يشكل النبش في التاريخ معول السرد الأساس في رواية «موت منظَّم»، للكاتب أحمد مجدي همام، الصادرة حديثاً عن دار «هاشيت أنطوان» ببيروت، في إطار منحة من المورد الثقافي. لكن التاريخ هنا ليس على إطلاقه، إنما يتعلق بمذابح الأرمن الشهيرة على يد الأتراك، تستدعيها الرواية في تقاطعات ومفاصل زمنية، ومن نقطة فاصلة تحددها بعام 1915، مشكلة إطاراً لرؤية ذات طبيعة خاصة بالأرمن المصريين: نشأتهم وجذورهم، ومن أين جاءوا، وكيف تأقلموا وحافظوا على عادتهم ولغتهم، وعاشوا حياتهم في وطن أصبح حاضناً لهوية مزدوجة اكتسبوها تحت مظلته.
تمثل عائلة «آرام سيمونيان»، بمن نجوا منها، شاهداً على هذه المأساة، وكوابيسها الدامية المحفورة في الوجدان الأرميني. فبعد صراع مضنٍ، وصل الأب «آرام» إلى مصر، واستطاع أن يلم شمل ما تبقى من عائلته، عدا زوجته التي راحت ضحية تلك المجازر. يقول الكاتب في مستهل الرواية بعنوان توثيق (أ)، على لسان آرام: «كنت ابن تسع سنوات عندما أصدر الباشاوات الثلاثة مرسومهم بترحيل الأرمن من سيس في ربيع 1915. شيخ المسجد القديم في القرية قال للجندرمة التركية التي جاءت لترحيلنا إن والدي هو عامل البناء الذي يتولى تشييد المسجد الجديد في مدخل القرية، وطلب منهم أن يتركوه، وأبي اشترط عليهم أن ينتقي العمال الذين سيعملون معه في بناء المسجد. قال أحد الجنود: المسجد سينقذك أيها الكافر؛ ألن تصبح مسلماً؟ وهكذا، أُنقذ أبي وأخوتي وبعض أقاربنا من الترحيل في مسيرات الموت، كنا نعرف ممن سبقونا، ومن أقاربنا في باقي الأرض الأرمينية في الأناضول، أن من يمضي في مسيرة لا يظهر ثانية».
تتسع هذه الرؤية على مدار أربعة فصول (شتاء طويل - ربيع في القوقاز - مواعيد صيفية - خريف أسود)، تضمها 190 صفحة، كأنها أنشودة للطبيعية بتحولاتها الدراماتيكية، تصعد وتتبلور في سياق علاقة من التضايف بينها وبين أجواء أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر، وما أعقبها من اضطراب سياسي وانفلات أمنى شهد بعض الأعمال الإرهابية التي أعادت إلى الأذهان صدى حوادث بشعة، من أبرزها مذبحة الأقصر في معبد حتشبسوت عام 1997.
تتناثر تلك الأحداث والوقائع كشظايا في طوايا النص، لكنها لا تصنع ذاكرة خاصة له، يعزز ذلك أن الكاتب لا يتعامل مع التاريخ بصفته خطاباً موازياً، فهو حالة مبثوثة في السرد، لها ملمسها وروائحها، تومض وتتفتح في مساراته الراهنة التي تعيشها الذات الساردة من واقع الشخوص الرواة. ومن خلال تأملها وسبر أغوارها، تتشكل هذه الذاكرة الخاصة، وتتحول إلى جغرافيا بديلة. ربما من هنا يمكن أن نفهم دلالة مقولة نابليون بونابرت «الجغرافيا قدر» التي صدر بها الكاتب الرواية.
