«المحفوظات العربية»... هل تسهم في استمرار الوعي البشري؟

العرب يحتفون باستحياء باليوم العالمي للتراث

شعار اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري
شعار اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري
TT

«المحفوظات العربية»... هل تسهم في استمرار الوعي البشري؟

شعار اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري
شعار اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري

اعتمد المؤتمر العام لـ«اليونيسكو» في دورته الثالثة والثلاثين سنة 2005 بباريس يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) يوماً عالمياً للتراث السمعي والبصري، وذلك احتفالاً باعتماد المؤتمر العام في دورته الحادية والعشرين سنة 1980 التوصية الخاصة بحماية الصور المتحركة.
لكن أظهرت السنوات الماضية أن العرب يحتفون كل عام بهذا اليوم باستحياء. وفي كل سنة تطلق أمنيات وتمنيات بأن يكون الاحتفال العربي في العام المقبل أعمّ وأشمل وأكثر مبادرات وحملات لإظهار ما لدى الدول العربية من تراث مرئي ومسموع في تلفزيوناتها وإذاعاتها التي يزيد عمر بعضها على 70 عاماً ويختزن كثيراً من الفكر والتاريخ والصور التي توثق المراحل السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية في كل بلد عربي.
لا شك أن حفاظنا على الموروث هو الحفاظ على شهادات وأحداث ومعارف وأفكار وشواهد ترسخ مسيرة الشعوب والدول في التلاقح والتطور، ويسهل لمن بعدهم آليات التفاهم والبناء. فالتراث يربط الأمس بالحاضر إلى المستقبل. والمحفوظات السمعية والبصرية تروي قصصاً عن حياة المجتمعات وتحولاتها وتغير أوضاعها وانتقالاتها وثقافاتها المتراكمة التي تطورت مع الوقت، وتالياً، هي تُمثل تراثاً لا يقدر بثمن يرسخ تاريخنا في وجدان الحياة ويجمع ذاكرتنا عبر مراحل مختلفة من التاريخ، ويُبرز التنوع الثقافي والاجتماعي واللغوي للمجتمعات.
لكن دولنا لم تحذُ بعد حذو الدول المتقدمة التي اعتنت بما لديها من أرشيـف مرئي ومسموع، وجعلته في منصة التراث العالمي وأتاحت للأجيال فرص الاطلاع عليه، ليس فقط في بلدانهم إنما في أرجاء الكوكب الفسيح كافة. «هذه هدية من عالم صغير بعيد، وتذكار من أصواتنا ومعلوماتنا، من صورنا وموسيقانا، ومن فكرنا وأحاسيسنا. إننا نحاول البقاء لعلنا نعيش بعض الوقت من الزمان ونعاصركم...».، مقطعٌ من الرسالة التي قدمها رئيس الولايات المتحدة الرئيس جيمي كارتر على قرص فونوغراف ذهبي وأرسلت إلى الفضاء ضمن بعثة «فوياجر»، أملاً في الاحتكاك مع أناس عاقلين خارج كوكب الأرض. كما تضمن القرص تحية صوتية من كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت من عام 1977، فضلاً عن تحيات سُجلت بـ55 لغة من لغات الأرض كان منها باللغة العربية «تحياتنا للأصدقاء في النجوم، يا ليت يجمعنا الزمان»، تليها أصوات رياح وأمواج وحيوانات من كوكبنا ومن ثم 90 دقيقة من التسجيلات الموسيقية، من بينها ألحان شعبية ومقطوعات من يوهان سباستيان باخ وبيتهوفن، وصور لجسم الإنسان وأعضائه. إضافة إلى ذلك احتوى القرص الذهبي على صور لحيوانات وحشرات ونباتات ومناظر طبيعية وتضاريس الأرض.
كانت تلك هي المحاولة الرسمية الأولى للتعرف على الآخر من خارج الكوكب. ومن شأن البعثة الفضائية إظهار كوكبنا كعائلة واحدة رغم الاختلافات والخلافات بين أفرادها، من خلال صور وأصوات تختصر هوية الكرة الأرضية. وكانت الرسالة تعبر عن التنوع والفرادة بعيداً عن العرقية، وتشير إلى أن الاختلاف معطى كوني يجعلنا نتصل بما قبلنا وبما بعدنا، وأن مجرد وجودنا هو انتماء ذاتي لبنية الكون.
