بثينة العيسى: الكتابة هي الطريقة التي أوجد من خلالها في العالم

الروائية الكويتية ترى أن كل رواية تكتبها هي رواية أولى

الروائية الكويتية بثنية العيسى
الروائية الكويتية بثنية العيسى
TT

بثينة العيسى: الكتابة هي الطريقة التي أوجد من خلالها في العالم

الروائية الكويتية بثنية العيسى
الروائية الكويتية بثنية العيسى

ترى الروائية الكويتية بثينة العيسى أن الكتابة هي الطريقة التي توجد من خلالها في العالم، وأن دوافعها دائماً مركَّبة وفيها شيء من الأنانية. وهي ترى «أن الفكرة المهيمنة تتحكّم حتى بطبيعة الاستعارات التي تتولّد في النّص». من هذا المنطلق تطرح في روايتها الأحدث «السندباد الأعمى» وجهاً سردياً للحرب وآخر للوباء، في محاولة لتجسيد أفق مغاير لثنائية العشق والخذلان.
صدرت لها عشرة أعمال روائية منها «خرائط التيه» و«حارس سطح العالم». وتُسهم في مشهد صناعة النشر، عبر تأسيسها وإدارتها لمكتبة ودار نشر «تكوين» في الكويت منذ عام 2016... هنا حوار معها حول روايتها الجديدة وتجربتها الأدبية:

> ارتبطت رحلتكِ مع الكتابة منذ الطفولة بالغزو العراقي للكويت، هنا في الرواية يظهر تأمل هذا الحدث المفصلي من مستويات عُمرية مُتعددة، أبرزها مستوى الطفولة واستدعاءاتها عليك. حدثينا عن ذلك.
- منذ مرأى والديّ وهما يلصقان النوافذ بالشريط اللاصق، ويرصَّان المعلبات وأكياس الطحين والأرز فوق بعضها في سرداب البيت، مروراً بصناعة ثياب عجيبة من أكياس القمامة، تبدو لائقة بكائنات فضائية، وخرافة التصدي للأسلحة الكيماوية بفحم الشواء، وانتهاءً بدفن الحليّ تحت سدرةِ البيت، وما تلاها من أفكار مثيرة عن حقيقة أنني أنتسب إلى عائلة من «القراصِنة» لديها كنز مدفون. هذه ذاكرتي، وهي ذاكرة طفلة متورّطة بمخيّلة حيّة، عاجزة في الوقت نفسه عن فهم أبسط الأشياء الواقعية. نقاط السيطرة، لعلعة الرصاص، أخبار تفتيش البيوت، وحقيقة أننا لن نذهب للمدرسة مرة أخرى. كنتُ أشعرُ دائماً، عند الكتابة عن هذه الحقبة، بأننا نكتب السردية التي تبنتها وسائل الإعلام الرسمية، عن أبطال وضحايا، عن أخيار وأشرار، وأعرفُ أنني منذ سنوات وأنا أرغب في كتابة الاحتلال كما عشتُه، أن أكتب ذاكرتي البصرية بالدرجة الأولى، عن التجربة مفتتة في تفاصيل صغيرة منذ سعر كرتونة البصل وحتى الثانية التي سبقت خبر التحرير.
> يظهر «السندباد» في الرواية بمختلف تصوراته، الكارتونية، الفلكلورية، البطولية. كيف وقع اختياركِ على السندباد بتراثه الفانتازي، وتمكينه من مجازات ومفاتيح عالمكِ الروائي الجديد؟
- الحقيقة أنني لا أمانع أن أعنوِن عملي بكلمةٍ من خارج النص، بل إن جانباً مني يحبُّ هذا المنحى، شيء على غرار ما فعله أمبرتو إيكو في «اسم الوردة»، عندما كتب رواية عن جرائم قتل في دير، ولم يكن ثمة ورد.
لكنني في العادة لا أضطر لعنوانٍ يبدو «شبه دخيل» على العالم الروائي، وهو دخيل إذا لم نلعب معه لعبة تأويل المعنى، لكن بالنسبة للسندباد، أسبابي على الأرجح واضحة لكل كويتي وعراقي على الأقل. أولاً؛ أن السندباد «البغدادي» له تمظهرات ثقافية حميمة في الذاكرة الكويتية، منذ أن كتب ألن فلييرز «أبناء السندباد» عن البحارة الكويتيين الذين أبحروا في آخر سلالة موشكة على الانقراض من السفن الشراعية، ثمَّ من خلال ديوان «مذكرات بحار» لمحمد الفايز الذي صدر في 1962 وتحوّل في 1979 إلى أوبريت «السندباد» بشطرهِ الشهير؛ سأعيد للدنيا حديث السندباد، وحتى عبر مسرحية «السندباد البحري» في 1978.
يمكن القول إن وجه الشبه بين السندباد والعدنيّات هو هذا، لقد صنعنا من الاثنين نسخة كويتية. وهكذا كنتُ، مثل إيكو أمام الوردة، أقف أمام كلمة، أو بالأحرى اسم علَم، محمّل بذخيرة تاريخية وثقافية ودلالية خصبة، عوضاً عن كونها المشترك الثقافي بين شعبين وجدا نفسيهما في خضمّ مسرحية عبثية أليمة ما زلنا ندفع فواتيرها حتى هذه اللحظة.
النقطة الأخرى أنني كنتُ أكتب عن جيلٍ ممسوخ، عن أحفاد أحفادِ السندباد لا عن أبنائه الذين كتب عنهم فلييرز، عن الذين ما عادوا امتداداً لمكانهم، وعن أبنائهم الذين «لا يجيدون اللغة العربية ولا يحبون البحر ولا يعرفون من هم»، عن الساقطين في هوّة عدم اليقين إلى الأبد، إن الجانب التراجيدي هو أنَّ سلالة السندباد في الكويت قد تشوهت لأسباب كثيرة، ليس أولها النفط ولا آخرها الغزو.
> يبرُز «العمى» كثيمة رئيسية في الرواية، بداية من ربطه بالسندباد، مروراً بطرحه كعريضة مظلومية في وجه «عالم فقد نقاءه للأبد»، ما مبرر ذلك فنياً برأيك؟
- أعتقدُ بأنَّ الأمر واضح، فلا أحد من الشخصيات تقريباً رأى الآخر؛ أعني رآه بالمعنى الذي يجعله قادراً، ولو ذهنياً، على احتساب التبعات وتخيّل المآلات. وقد أذهب أبعد للقول إن الأمر طبيعي، وبشري جداً، ألا يرى بعضنا بعضاً.
> عالم البحر يتأرجح في الرواية ما بين الحلم، والكابوس، تُطل مفردات كائناته وتظهر مرسومة على الورق، كيف سخرت البحر كمكان قادر على الاحتفاظ طيلة الرواية بروح السرد في أعماقه، حتى لو كانت الأحداث تدور على اليابسة؟
- أعتقدُ بأنني كنتُ مضطرة لاستجلابِ البحر إلى الحدث حتى بعد العودة إلى اليابسة، توحي اليابسة، لفظياً على الأقل، بالرسوخ، ربّما لأن للنكبات طبيعة موجية، إحساسٌ حلميٌ كان ينتابُ الجميع منذ ليلة الحادثة وحتى كلمة «تمت». ناهيك بأن البحر هو البيئة الحاضنة لمغامرات السندباد في «الليالي»، وهكذا فإن رواية عن أحفاد السندباد المعطوبين لا يمكن أن تحدث بمعزل عن البحر.
> في الرواية يبدو الجيل الكويتي المُواكب لحرب الخليج الثانية مهزوماً في قراراته، ويبدو أن الجيل الجديد مُتورط هو الآخر في جذور تلك التعقيدات. هل سؤال الهُوية مؤرق إلى هذا الحد؟
- الرواية هي ابنة المدينة، لقد كتبت منذ البداية في الحواضِر، أي أنها في صلبِها تساؤل مفتوح عن الهوية. إننا في المجمل نكتب عن شخصياتٍ في المكان، ولكلّ مكانٍ تبعاته وآثامه، إن «المكان خطيئتي وذريعتي» كما صاغها درويش، وسؤال الهوية هو دائماً جرح مفتوح في عالم من «الفوبيات المتقابلة» كما جاء في الرواية.
> أبطال الرواية عالقون، في حالة انتظار، يعيشون على سطح حكايات لا تخصهم، غير مرئيين. وعندما أردتِ إنقاذ البطلة كان سبيلها الوحيد في ذلك هو أن تكتب رواية مؤجلة. هل الكتابة لديكِ فعل خلاص؟
- الكتابة هي هذا وأشياء أخرى. لا يمكن اختزالها في دور واحد. إنَّ دوافعنا للكتابة دائماً مركَّبة، وفيها شيء من الأنانية، يتعلّق الأمر أحياناً بحاجتنا البسيطة لأن نُرى، ولأن نَرى. إنه نطاق فسيح يبدأ من العامريّ الذي ما أنشد الأشعار «إلا تداوياً»، وربما ينتهي (أو لا ينتهي) مع درويش الذي تقول له الحروف الغامضات «اكتب تكُن».
> الشِعر، الأغاني الكويتية والعدنية، دوزنات العود في الرواية ظهرت كرديف للحب، العشق، الحرب، الوطن، حتى أنها بدت كمرويات سردية في حد ذاتها. حدثينا عن هذا المخزون الشعري والطربي الذي يبدو كأنكِ أطلقت سراحه وجدانياً في الرواية.
- قمت بتوظيف العدنيّات لسببين؛ الأوَّل أنها تختصر عليَّ كثيراً من الفقرات، فلا أُضطر إلى شرح الحالة العاطفية للشخصية. إنها آلة تكثيفية هائلة، والأجمل أنها مكتوبة بجزالة شعرية فاتنة. إذ يكفي أن أقول: «مضنى وليس به حراك» لكي يفهم القارئ الحد الذي بلغه الرجلُ من الحبّ والعطب.
السّبب الثاني له علاقة بما أسمّيه «التأثيث»، أي بناء مكانٍ حي وقابل للتصديق داخل الرواية؛ مكان له صوت وصورة ورائحة. ما إن بدأت العدنيات تسللها الشفيف إلى الوجدان الكويتي في 1962 مع محمد جمعة خان حتى تم اشتقاقها وتكويتها وتحولت إلى ظاهرة كواليسية ما زالت مستمرّة حتى هذه اللحظة. إنها شكل من أشكال الخصوصية كان من دواعي سروري استثماره روائياً.
> الطفل الضائع في «خرائط التيه» والطفلة «الشفافة» في «السندباد الأعمى». هذا الذوبان المادي والمعنوي يجد طريقه في كتابتكِ كفعل كاشف عن اختلال المجتمع وقسوته... هل هذا صحيح؟
- الطفولة هي الحلقة الأكثر هشاشة في النسيج الاجتماعي، والأكثر حساسية أيضاً. راي برادبيري يُشبّه الفنّانين بطيور الكناري المحبوسة في أقفاص، التي يأخذها عمّال المناجم إلى الكهوف، والتي تكفُّ عن التغريد إذا ارتفع معدّل الكربون. إنها جهاز إنذار لكي يعرف الجميع أن الوقت قد حان للخروج من الكهف. أعتقد بأن الأطفال هم نسختي الخاصة من طيور الكناري.
> وظفتِ في بناء «حارس سطح العالم» بشكل كبير اللعبة السردية والتجريب، وفي «السندباد الأعمى» كان استرسال الحكاية عبر راوٍ عليم وتعقُب خبايا حوارات الأبطال هما الأساس. هل تعتقدين أن فكرة الرواية هي التي تختار ملامحها السردية، أم أن الكاتب هو من يُطوّع السرد لصالح فكرته؟
- في كل رواية نواة، تسمّى الفرضية الروائية. إنها الرواية مُكثفة ومقطّرة في سطرٍ واحد. عندما تكون الفرضية الروائية عن رقيب كتب يقع في غرام رواية ممنوعة في جمهورية الأخ الكبير، فهذه الفرضية تستجلب، بشكل مغناطيسي تقريباً، جملة الأدوات الفنية التي تحتاجها رواية من هذا النوع. منذ التفاصيل الحسية للمكان، مروراً بالهيكل الروائي والشخصية وانتهاءً بنبرة السرد واللغة. إن الفكرة المهيمنة على رأسي تتحكّم حتى بطبيعة الاستعارات التي تتولّد في النّص. أنا أنتمي للمدرسة التي تقول إن الرواية تختار ملامحها، تفاصيلها، لغتها، ضروراتها الفنية جميعها، وبهذا المنطق فإن كل رواية أكتبها هي رواية أولى.
> في يومياتك، كيف تجدين وتُكرسين لبثينة العيسى الأديبة مساحتها الخاصة للإبداع وسط صخب عالم النشر وإدارة مكتبة «تكوين» وبيع الكتب والكتابة عنها، بكل ما تعج به تلك الأمور من تفاصيل مُنهكة للوقت والذهن؟
- ما أعرفه أنني أحتاج إلى روتين؛ ليست الصعوبة في امتلاء عالمي بالمهام والعوالم، الصعوبة تكون في تنظيمها بشكلٍ يتيح لي الجلوس لثلاث ساعات يومياً لكتابة 500 كلمة. أزعم بأنني لم أفشل قط في العثور على ساعاتي الثلاث، لذا لا أفهم الذين يقولون إنَّهم «ليس لديهم الوقت الكافي لأي شيء».
في فترة ما كنتُ أماً لطفل عمره سنة، وحُبلى بطفلي الثاني، وطالبة ماجستير إدارة أعمال، وباحثة مالية في وزارة المالية وكنتُ مع ذلك أكتب. الكتابة ليست حالة عابرة عندي، إنها الطريقة التي أوجد من خلالها في العالم.



مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي
TT

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

لا نكاد نجد على طول الخريطة العربية اليوم مهرجاناً للشعر العربي الفصيح يجمع هذا العدد الهائل سنوياً من الشعراء إلا في الشارقة. إنه مهرجان يتجاوز بالتأكيد صفة الحدث الثقافي التقليدي الذي يستضيف شعراء بارزين من العالم العربي ويقيم لهم أمسيات أنيقة مؤثثةً بجمهور تفاعلي يضمن التواصل الضروري بين المبدع والمتلقي. وهكذا، نجد في هذا المهرجان سمات عديدة تميزه عن طابع الموسمية الذي يهيمن عادةً على الفعل الثقافي في كثير من فعالياتنا العربية، ونخص بالذكر تلك التي تُعنى بالثقافة والفن، لا سيما الشعر. جملة ما يمكن أن يخلص إليه من تابع أو حضر فعاليات هذا المهرجان هو أنه سعى ونجح إلى حد كبير في صنع مجتمع شعري متكامل الأركان يتعايش فيه المبدعون - وإن بصفة مؤقتة - لفترات غير قصيرة يتصل فيها النهار بالليل، فمن ندوات صباحية إلى أمسيات باذخة للشعر إلى سمر ليلي موسيقي في نُزل الشعراء يستمر حتى ساعات متأخرة من الليل على أنغام الطرب العربي الأصيل من أقطار ومدارس غنائية شتى. ثم يتواصل اللقاء بعدها في بهو الفندق في جلسات متفرقة هنا وهناك حتى ليُخيل للمتابع أن المكان تحول إلى حي سكني يقطنه شعب من الشعراء لا يتحدثون سوى في الشعر وعنه. وبالتوازي مع ذلك، يتناوب الشعراء الضيوف طيلة أيام المهرجان على مكاتب القنوات الفضائية والصحف والإذاعات لتسجيل عدد من اللقاءات الإعلامية التي تصب كلها في أنهار الجدل الشعري والحوار الإبداعي الذي يناقش القصيدة، والقصيدة فقط.