ومن ثم، تتكشف أجواء الرواية، وتشف بسلاستها وتنقلاتها الرشيقة بين الأزمنة والأمكنة، عن حركتين أساسيتين تتناغمان صعوداً وهبوطاً تحكمان مدارات الرؤية، وما تطرحه من دلالات وأسئلة. تتسم الأولى بنزعة توثيقية تحاول أن تُخرج صورة مجازر الأرمن من جراب التاريخ، وتتأملها بعين تختصر مسافة شاسعة من الجغرافيا والحنين الحارق تجاوزت قرناً من الزمان، وينحو السرد منحى التقصي والنبش في منحنيات وكواليس تلك المجازر، وتنحصر طاقة التخييل في محاولة الربط والفهم والاستيعاب وردم الفجوات والمفارقات التي حفرتها تلك المأساة في البشر والأزمنة والذكريات. أما الحركة الثانية فتكمن في العاطفة المستترة بين الصحافي الشاب عبد الرحمن أسعد وبطلة الرواية ماجدة سيمونيان، الأرمينية المصرية المولد (57 عاماً) التي هجرها منذ 19 عاماً زوجها «أرمن»، الصيدلي الشاطر ابن عمها، وارتبط بامرأة ألمانية من أصل تركي تعرف عليها في أثناء دراسته للماجستير بألمانيا، ثم تزوجها وعاش معها في كندا، بصحبة ولديه آرثر وفيكتور، بينما ظلت ماجدة وحيدة تعيش من ريع صيدلية تركها لها من بين ثلاث كان يمتلكها.
يلتقي عبد الرحمن وماجدة في قسم الشرطة بالصدفة؛ كانت تحرر محضراً لبواب العمارة وزوجته وأولاده لأنهم يصدرون لها طاقة سلبية، وقد حولوا العمارة إلى وكر للبلطجة وتجارة المخدرات، مما اضطر كثيراً من السكان إلى مغادرتها، بينما عبد الرحمن كان بصدد تحرير محضر عن سرقة هاتفه المحمول. لكن تهمة الطاقة السلبية، مثلما أثارت ضابط الشرطة أثارته أيضاً. وبعد تعارف سريع بينهما، يقرر أن يكتب مادة صحافية عن الأرمن المصريين تكون ماجدة طرف الخيط فيها، وتتسع دائرة التعارف بينهما وتتوثق من خلال لقاءاتهما في نادي الأرمن «آرارات» الاجتماعي بضاحية مصر الجديدة، أو في بيتها، وتزوده بصور ووثائق وشهادات نادرة لبعض ضحايا المجزرة، فيكتشف عالم الأرمن المهمش، وبشاعة ما تعرضوا له من قتل وتطهير عرقي. كما رشحته لحضور الاحتفال الوطني معها بـمدينة «بريفان»، عاصمة أرمينيا، لإحياء ذكرى الضحايا الأرمن، ضمن وفد مصري ضخم على رأسه البابا تواضروس، ومشاركة وفود أخرى من شتى دول العالم.
نحو أسبوع عاشه عبد الرحمن في ظلال وطن حديث النشأة أقتطع من جسد جغرافيا عريقة حولها الطغاة إلى مسرح هزلي لعبث الأقدار. في هذا الوطن، بطبيعته الساحرة وبشره المتمسكين بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم، اتسعت عين الحياة، وتحركت مياه العاطفة الراكدة في الداخل بين ماجدة وعبد الرحمن، وأصبحت لها علامات لافتة. ساعد على ذلك أجواء المكان والاحتفال، وشعور ماجدة بأنها في الفضاء الأصلي للأحلام والرؤى والمشاعر، حتى أنها قررت ألا تعود مع الوفد المصري، وتمكث بعض الوقت لترى البلاد على طريقتها الخاصة، وتزور قرية جارني ومعبدها الأثري العريق: «لم أذكر عبد الرحمن في صلاتي، ولم أتمنى أن يتزوجني. هذا مستحيل بكل الأعراف؛ أنا مسيحية وهو مسلم؛ عمري 57 سنة وهو في الثلاثينيات؛ أنا منفصلة عن أرمن منذ 16 عاماً وهو لا يضع دبلة في يديه. أنا صليت لكي يكون عبد الرحمن في الجوار ليس إلا، هل خلطت بين الحماية والحب؟» (ص 110).
تضع ماجدة العلاقة عاطفياً على المحك، رابطة الحب بالحماية والاستقرار، لكنها مع ذلك لا تستطيع أن تفلت؛ ثمة شيء حميم في داخلها تجاه الشخص الذي وفر لها هذه الحماية جسدياً وروحياً، وكان السبب وراء الحملة الأمنية التي طهرت المنطقة من إمبراطورية أبو سيد، وأودعته هو وأولاده وزوجته السجن.