كوكب الأرض، بيتنا في هذه الحياة، يتهدده الكثير من الكوارث والطوارئ. وتشير غير دراسة إلى أن نحو ثلاثمائة لغة في العالم من بين ستمائة، معرضة للانقراض. ولكون اللغات تمثل حضارات أمم وتراثها الثقافي والاجتماعي والمعيشي، شنّت «يونيسكو» أكبر حملة دولية للحفاظ على هذا التراث البشري من الضياع والزوال، علماً بأنه خلال القرون الثلاثة الماضية توارت عشرات اللغات. وبموت الموروث تموت أمة ويطويها النسيان.
وتلبية لحاجات حفظ الذاكرة الجماعية، أنشأت «يونيسكو» لجنة «ذاكرة العالم» في 1992. وواكبت هذا التطور مع تكريسها سنوياً، منذ 2005، السابع والعشرين من أكتوبر يوماً عالمياً للتراث السمعي والبصري، بغية إنقاذ الموجودات السمعية البصرية الثمينة من أحداث أو حروب عرضتها للتلف أو للضياع أو للنهب أو للاتجار غير المشروع. وذلك من خلال حفظها في ظروف تقنية سليمة ومستدامة.
ويأتي دور الحكومات والمؤسسات والمهتمين في زيادة الوعي العام بأهمية أرشفة وحفظ التراث وما يتضمنه من سمعيات وبصريات، من خلال رقمنتها لتيسير الوصول إليها، مستفيدة من التجارب الناجحة في مؤسسات وجامعات كثيرة، كجامعة فندربلت مستودع الأرشيف الأميركي لأخبار التلفزيون.
عربياً، الأرشيف الرقمي لهيئة الإذاعة والتلفزيون السعودي يحتوي على مليون مادة، وقد انضم إلى المجلس الدولي للأرشيف وانضمت أيضاً دارة الملك عبد العزيز التي أولت أهمية كبرى للمحافظة على التراث السمعي البصري في السعودية، فأنشأت عدداً من قواعد بيانات ومعلومات في الدارة، منها ما هو مخصص للمخطوطات الوطنية، معلومات التاريخ الشفوي، والصور التاريخية، والوثائق التاريخية. وأطلقت مشاريع لأرشفة التراث وحفظه ورقمنته. وفي مبادرة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، أطلق الأرشيف الوطني في الإمارات وجامعة نيويورك أبوظبي عملية رقمنة ضخمة للمواد التاريخية باللغة العربية، ستتاح للجمهور محلياً وعالمياً عبر مكتبة رقمية تسمى «المجموعات العربية على الإنترنت». بمشاركة جامعات كولومبيا وكورنيل وبرنستون والجامعتين الأميركيتين في بيروت والقاهرة.
وبالمثل، تبذل وزارة الإعلام البحرينية جهودها في تنفيذ مشروع المعالجة الرقمية للمواد الإعلامية الإذاعية والتلفزيونية والمصورة، الشاهدة على تاريخ البحرين الحديث، وتراثها الفكري والحضاري، عبر إنجاز الأرشفة الرقمية لأكثر من 104 آلاف ساعة تلفزيونية و80 ألف ساعة إذاعية لحفظ التراث الوطني.
كل تلك المبادرات لم تنتشل اللغة العربية من منزلتها الخفيضة كأقل اللغات الحية استفادة من تراثها البصري والسمعي، على الرغم من ضخامة المحتوى الذي تحتضنه المؤسسات الثقافية والأفراد من المهتمين والمتخصصين. ومن أبسط المؤشرات التي تدل على ذلك أنه إلى لحظة كتابة هذا المقال لا توجد منظمة أو موقع عربي يعنى بهذا الموروث وحتى إنك لن تجد صفحة في موقع ويكيبيديا لليوم العالمي للتراث السمعي والبصري.
ولذا، فإن صَون هذا التراث الفكري وضمان إتاحته لنا حاضراً وللأجيال المقبلة يُعد هدفاً حيوياً لكل الشعوب، فعلى قول خايمي توريس بودِت (1902 - 1974) المدير العام لـ«يونيسكو» بين 1948 و1952: «المحفوظات ليست مقابر ضخمة للموروثات، بل واحات مضيئة لاستمرار الوعي البشري».

* كاتب سعودي



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!