودات أن تعطى المخطوطات لمؤسسة عامة لكي تكون بمتناول الباحثين. غضب فرنسوا غيبولت ذو 89 عاماً وفيرونيك شوفان البالغة 69 عاماً، ورثة أعمال سيلين من خلال علاقتهما بالأسرة بوصفهما من أصدقائها، فرفعوا دعوى ضد السيد تيبودات مطالبين بتعويض عن المبالغ المفقودة طوال أعوام.
يقول السيد غيبولت، وهو أيضاً مؤلف كتاب عن حياة سيلين، في مقابلة معه: «إن إيمانويل بييرا وتيبودات يقدمان نفسيهما كما لو كانا متبرعين كريمين. يروعني هذا».
أخيراً في يوليو، سلم السيد تيبودات المخطوطات حسب أمر المدعين العامين. وفي مقابلة مع البوليس امتدت لأربع ساعات، رفض السيد تيبودات أن يسمي مصدره. وما زال التحقيق مستمراً.
يقول جيريمي أسوس، محامي ورثة سيلين وصديقهم منذ أمد بعيد: «خمسة عشر عاماً من ترك كتب كتلك دون استعمال يساوي ملايين اليوروات. إنه لا يحمي مصدره وإنما يحمي لصاً».
قبل عشرين عاماً، اشترت الحكومة الفرنسية المخطوطة الأصلية لرواية سيلين «رحلة إلى أقاصي الليل»، أول أعماله وأشهرها، لقاء مليوني يورو، ما يعادل 2.3 مليون دولار.
نشر المخطوطات المكتشفة حديثاً تجري مناقشته مع عدة دور نشر فرنسية، وهو حدث ينتظره المشهد الأدبي الفرنسي بتلهف.
«سيغير ذلك من معرفتنا بالفترة الأدبية الأولى من حياة سيلين تغييراً تاماً»، كما يقول الباحث السيد أليوت. «سنقرأ الحرب العالمية الأولى كما رواها سيلين - إنه لأمر مدهش».
بالنسبة للورثة، هناك ضغط للتوصل إلى نهاية للقضية. ستؤول أعمال سيلين للمجال العام خلال عشرة أعوام، ما يسمح لأي ناشر ببيعها دون أن يدفع شيئاً.
أحد مصادر القلق لدى الدارسين أن ورثة سيلين سيحاولون تنظيف تاريخه في معاداة السامية بالاحتفاظ بالأوراق بعيداً عن الجمهور.
السيدة دورافور، التي كانت فاعلة في حملة ناجحة عام 2018 لمنع إعادة نشر كراسات لسيلين معادية للسامية، أحد الذين يقلقهم الأمر.
تقول: «رغبتنا القوية هي أن يتاح الوصول الكامل إلى المخطوطات. ماذا سيفعلون لو وجدوا وثائق تؤثر على السمعة؟ لسنا متأكدين».
غير أن السيد غيبولت يقول إنه لن يخفى شيئاً. ويرى السيد برامي، صاحب المكتبة الذي درس سيلين، أن ماضي الكاتب السيئ معروف مسبقاً.
يقول: «إن نشرنا نصوصاً لسيلين معادية للسامية بين ما عثرنا عليه، فلا أظن أن ذلك سيغير سمعته بوصفه معادياً للسامية على أي نحو من الأنحاء. ذلك أمر متحقق».

* خدمة «نيويورك تايمز»



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