يبرر فعل الحماية قبولها عرض «أرمن» للصلح معها، ولم شمل العائلة بعد غياب طويل قاسٍ، وتعويضها بنصف مليون دولار، مقابل نظرة وداع أخيرة يحتاجها بعد وفاة زوجته الألمانية، وإصابته بسرطان الكبد. ينجح ابنها أرثر في إتمام الصفقة، وتصر على أن يحضر عبد الرحمن جلسة الصلح: «سأضع خمس المبلغ وديعة باسمي في البنك، وسأتبرع بالأخماس الباقية كالتالي: خمس لمطرانية الأرمن الأرثوذكس، وخمس لدار عش العصافير للأيتام الأرمن في جبيل بلبنان لأنها الدار التي احتضنت أكبر عدد من أيتام آل سمونيان منذ 1915، وخمس للجمعية الأرمينية الخيرية، وخمس لبيت الزكاة والصداقات التي يشرف عليها الأزهر» (ص 141). ثم ينطلقان معاً إلى وداع أخير، صبيحة 11 ديسمبر (كانون الأول) 2016، حيث اختارت ماجدة أن تؤدي صلاتها في كنيسة قبطية، بدلاً من كنيستها الأرمينية.
يتضافر مع كل هذا مجموعة من السمات الجمالية اللافتة ساهمت في أن تضفي على أنساق السرد جواً من المتعة، من بينها المهارة الفائقة في رسم الشخصيات، فالكاتب يسكنها من الداخل والخارج معاً، ومعني أساساً بطريقة تفاعلها مع الحياة، ورصد مساحة الحب والأمل في خطواتها، يصاحب ذلك حيوية سردية في الوصف، بصفته مقوم حياة ورؤية وطقساً يتجاوز حيز التوثيق الضيق للمكان والعناصر والأشياء. كما أن الزمن في الرواية ليس استرجاعياً محضاً للماضي ينعكس «فلاش باك» على ما تفرزه الرواية من وقائع وأحداث، إنما يتوزع رأسياً وأفقياً في شكل شرائح من الكولاج، يضفرها الكاتب بذكاء شديد في نسيج السرد، صانعاً نوعاً من التواشج بين عناصر السرد وأزمنته. تفترش هذه الشرائح فضاء الشخوص، وتلون ذكرياتهم ومشاعرهم وهواجسهم، ما يجعل الرواية مفتوحة بانسيابية أسلوبية على تخوم الماضي والحاضر معاً. الكولاج رؤية بصرية، وهو فن صناعة الصورة من خلال المِزق والقصاقيص والشظايا، وبرأيي هو المنطق الفني الذي يشكل محور إيقاع السرد في الرواية... تطالعنا هذه الصورة بقوة على غلاف الرواية، حيث ثمرات الرمان المشقوقة نصفين تشي برمزية العقد المنفرط التي تكاد تشكل تلخيصاً جذرياً لمأساة الأرمن المشقوقة إلى زمنين وهويتين، في نوستالجيا مزدوجة أصبحت تلازمهم أينما حلوا أو رحلوا، ناهيك من أن الرمان، وكما تشير الرواية، يمثل أيقونة وطنية في أرمينيا وطن الأرمن.
بحيوية التضفير الكولاجي، يتجاوز التوثيق مهمته التراتبية، بصفته مقوماً سردياً، ويصبح فعل معايشة للمشهد، يقرّبه ويبعدّه بعين الراوي والشخصيات، كاسراً حيادية التلقي. لتفاجئنا هذه الرواية الممتعة بنهاية مفتوحة بقوة على البداية: «بسرعة، شبكت يدي في يد عبد الرحمن.
كان جسده يشع دفئاً ويغمرني ببهجة لا أعرف ماذا أسميها؟». لكن لم تكد تجف أحبار اللوحة التي رسمها لهما طالب بكلية الفنون وهما في مسجد الحاكم بأمر الله الأثري، حتى تحول المشهد كله إلى صرخة في قوس حياة ستبقى رغم أنف الإرهاب، سواء في مجازر الأرمن، أو إرهاب الجماعات الإسلامية الذي أودي بأرواح 25 شخصاً، معظمهم من النساء، بينهم ماجدة وصديقتها إنجي، وأصاب العشرات، في حادث تفجير بالكنيسة البطرسية بالقاهرة... كانوا يؤدون الصلاة، ويدعون أن يعم الأمن والسلام العالم.
الأرمن... صراع الماضي والحاضر روائياً
أحمد مجدي همام يتناول تاريخهم المأساوي في «موت منظَّم»
الأرمن... صراع الماضي والحاضر روائياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة