السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

الصراع بين المكونين المدني والعسكري يُدخل البلاد نفقاً مظلماً

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»
TT

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

السودان بين خطوات «تصحيح المسار» ومخاوف «الانقلاب»

التصاعد في أحداث السودان الأخيرة ليس وليد الصدفة، أو محض مفاجأة سواء للداخل أو الخارج. إذ سبق أن أكد المراقبون والمتابعون لسير عملية الانتقال السياسي هناك عقب إطاحة نظام عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 هشاشة العملية في ظل استمرار الصراع بين المكونين المدني والعسكري المسؤولين عن تنفيذ عملية الانتقال الديمقراطي. وهو صراع تزايد في الآونة الأخيرة مع تمسك كل طرف بمواقفه.
بين مؤيدين يصفون التطورات الأخيرة في السودان بأنها «خطوة لتصحيح المسار»، ومعارضين يرونها «انقلابا على الثورة»، تتأزم الأوضاع وسط تهديدات بالعزلة الدولية، واحتجاجات داخلية تنذر بحالة «عصيان مدني»، وضغوط اقتصادية في ظل نفاد المخزون الاستراتيجي لعدد من السلع الرئيسة... وكل هذا ينتج مشهدا مربكاً للداخل والخارج، وسط مخاوف من أن تنزلق البلاد إلى نفق الحرب الأهلية.
وتيرة الأحداث تسارعت بعد البيان المتلفز الذي ألقاه عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة في السودان، يوم الاثنين الماضي، معلنا «حل مجلسي السيادة والوزراء، وتولي الجيش السلطة، لإكمال الفترة الانتقالية وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجميد لجنة تفكيك تمكين الرئيس السابق عمر البشير». وتزامن البيان مع أنباء عن حملة اعتقالات لعدد من المسؤولين المدنيين، بينهم رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك، لتبدأ موجة من الانتقادات الدولية التي وصفت ما حدث بـ«الانقلاب»، رغم تأكيد البرهان «التزامه بالوثيقة الدستورية، وأن القوات المسلحة ستواصل مسيرتها لاستكمال عملية التحول الديمقراطي، وتسليم القيادة لحكومة مدنية منتخبة بحلول يوليو (تموز) 2023 لتشتعل الساحة السودانية، مهددة الأمن القومي في الإقليم.

- انسداد سياسي
الدكتورة أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية ورئيسة تحرير سلسلة «أفريقيات»، رأت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تحرك البرهان في أعقاب «انسداد أفق الحل السياسي، وشخصنة الأزمة بين المكونين المدني والعسكري على خلفية التراشق اللفظي بين الجانبين في الفترة الأخيرة، وإصرار المكون العسكري على حل الحكومة، في الوقت الذي يشعر المكون المدني بالتفوق في ظل الدعم الأميركي المطلق له». وأردفت أنه «فشلت كل المحاولات للتوصل إلى حل سياسي، بما في ذلك مبادرات حمدوك نفسه».
وحقاً، كان السودان قد شهد محاولة انقلاب فاشلة في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، حين أعلن مجلس السيادة السوداني إحباطه محاولة للاستيلاء على السلطة، مؤكداً «انتصار الثورة التي أطاحت بنظام البشير». وهذه المحاولة وصفها مراقبون في حينه بأنها «قد تكون بالون اختبار لمحاولة انقلاب عسكري». إلا أن ما فاقم الأزمة توتر الأوضاع في إقليم شرق السودان مع احتجاجات قبائل البِجا على تهميشهم في «اتفاق جوبا للسلام» الموقع عام 2020، وإغلاقهم الموانئ الرئيسية للبلاد، متسببين في تفاقم الأزمة الاقتصادية، ونفاد السلع الاستراتيجية، وبخاصة القمح والوقود.
وهنا يقول الدكتور هاني رسلان، مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط» إن التراشق اللفظي بين المكونين العسكري والمدني وصل لاحقاً، إلى حدود «تجاوزت كل الأعراف العسكرية، مع تزايد الاستقطاب بين الجانبين، وفشل كل الحلول الوسط للخروج من الأزمة، ما دفع البرهان للإطاحة بالحكومة حفاظاً على استقرار البلاد، فيما يشبه الانقلاب على الوثيقة الدستورية». ويضيف رسلان أن الوضع في السودان «معقد ومركب، بوجود الخلافات داخل المكون المدني نفسه، وخروج جماعة الميثاق من تحالف الحرية والتغيير... واعتصامها أمام القصر الرئاسي».
جدير بالذكر أنه بموجب الوثيقة الدستورية السودانية الموقعة في أغسطس (آب) 2019، يجري تقاسم الحكم بين مكون عسكري يمثله مجلس السيادة، ومكون مدني ممثل بمجلس الوزراء. ومن ثم يقود الجانبان البلاد خلال مرحلة انتقالية تمهد لعقد انتخابات ديمقراطية.
وبالفعل، شُكلت حكومة حمدوك في فبراير (شباط) الماضي، وهي الثانية منذ الإطاحة بالبشير، وكان المراقبون يعلقون عليها الآمال في قيادة عملية التحول الديمقراطي «الصعبة»، لكن يبدو أن هذه الآمال تبددت مع حملة اتهامات متبادلة بين المكونين المدني والعسكري وصلت إلى حد مطالبة الجيش بإقالة البرهان، وأدت في النهاية إلى الإطاحة بحمدوك، بعد عدة محاولات فاشلة.