لا أعرف مهرجانات عربية كثيرة للشعر يرفع منظموها في مدنهم لافتات إعلانية كبيرة تروج للحدث الشعري وتعلق صوره في الشوارع والممرات. هناك في الشارقة نجد في كل الشوارع المحاذية لقصر الثقافة الذي يتوسط بفخامته المدينة صوراً للمهرجان تروج لأماسيه الرئيسية. وعند كل مساء نرقب توافد عائلات بأكملها على القصر باحثين عن موائد الشعر ومنصتين لما يقوله الشعراء، مصطحبين مسنّيهم وأطفالهم في مشهد عائلي يحتضن الثقافة كما لم نعتد أن نراه اليوم وسط عالم تسوده آلة النيو ليبرالية الاقتصادية التي همّشت الفنون الجميلة لمصلحة قيم الاستهلاك. وبالانسجام مع النشاط المسائي في قصر الثقافة، وفي الشارقة نفسها خلال أيام المهرجان الشعري، ما إن تمر على ساحل «شاطئ المجاز» الساحر، والذي يعبر اسمه عن توجه المدينة الثقافي، حتى ترى بالعين المجردة شعراء يمشون على الأقدام محتفين بنسائم الشتاء العليل في الشارقة، ومنهمكين في خوض حواراتهم الثقافية حول هذا الكائن الفني الهلامي الذي لا يمنحك بعضه حتى تمنحه كلك وأكثر.

إن مجتمعاً عربياً من الشعراء يمكن القول إنه قد تحقق بالفعل على أرض الشارقة، ولو لأسبوع واحد. جغرافياً حضوره كانت الشارقة وبالضبط بين النُّزل الفندقي والمسرح والمقاهي، حيث يتجمع الشعراء من مختلف الأقطار العربية، ويتحدثون ويتسامرون وقد يتشاجرون أيضاً حول هذا الموقف الشعري أو ذاك. يتحدثون بصوت مرتفع ويصرخ بعضهم، وبعضهم الآخر يكتفي بالصمت متابعاً ما يقوله الأكثر سناً وتجربة. إنهم يسائلون الحداثة الشعرية عن منجزها، فهناك منهم من ينتصر لضرورة الموقف الحداثي أيّاً كان شكل النص، وهناك من لا يزال راديكالياً في موقفه من حيث ضرورة التركيز على قدسية الشكل الذي يُعبر من وجه نظره عن صلابة عمود الشعر وأصالة بنيته. أحاديث تطول وتتوسع إلى تقييم حالة المشهد الثقافي العربي من حيث مساحة حضور الشعر ومصداقية الجوائز والتواصل المفقود أو الموجود على مضض بين الأجيال الشعرية في عالم عربي أثمن ما يغيب عنه هو التواصل. ولعل هذا التواصل يعد من سمات مهرجان الشارقة أيضاً وفضائله، فإذا كان اليوم الأول الافتتاحي للمهرجان يعمد دائماً إلى تكريم تجربة شعرية فردية أو أكثر تنتمي غالباً إلى جيل رائد، فإن الافتتاح أيضاً يتضمن التنويه بعدد من المواهب الشابة التي توَّجَتها قصائدها المنشورة في «مجلة القوافي». هذه الأخيرة تقدم نفسها مجلةً خالصةً للشعر العربي الفصيح، فهي لا تنشر غيره ولا تكتب عن شيء آخر سواه، تتواتر أعدادها شهرياً حتى تتوج ختامها السنوي باختيار بضعة قصائد منشورة على طول السنة كي يُحتفى بها في المهرجان الرئيسي في مستهل السنة الموالية. تتطور حالة التواصل داخل مجتمع الشعراء حتى تصبح أمتن من الصلة العائلية، فتجدهم يتفقدون بعضهم في البهو والغرف مع كل موعد انطلاق للمسرح، يتفقدون بعضهم في مقاعد الباصات ثم يبدأون بالغناء طول مسافة السير، ويشربون قهوة الوصول أمام المسرح منتظرين بدء الأمسية. هكذا إذن تتواصل الحساسيات والحركات والأجيال الشعرية المختلفة بيُسر وسلاسة دون قطائع نظرية أو أخرى نفسية واجتماعية، وهكذا يتوحد الشعر بقرائه ومبدعيه.

إن ما يميز هذا المهرجان ليس صنعه مجتمعاً شعرياً مفترضاً فقط، بل هو أنه بات يحفز كل الشعراء الذين باعدتهم المسافات الجغرافية وفرقتهم سبل العيش على تقديم أنفسهم مع أوراق اعتمادهم الشعري لهذ المهرجان من بوابة القصيدة، والقصيدة فقط، دون وسطاء ودون محسوبيات. ذلك أن من حق أي شاعر أن يحضر مشاركاً في هذا المهرجان، ما دام قادراً على تقديم قصيدته للنشر، وهي وحدها من ستؤهله للمشاركة ضيفاً مُقدّراً، ومن ثم الانضمام إلى أسرة الشعر التي تتعاظم بأفرادها وبأجوائها لتكون مجتمعاً فسيحاً يمد أطرافه من الخليج إلى المحيط.

مجتمع الشعراء الذي تحدثنا عنه ملياً في هذه المقالة يشكل جزءاً من مشروع بدأ بالفعل منذ سنوات ويتعلق بمبادرة «بيوت الشعر» التي أصبحت تتنامى أعدادها في أكثر من قُطر عربي غير الشارقة. حدث ذلك لأول مرة منذ حوالي عشر سنوات حين أطلق حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي مبادرة تهدف إلى إحداث ألف بيت للشعر في العالم العربي يكون نشيطاً طول السنة ويرعى المواهب الشعرية على غرار تجربة «بيت الشعر» في الشارقة. تطور الأمر وتم افتتاح عدد كبير من بيوت الشعر في الأردن ومصر والسودان والمغرب وموريتانيا وتونس. هذا المشروع أسس حالة جديدة في المشهد الثقافي يمكن أن نسميها «اللجوء الشعري» للشعراء داخل بلدانهم إلى مؤسسة «بيت الشعر» التي تعزل نفسها عن ضجيج الحياة الاعتيادية، وتقيم وطناً شعرياً موازياً يحتفي فيه الشعراء بقصائدهم، ويعانقون بعضهم بعد الإنصات والإنشاد والكتابة. إنه وطن الشعراء الذي يتشكل ومجتمع يضم كل أفراد عائلاته الشعرية التي تكبر كل يوم. وفي الحقيقة، لقد أسهم نشاط هذه البيوت داخل كل بلد في خلق حالة الانتماء لوطن القصيدة التي لا يعترف بالحدود الفاصلة ولا ينغلق فيه الفرد الشاعر على انتمائه القطري أو الثقافي أو حتى العرقي والطائفي. كيف يمكن لأي منا أن يتجاوز فرحته بجمالية هذا الإنجاز الذي جعل الشعر مفتاحاً للوحدة العربية في أبهى تجلياتها الفنية والإنسانية!

إن زبدة ما نود قوله عن مهرجان الشارقة للشعر العربي، هو أننا اليوم وفي بلدان عربية كثيرة باتت محجاً للمبدعين بحاجة لدعم فكرة المجتمع الشعري والإبداعي، وليس فقط لفعاليات ثقافية تنشط وتخمد بصفة روتينية بين موسم وآخر. وإذا كانت بشائر هذا التصور الجديد للقاء الشعري قد أصبحت تنضج بوضوح في مراكز ثقافية عربية كبرى كالسعودية والإمارات، فإن الحاجة اليوم باتت ملحة لتعميم وتكريس النموذج على امتداد الخريطة العربية كلها. فمجتمع الشعراء كما هو معلوم يخدم مسيرة السلام وينحاز بالضرورة لقيم الحضارة في مفهومها الكوني، إنه مجتمع مسالم ينتصر للجمال ويناهض الكراهية والتطرف والانغلاق. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتجسد حضوره عربياً، كما تجسد بالفعل في مهرجان الشارقة.

* شاعر من المغرب