بلينكن يعلن تحديثاً للدبلوماسية الأميركية رداً على تحديات سيبرانية من روسيا والصين وإيران

بلينكن يلقي كلمة في معهد الخدمة الخارجية بأرلينغتون الأربعاء (أ.ب)
بلينكن يلقي كلمة في معهد الخدمة الخارجية بأرلينغتون الأربعاء (أ.ب)
TT

بلينكن يعلن تحديثاً للدبلوماسية الأميركية رداً على تحديات سيبرانية من روسيا والصين وإيران

بلينكن يلقي كلمة في معهد الخدمة الخارجية بأرلينغتون الأربعاء (أ.ب)
بلينكن يلقي كلمة في معهد الخدمة الخارجية بأرلينغتون الأربعاء (أ.ب)

أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إنشاء مكتب جديد للفضاء الإلكتروني والسياسة الرقمية هدفه التركيز على مواجهة تحديات الأمن السيبراني، في وقت تتزايد فيه التهديدات من خصوم الولايات المتحدة، فضلاً عن تعيين مبعوث خاص جديد للتكنولوجيا الحرجة والناشئة سيقود أجندة الدبلوماسية التكنولوجية مع حلفاء أميركا.
يأتي هذا الإعلان في الوقت الذي يواصل فيه المتسللون المدعومون من حكومات أجنبية، مثل روسيا والصين، مهاجمة البنى التحتية الأميركية وأنظمة التكنولوجيا العالمية لسرقة المعلومات الحساسة.
وفي خطاب رئيسي ألقاه حول تحديث الدبلوماسية الأميركية في معهد الخدمة الخارجية، حيث يجري تدريب السلك الدبلوماسي الأميركي، استعرض بلينكن تغييرات تنظيمية تؤكد الحاجة إلى نهج قوي للتعامل مع التهديدات الإلكترونية. وقال «نريد التأكد من أن التكنولوجيا تعمل من أجل الديمقراطية، ومحاربة المعلومات المضللة، والدفاع عن حرية الإنترنت، والحد من إساءة استخدام تكنولوجيا المراقبة». وأوضح، أن المكتب الجديد سيترأسه سفير متجول. وأضاف، أنه يسعى إلى زيادة ميزانية تكنولوجيا المعلومات بوزارة الخارجية بنسبة 50 في المائة.
وأكّد مسؤول كبير في وزارة الخارجية، أن واشنطن كانت واضحة مع موسكو بشأن مجرمي الإنترنت الذين يستهدفون الولايات المتحدة. وقال «هذا غير مقبول»، مشيراً إلى أن واشنطن طلبت من الحكومة الروسية «اتخاذ إجراءات ضد هذا النوع من السلوك الإجرامي». وأضاف، أن مواجهة الهجمات الإلكترونية لا تزال «أولوية قصوى» في العلاقات الأميركية - الروسية.
كذلك، تعتبر الصين أحد الأعداء الإلكترونيين الرئيسيين للولايات المتحدة، حيث تُتّهم بتنسيق فرق داخل وخارج الحكومة على حد سواء لتنفيذ حملات تجسس إلكتروني واسعة النطاق وعشوائية، وفقاً لمحللين نسبوا الاختراقات البارزة في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا إلى وزارة أمن الدولة الصينية ووكالة المخابرات المدنية التي تولت المبادرة في التجسس الإلكتروني في بكين، مما عزز المعلومات لدى الجيش الصيني.
بالإضافة إلى توسيع قدرة وزارة الخارجية في مجال الأمن السيبراني، كشف بلينكن أيضاً عن خطوات أخرى لتحديث الدبلوماسية الأميركية، بما في ذلك إطلاق «قناة أفكار سياسية» جديدة تسمح للدبلوماسيين الأميركيين بمشاركة أفكارهم السياسية مباشرة مع القيادة العليا، وبناء والحفاظ على قوة عاملة متنوعة، بالإضافة إلى خطة «لتنشيط الدبلوماسية الشخصية والمشاركة العامة».
وهو كان ينطلق أيضاً من ملفات أخرى بالغة الأهمية، ومنها مخلفات حادثة بنغازي، قبل تسع سنوات حين قُتل سفير أميركي وثلاثة أميركيين آخرين خلال أعمال شغب، والبروتوكولات الأمنية الحازمة لحماية المسؤولين الأميركيين في الخارج من الإرهاب مما حدت من تفاعلاتهم مع الناس في البلدان التي خدموا فيها.
وعلى رغم أن هذا التحول يعد جزءاً من إعادة تجهيز الوزارة مع مجيء أي وزير خارجية جديد، فإنه يأخذ في الاعتبار مثلاً ما حصل خلال إدارة الرئيس دونالد ترمب التي كانت تستعد لإغلاق السفارة الأميركية في العراق بسبب مخاوف من استهدافها من الميليشيات المدعومة من إيران في ديسمبر (كانون الأول) 2019 للرد على ضربة قاتلة بطائرة من دون طيار استهدفت قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني الجنرال قاسم سليماني، علماً بأن هذه الإدارة أغلقت القنصلية الأميركية في البصرة بجنوب العراق عام 2018 بسبب مخاوف من تعرضها لتهديد مماثل.
وقال بلينكن، إن «عالماً خالياً من المخاطر ليس عالماً يمكن للدبلوماسية الأميركية أن تقدمه». ولكن «علينا قبول المخاطر وإدارتها بذكاء». وأضاف، أن الموظفين اشتكوا من أنه «من الصعب عليهم القيام بهذا النوع من الدبلوماسية على أرض الواقع، من شخص إلى شخص وهو أمر ضروري للغاية». واعترف بأن الإجراءات الأمنية وضعت الدبلوماسيين الأميركيين في وضع غير مؤات في بعض الحالات.
حيث تتنافس الولايات المتحدة مع الصين وروسيا على النفوذ العالمي. وقال «تعمل دول أخرى على زيادة حضورها الدبلوماسي في جميع أنحاء العالم بسهولة أكبر بكثير».
وجاءت تغييرات المنظمة لتعزيز الموارد والموظفين لمواجهة تحديات الأمن السيبراني الدولية بعد أن أكملت وزارة الخارجية مراجعة شاملة للفضاء السيبراني والتكنولوجيا الناشئة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