- بيانات وإدانات دولية
فور إعلان البرهان حالة الطوارئ توالت البيانات والقرارات الدولية التي تهدد بعزل السودان دولياً. إذ أصدر الاتحاد الأوروبي و10 دول غربية بياناً مشتركاً بعد الإفراج عن حمدوك، شددوا فيه على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين دون تأخير، مؤكدين «اعترافهم بحمدوك رئيسا لمجلس الوزراء». أما الولايات المتحدة، التي كانت داعمة للمكون المدني منذ البداية، فباشرت ضغوطاً على البرهان لإعادة السلطة إلى الدكتور حمدوك، وعلقت المساعدات الأميركية للسودان وقيمتها 700 مليون دولار، وأجرى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن اتصالات دوليا وعربيا للضغط على البرهان، بينما علق البنك الدولي مساعداته للسودان في أعقاب ما وصفه بـ«الانقلاب العسكري».
كذلك أصدرت دول «الترويكا» المعنية بملف السودان، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، بيانا تنديدياً مطالبة بعودة الحكم للمدنيين، كما أعلن الاتحاد الأفريقي، تعليق عضوية السودان في الاتحاد لحين الاستعادة الفعلية للسلطة الانتقالية بقيادة المدنيين».
ورغم ردود الفعل الدولية المنددة بتحركات البرهان، فإن مجلس الأمن الدولي فشل في اتخاذ قرار يندد بـ«استيلاء العسكريين على السلطة» في السودان. وبرر مراقبون ذلك بصراع القوى الخارجية على النفوذ، بين واشنطن المطالبة بإدانة الانقلاب، وموسكو وبكين الباحثتين عن دور في المنطقة. وهنا يقول رسلان إن «الصين وروسيا طامحتان إلى أن تحلا مكان الولايات المتحدة في السودان... والغرب يتصرف تجاه ما حدث بقدر كبير من الحدة، كما يتضح في بيانات دوله الرافضة لإجراءات البرهان».
القوى الدولية تصر على عودة السلطة للمدنيين، على أساس الوثيقة الدستورية. وفي السياق نفسه أكد رئيس البعثة الأممية فولكر بيترس، عقب لقائه والبرهان أن «الأمم المتحدة قدمت بعض الاقتراحات للعودة إلى حوار شامل وعاجل لاستعادة الشراكة على أساس الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا للسلام».
أما عربياً، فقد أعربت جامعة الدول العربية عن قلقها من تطورات الوضع، مطالبة بالالتزام بالخطوات الانتقالية المتضمنة في الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا. وتضمنت بيانات الدول العربية إبداء القلق ومتابعة التطورات، فدعت مصر جميع الأطراف لضبط النفس وتغليب مصلحة الوطن، وأكدت المملكة العربية السعودية دعمها شعب السودان، داعية إلى الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية.
وبينما يؤكد مراقبون معارضة المجتمع الدولي ما حدث في السودان، يرى آخرون أن «المجتمع الدولي منقسم بين مؤيد وداعم لخطوات البرهان، ورافض لها»، من بينهم السفير صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «المجتمع الدولي، مثله مثل الشارعين العربي والسوداني، منقسم إزاء ما يحدث، فحتى الآن لم يصدر بيان من مجلس الأمن يصف ما حدث بالانقلاب».

