ديفيد كونستنتاين... تأخر الاعتراف به كثيراً لأنه خارج «الموضات الشعرية»

الشاعر البريطاني الفائز بميدالية الملكة الذهبية للشعر

الشاعر ديفيد كونستنتاين
الشاعر ديفيد كونستنتاين
TT

ديفيد كونستنتاين... تأخر الاعتراف به كثيراً لأنه خارج «الموضات الشعرية»

الشاعر ديفيد كونستنتاين
الشاعر ديفيد كونستنتاين

أصبح الشاعر البريطاني ديفيد كونستنتاين، رسمياً، الفائز الواحد والخمسين بـ«ميدالية الملكة الذهبية للشعر»، التي تضم قائمتها أسماء شعرية كبيرة في بريطانيا وفي دول الكومنولث، مثل ديريك والكوت، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1992، وستيفي سميث، وجون بنجامين، ودبليو. إتش. أودن، وكاتلين رين، وتيد هيوز، وأر.أس. توماس، وفيليب لاركن، ودوغلاس دن، وجيليان كلارك، ودون باترسون، والشاعر الأسترالي لي موراي، الذي كان قد رشحه آنذاك شاعر البلاط البريطاني الراحل تيد هيوز. وكان فوز الشاعر قد أعلن السنة الماضية، ولكن تأخر تسليم الميدالية الملكية بسبب ظروف الجائحة.
هذا الاعتراف بكونستنتاين كواحد من أفضل شعراء جيله، جاء متأخراً بعض الشيء، ربما بسبب أن شعر كونستنتاين هو «خارج الموضات الشعرية والشكلية الأدبية»، كما يقول الكاتب البريطاني ستيفن نايت. وربما يكون هناك سبب آخر هو أن قصيدة كونستنتاين قصيدة مركبة، بمعنى أنها تجمع ما بين اليومي والبعد الميتافيزيقي أو الروحي، حتى في سطر واحد. ومن هنا صعوبة الوصول إلى دلالاتها وإيحاءاتها، وإلى ما تشير إليه خارج إطارها. لكنه، مع ذلك، ليس شاعراً رمزياً...
ربما تكون قصيدته أقرب إلى ما يمكن أن نسميه «القصيدة المثقفة»، لكنها لا تتحول إلى مجرد معادلات فكرية أو فلسفية كما عند بعض الشعراء، بل تصل إلى العقل من خلال القلب، وهي قصيدة تستلهم الأسطوري، خصوصاً التراث الإغريقي، وعناصر الطبيعة، التي تقترب من التجريد، لكنها لا تغرق فيه، بل سرعان ما تعود إلى اليومي والمألوف حتى في البيت الواحد، عبر لغة متقشفة إلى حد بعيد، وموسيقى خافتة أقرب إلى الهمس. لهذا الأسباب ربما، لم ينتشر شعره شعبياً، على عكسه مجايله أندرو موشن «شاعر البلاط البريطاني» السابق، أو سايمون آرميتاج، شاعر البلاط البريطاني الحالي، الذي يصغره بحوالي عشرين سنة، والذي رشح كونستنتاين لنيل الميدالية. فعادة شعراء البلاط البريطاني هم الذين يرشحون شاعراً لها.
لكن قبل كل شيء، قصيدة كونستنتاين قصيدة إنسانية، بمعنى أن الإنسان هو محورها المركزي. وهو يؤمن بأن موضوع الشعر هو الإنسانية، وهو أس علاقتنا مع هذا العالم «الذي يزداد مأساوية». الشعر لا يستطيع، كما عبر عقب فوزه بالجائزة، أن يصوب أشياء كثيرة خاطئة تحصل في العالم، فالسياسات الإنسانية الصائبة هي وحدها القادرة على ذلك، لكن الشعر يشير لهذه الأشياء، ويسمي ما يمكن أن نخسره، وما يمكن أن نفعله إزاء ذلك.
وتمنح الميدالية الملكية الذهبية للشعر سنوياً في عيد ميلاد شكسبير في الرابع والعشرين من أبريل (نيسان) لشاعر حي حقق إنجازاً شعرياً متميزاً تختاره لجنة مؤلفة من عدة نقاد وشعراء رأسها هذا العام شاعر البلاط الملكي، وهو هذه المرة الشاعر سايمون آرميتاج، الذي فاز بها هو نفسه عام 2018. ومن الذين فازوا سابقاً بميدالية الشعر، منذ تأسيسها عام 1933 في عهد الملك جورج الخامس بمبادرة من شاعر البلاط البريطاني آنذاك جون ماسفيلد، وأول شاعر يفوز بها هو لورانس ويسلر، عام 1934.
كانت الجائزة مفتوحة فقط للرعايا البريطانيين الذين يعيشون في المملكة المتحدة، ولكن في عام 1985 تم توسيع النطاق ليشمل أشخاصاً من بقية عوالم الكومنولث. يتم تقديم التوصيات للملكة لمنح الميدالية من قبل لجنة من العلماء والمؤلفين البارزين غالباً برئاسة شاعر البلاط البريطاني، وهذه المرة هو سايمون آرميتاج، الذي حصل نفسه على الميدالية عام 2018.
ويحمل وجه الميدالية، التي صممها إدموند دولاك، تمثال الملكة المتوج. ومكتوب عليها: «الحقيقة تخرج من بئرها وتمسك بيدها اليمنى شعلة الإلهام - الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال»، المأخوذ من قصيدة جون كيتس «أنشودة إلى جرة إغريقية».
وسلم الميدالية للشاعر نيابة عن ملكة بريطانيا شاعر البلاط البريطاني سيمون آرميتاج، ثم تحدثت الملكة نفسها مع الشاعر الفائز افتراضياً يوم الجمعة الماضي، عبر منصة «زووم» من مكان إقامتها في وينزر كاسل، بسبب ظروف الملكة الصحية البالغة التي نصحها الأطباء بالخلود للراحة لفترة أسبوعين. وعبرت الملكة عن سعادتها بلقاء الشاعر، ثم سألته مازحة:
«لا أعرف ماذا ستفعل بهذه الميدالية... أين ستحتفظ بها... في الخزانة؟»، وعندما قال لها بأنه أولاً سيريها لأطفاله وأحفاده الذين ينتظرونه في البيت، أجابته: «حسناً. إنها ميدالية جميلة... أليس كذلك؟».
ولد ديفيد كونستنتاين عام 1944 في منطقة سالفورد، مقاطعة لانكشير البريطانية. درس اللغات الحديثة في جامعة أوكسفورد، وكان زميلاً في «كوينز كولج». ودرس اللغة الألمانية في جامعة «درم» من 1969 إلى 1981، وفي جامعة أوكسفورد من 1981 إلى 2000.
وكونستنتاين هو مترجم أيضاً عن الألمانية. وقد ترجم قصائد مختارة لكل من هولدرلين وهانز إنزسبيرغر. من مجموعاته الشعرية: «مراقبة الدلافين»، و«مادر» و«هوسر»، و«شيء للأشباح»، و«زنار الدبابير». وكتب روايتين «ديفيز والحياة الشتائية» و«حقول النار»، وكذلك عدة مجاميع قصصية قصيرة. وتحولت إحدى قصصه القصيرة المعنونة «في بلد آخر» إلى فيلم سينمائي.
من شعر ديفيد كونستنتاين:

*بينما تفترق دماؤنا

بينما تفترق دماؤنا
تعاود الساعة دقاتها
وتهدأ قلوبنا.
كنا دائرة: الساعة تتك حولنا
معلنة الوقت.
الريح مهجورة،
الساعة تثقب كل شيء حتى العظم.
الريح تدخل عيون البيوت المفتوحة
وأفواهها الواسعة
ناثرة رماد الموقد.
نم. تمسك بيدي.

*أغنية الطير

أكثرهم نيام
والبعض ينتظر الرحمة يائساً،
لكن، حتى مع الرحمة، لن يسمح لآخرين بالبقاء،
غير أنا، نحن الذين لم ننم
من أجل قدر من السعادة،
نسمع الفجر يشارك في أغنية
مثل تساقط الندى،
فنتوهم أن طريقنا
كورس من أشجار.

*بعيدة أنت، أنت تغادريننا الآن

بعيدة أنت، أنت تغادريننا الآن
ستظهرين فقط ما بين القطارات
وسنتقابل هنا وقت الانتظار
وآخر ما تريدن إطلالة عيوننا عليك
لن نقول شيئاً، ولن نفعل.
أثناء كل ذلك
لن تكون هناك هدية لتبهجنا.
ستنظرين باتجاه آخر،
ستتخذين باتجاه آخر،
ستتخذين مقعدك
خلف مقعد زجاجي مع غرباء.
أنت ترحلين من هنا.
وعندما لا يكون انتهاء للرحيل
ربما ستبتسمين
وتمنحين وجهك حينها
شيئاً قليلاً من نعمة البكاء.

(من كتاب «خمسون عاماً من الشعر البريطاني». ترجمة: ف.س)



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!