مجسمات «الشناشيل» تمنع اندثار التراث العمراني العراقي

يُبدعها عدد قليل من قدامى النجارين

الفنان عماد العزاوي صانع «الشناشيل»
الفنان عماد العزاوي صانع «الشناشيل»
TT

مجسمات «الشناشيل» تمنع اندثار التراث العمراني العراقي

الفنان عماد العزاوي صانع «الشناشيل»
الفنان عماد العزاوي صانع «الشناشيل»

تمثل الشناشيل جزءاً من التراث العمراني العراقي، ولا تزال البيوت القديمة شاهدة على هذا الفن الأصيل رغم تهالك معظمها وضياع ملامحها، وفي محاولة للإبقاء على الشناشيل حية وحاضرة بقوة في الوجدان الشعبي يقوم بعض الفنانين العراقيين بإبداع مجسمات خشبية تحاكيها وتبرز عبق التاريخ ومكامن الجمال والإبهار فيها.
والشناشيل تُعد من أهم عناصر الهوية الجمالية للبيوت في مختلف الأحياء والأزقة القديمة لمدن يعود إرثها للحضارة السومرية، فقد عرفت الشناشيل في العراق منذ مئات السنين، لا سيما في البصرة وبغداد، وفق المهندس المعماري المصري محمد هنداوي، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»، «الشناشيل هي واجهات خشبية تأخذ مساحة كبيرة في الغالب من البيوت من الخارج، وتتصل بشرفات المباني، وتشغل بالزخارف والنقوش التي يتم إبداعها بعناية فائقة ودقة بالغة على الطراز الإسلامي».
ويتابع: «تبرز الشناشيل من خلال تصميمها واجهة الطوابق العليا من البيت، إما بأكملها أو إحدى غرفها بشكل ناتئ إلى الأمام، وهي من جهة تعكس الحضارة الإسلامية والفن البغدادي القديم على واجهة البيوت ومن جهة أخرى تمنحها عوامل وظيفية عديدة، في مقدمتها الحفاظ على الخصوصية واحترام المرأة، وفق العادات والتقاليد العربية، إذ تسمح للمرأة أن تنظر من الداخل وتشاهد ما يدور في الخارج من دون أن يراها أحد، كما تحفظ للمنزل من الداخل أجواءه اللطيفة المعتدلة عبر عملية التبريد التبخيري التي تقلل من الحرارة الكامنة للهواء، وتُعد نموذجاً لتطوير طريقة البناء المتماهي مع البيئة المناسبة للطقس بالمنطقة العربية بمعزل عن أجواء الصحراء الحارة، وهي بذلك تتشابه مع الشرفات في العديد من الدول العربية مع اختلاف الأسماء مثل مصر (المشربيات)، والجزيرة العربية (الرواشين) إلى جانب بلاد الشام وتونس».
وانطلاقاً من هذه القيم الجمالية والوظيفية حاول كثير من المعماريين العرب إعادة إحياء الشناشيل، وكان من أشهرهم المعماري المصري حسن فتحي، كما كانت هناك محاولات لترميمها وتجديدها في بعض المدن إلا أن ذلك كله ظل في أطر محدودة ونتاجاً لجهود فردية ما جعلها مهددة الآن بالاندثار، وهو ما دفع بعض الفنانين والحرفيين إلى تقديم أعمال نحتية ومجسمات تحاكيها كيلا يطويها النسيان، على حد قول العم عماد العزاوي أحد أبرز النجارين العراقيين الذين اشتهروا ببراعتهم في هذا المجال، وفي لقاء جرى عبر الهاتف مع «الشرق الأوسط» يقول: «أهتم بالشناشيل. إنها تمثل رافداً يغذي الثقافة ويشبع حنين العراقيين إلى نشأتهم، فللأسف تعاني معظم البيوت الآن من تهالك واجهاتها المميزة، بل لقد غاب الكثير من البيوت عن الوجود من الأصل، ولكم يشعر المرء حين يتجول في أحياء مثل (السرية والصابونجية والجديدة) وغيرها بالحسرة»، ويضيف قائلاً: «رأيت أن في تنفيذ مجسمات تحاكي الشناشيل للاحتفاظ بها كقطع ديكور داخل المنزل أو في المطاعم أو مكاتب العمل والأماكن السياحية إنما هو نوع من تذكير الناس بها وأسلوب غير مباشر للمحافظة عليها من الاندثار، وإعادة إحيائها، وذلك يمثل الطريقة الوحيدة التي أملكها للإبقاء على شخصيتنا المعمارية العريقة».
وقد لاقت محاولة الرجل الخمسيني صدى جيداً للغاية في نفوس العراقيين، لا سيما كبار السن والمهاجرين للخارج، ما يؤكد أن الجميع في حالة تعطش لأيام جميلة من عصر انتهى، وربما يصعب استعادته على حد تعبير العم عماد: «وصل الأمر ببعض الأشخاص حين رأوا المجسمات أنهم قالوا (نبيع ملابسنا لكي نقتني هذه الأعمال، إنها جزء غال من العمر والذاكرة)».
ويتابع: «الآن يستطيع العراقيون ممن يقتنون منحوتاتي أو منحوتات سائر النجارين أن يستعيدوا ذكرياتهم مع الآباء والأجداد حين كانوا يجلسون داخل منازلهم ذات الشناشيل بالأزقة الشعبية والأحياء العتيقة يستمتعون بالنغمات الساحرة لآلة المربع ويتمايلون على المقام البغدادي، ويرتشفون الشاي العراقي مع الأحاديث في شتى الموضوعات، بينما تتبادل النساء الأخبار والتحيات في أي وقت من دون خوف أن يشاهدهن أحد، فقد كانت الشناشيل تحفظ لهن خصوصيتهن وأسرار نظراتهن وكلامهن، كما كانت الشناشيل تحتضن المارة والصبية الذين يلعبون وسط هذا التراث في الشوارع».
لكن يشعر العزاوي بالحزن الشديد، كلما شاهد مجسمات من الشناشيل تفتقد دقة الصنع وجودة الخامات: «مثلما أتحسر على ضياع الشناشيل الحقيقية من واجهات البيوت، يتملكني الحزن العميق عندما أرى البعض من التشكيليين أو النجارين غير المهرة يشوهونها من خلال مجسمات وأعمال مليئة بالعيوب الفنية، إلى جانب اتباع تقنية غريبة عنها، ما يتسبب في سلبها أصالتها وجمالها، فهذه الأعمال غير الجيدة سيكون لها نتائج عكسية على المدى البعيد، لأنها ربما تزيح من الذاكرة الصورة الأصلية ليحل محلها صورة مشوهة، أستطيع القول إن أقل من 5 حرفيين عراقيين هم من يجيدون إبداع نماذج صحيحة لها».
وأكثر ما يميز الشناشيل العراقية عن أي طرز أخرى هو طبيعة زخارفها المتناظرة مع الفسيفساء وتصميم الشباك، وطريقة فتحه، إلى جانب احتفائها بتعدد وتناسق ألوان الزجاج الذي يتم تبطينها به ما بين الأحمر والأزرق والأخضر على وجه الخصوص، وفق العزاوي الذي أضاف في سياق حديثه: «تحتاج صناعتها
أيادي ماهرة، وصبراً ودقة وحباً وإحساساً عالياً بالحنين إليها، يكفي أن النموذج الواحد قد يضم نحو 7 آلاف قطعة، ويستغرق تنفيذه ما يتراوح بين شهرين إلى 6 أشهر، حسب حجمه وتفاصيله وزخارفه».
لم تلهم الشناشيل النجارين وحدهم في العراق، إنما ألهمت كذلك الشعراء والأدباء والتشكيليين، فلا تزال على سبيل المثال قصة «حب نجار الشناشيل لابنة الجيران» تلهب مشاعر العاشقين، وقصيدة بدر شاكر السياب «شناشيل ابنة الجلبي نور حوله الزهر» حاضرة في الوجدان العربي كله لا العراقي وحده، إذ تثير الشجن والحنين إلى لحظات وصفها الشاعر بقوله: «مددت الطرف أرقب: ربما ائتلق الشناشيل، فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)