- تصحيح المسار
البرهان، في مؤتمره الصحافي، قال عن تحركات الجيش إنها «ليست انقلابا بل محاولة لتصحيح المسار، وإن حمدوك ليس معتقلا، وسيعود إلى منزله». وهو ما حدث، إذ عاد حمدوك إلى منزله - رغم وضعه تحت الحراسة - وأجرى عدة مقابلات مع ممثلين للأمم المتحدة ودول العالم، وأدلى بتصريحات صحافية أكد فيها أن «أي تراجع عن المسار الديمقراطي يشكل تهديداً لاستقرار السودان وأمنه».
ويعتبر مؤيدو خطوات البرهان أن «ما حدث كان ضرورياً، وأن البرهان لم ينقلب على السلطة لأنه كان في السلطة». ويقول حليمة إن «ما فعله البرهان خطوة لتصحيح المسار، ولحماية أمن واستقرار السودان»، فمفهوم الانقلاب أن تتولى سلطة الحكم مكان سلطة أخرى وهذا لم يحدث، إذ إن البرهان كان ولا يزال رئيس المجلس السيادي، إضافة إلى أن اللجوء لحالة الطوارئ منصوص عليه في الوثيقة الدستورية ولا يعد خرقا لها، مشيرا إلى أن «البرهان تعهد بالتمسك بالوثيقة، واتفاق جوبا، ووعد ببرنامجين لانتقال السلطة طويل وقصير المدى، مع إعادة تشكيل المكون المدني على أسس تشمل كافة مناطق السودان، والتخلص من احتكار جماعة الحرية والتغيير للسلطة».
ولكن، على الأرض انتشرت دعوات للعصيان المدني، وأعلن عمال نفط وأطباء عزمهم الانضمام للاضطرابات، وتواصلت الاحتجاجات في الشارع ما أسفر عن قتلى في صفوف المدنيين، بحسب تقارير إعلامية. ومن الشارع إلى الحكومة انتقلت حالة العصيان والتمرد، فأصدر عدد من سفراء السودان في الخارج بيانات يرفضون فيها إجراءات البرهان، ما دفع الأخير إلى إقالة 6 سفراء هم سفراء الاتحاد الأوروبي وقطر والصين وفرنسا، والولايات المتحدة، ورئيس البعثة السودانية بجنيف.
اليوم العصيان المدني هو «الخطر الأكبر» الذي يهدد السودان. وترى أماني الطويل أن «حسم الصراع في السودان الآن في يد الشارع. وهو الذي يستطيع توجيه دفة الأحداث، لو استطاع تعطيل الدولة، بالتزامن مع تمرد بعض الوزارات على البرهان، وبعض السفراء أيضا، وهو ما سيدفع البرهان في النهاية لتسليم السلطة»، وذلك بالتزامن مع الأوضاع الاقتصادية التي يفاقمها التضييق الخارجي على المساعدات والتمويل.

- سيناريوهات الحل
مراقبون يضعون الآن «سيناريوهات» متعددة للحل. منها المتفائل بقدرة البرهان على عبور الأزمة، ومنها المتشائم المتخوف من انهيار الدولة أو سقوطها في براثن الحرب الأهلية. وهنا تقول «مجموعة الأزمات الدولية» في تقريرها عن الأوضاع في السودان إن «الوضع خطير على السودان وجيرانه، وإذا استمر سيهدد بكارثة في المنطقة. والأولوية الآن حقن الدماء في الشارع، يليها عودة الأمور إلى نصابها باعتبارها السبيل الوحيد لقيادة البلاد نحو عملية تحول ديمقراطي وانتخابات حرة».
وراهناً تلعب الضغوط الخارجية دورا في تحريك الصراع على الأرض، والدفع باتجاه حل الأزمة، وخاصة من واشنطن والقاهرة والعواصم الخليجية. وتقول الطويل إن «ثقة العالم في جدارة المكون المدني ضعيفة، نتيجة لانقساماته المبكرة بانسحاب الحزب الشيوعي وما تلاها، حيث لم يظهر المكون المدني كقوة توازن وتوازي المكون العسكري... وهو ما يوحي بأن المجتمع الدولي سيضغط من أجل استمرار الشراكة بين الجانبين العسكري والمدني، مع تغيير بعض الوجوه التي كانت سبباً في الأزمة ومن بينها حمدوك نفسه».
ثم إن التطورات على الأرض تؤكد وفق مراقبين «صعوبة تراجع البرهان عن قراراته» في أعقاب الضغوط من داخل القوات المسلحة نفسها للإطاحة بالحكومة المدنية. وهنا يقول رسلان إن «البرهان سيتحمل منفردا عبء معالجة الملفات الصعبة التي تواجه البلاد، من خلل أمني واقتصاد منهار، واحتجاجات شرق السودان، وسيكون عليه حماية البلاد من الانزلاق نحو دائرة العنف». بينما يرى حليمة أن «البرهان قادر على احتواء الموقف وقيادة البلاد إلى بر الأمان».
ومعلومٌ أن البرهان يواجه حالياً تحديات كبرى ناجمة عن الانهيار الاقتصادي، الذي ازداد سوءاً بعد الاحتجاجات التي قادتها قبائل البِجا في شرق السودان، وإغلاقها للموانئ الرئيسية ما أدى إلى استفحال الأزمة. ورغم تأييد هذه القبائل لخطوات البرهان، يبدو أن على القيادة السودانية الآن حل عدد من المشاكل العالقة من بينها اتفاق جوبا - الذي ترفضه قبائل البِجا - إضافة إلى العمل على إرضاء المجتمع الدولي وإقناعه بأن إجراءاته كانت فعلا لتصحيح المسار... وأنه عازم على تسليم السلطة للمدنيين.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.