أديل تعود بـ«Easy on me»: براعم السعادة المسلوبة

قد يكون قلب أديل استراح بعد الأسى. تُخرج منه أرقاً يُشعرها بالوحدة الباردة. ذلك لا شأن له بالشهرة وملايين المعجبين واجتياح الإنترنت. الداخل مهزوز والأعماق ملتوية. تعود المغنية وكاتبة الأغنيات البريطانية من غياب جعلها تفكر ملياً. ألقت نفسها عن دراية وبملء إرادتها في متاهة من الاضطراب والفوضى. كان 15 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري مفصلياً، حين أطلقت بعد انكفاء لـ6 سنوات أغنيتها «Easy on me» (ترفق بي). صاحبة العينين الجميلتين، المزينتين بالآيلاينر الجذاب، اغتشت بصيرتها ولم ترَ بوضوح ظلام دروب الماضي. استغرقت العودة البديعة وقتاً. أديل أدكنز (33 عاماً)، هذه الصامتة الملتحفة بالضباب، المتفجرة أعماقها كالسواقي الحلوة بعد هبوب العاصفة، تغرف من معاناتها وتروينا. أغنياتها خلاصة عذاباتها.
«30»، هو ألبومها الرابع بعد «19»، و«21»، و«25». أربعة ألبومات وأربعة منعطفات في حياتها. 6 سنوات تفصل بين «25» الذي فاز بـ«غرامي» و«30» المرتقب صدوره رسمياً في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. لم تنطق بكلمة في الإعلان الترويجي لفيديو كليب «Easy on me»، ومع ذلك خضّت وتصدرت. بدت ساحرة بالعينين المليئتين بخليط العتب والأمل، وهي تُخرج يدها من سيارتها بأصابع تتمايل على وَقْع الموسيقى.
تحطم أديل الأرقام في الثواني الأولى. لم تكف المنصات الموسيقية عن تعداد الملايين منذ «برميير» الأغنية، مع تعليقات ترحب بعودة الـ«كوين». يطيّر الهواء أوراق الأشجار على طرقات الريف الطويلة، وأديل تطيّر أوراق العُمر اليابسة، والهفوات والانجراف والثقة المفرطة والحب الخطأ.
مسكونة بالقنابل الموقوتة، لا تدري متى تنفجر، فتهشمها. نوعها يصل إلى حافة الهاوية ثم ينقذ نفسه. تسدد ضريبتها للشقاء كاملة، وتسير في جنازة قلبها، ثم تلمحه يتحرك قبل أن تهيل عليه التراب. لا يزال ينبض، فتمنحه فرصة ثانية. تطلق ألبوم «30» لتزيح جبلاً عن كتفها، ولتفسح المجال لانقشاع أحزانها العميقة. فلا تعود تنشغل طويلاً بها وتكتفي بمراقبتها وهي تنمو بلا توقف في روحها. تغني بانفعال، لتهدئ انفعالاتها، فلا يبقى سوى صوت الموسيقى وسحرها.
تُخبر في رسالة غلاف الألبوم كيف تنبت من التعاسة براعم السعادة. سطور طويلة، كأنها شريط حياة. المسألة ليست طلاقها من رجل الأعمال سايمون كونيكي بعد زواج لثلاث سنوات. هي في التهاب القلب وإحساسه الدائم بالعطب. تقول أديل إن ابنها أنجيلو (9 سنوات) راح يطرح عليها أسئلة لا تجد إجابات لها. أكثرها فظاعة: «لماذا لا نستطيع أن نكون معاً؟». معضلتها في شعورها بالاكتئاب لأقل سبب. كبرت طفولتها التائهة امرأة عصية على الفرح. تغني طوال الوقت للانفصال والألم. في عام 2018، أسقطت هالة ضخمة عن ضميرها، ورغم أنها تهوى الشهرة، صرحت: «الغناء والتجول لم يجلبا لي السعادة». قدر الأرواح المثقوبة.
تصف «30» بأنه طوق نجاة في خضم أكثر مراحل حياتها اضطراباً. رائعة تلك الكلمات التي تفتح صفحة جديدة مع الحياة: «ترفق بي يا صغيري/ كنتُ طفلة/ لم تسنح لي الفرصة لأفهم العالم من حولي». كأنها في جلسة علاج من جلساتها السابقة. هذه المرة بنكهة الشفاء، والتحرر بعد الانكماش، ورحلة البراعم بعد الربيع.
بعد «هالو» (2015)، تجدد التعاون مع المخرج الكندي كزافييه دولان. هذا الشاب يفرك أوجاعها. يخلصها من الصمت. ويذلل بعض متاهاتها النفسية. لا يعقل كيف تورق أمام كاميرته! فيتحول الأبيض والأسود إلى ألوان. والخريف إلى شجن. «ترفق بي»، كلمات ولحناً وغناءً وتصويراً، صادقة لأنها حقيقية. تمتص المعاناة دماء البشر، لكنها تضخ فيهم قوة خارقة.
منذ وفاة جدها في سن العاشرة تقريباً، وخضوعها للعلاج النفسي، وأديل منشغلة بمعاركها الداخلية ومشتعلة بها. يستميلها الحزن وتتحدث عن «جانب مظلم للغاية» في شخصيتها (أروع تجلياته في أغنيتي: «Someone like you»، و«Rolling in the deep»). لأنها منذ الطفولة، لم تدرك الاستقرار العائلي. ومنذ الزواج، لم تدرك الاستقرار العاطفي. ومنذ الطلاق، لم تدرك كل أنواع الاستقرار. تضاف الأمومة إلى هذه الاهتزازات كلها، وتضعضُع الابن بين أبوين منفصلين، وأسئلته وحيرته وأوقاته الصعبة، كلها في «30».
البوح الكثيف بعد السكوت المتعب، يمنح الألبوم خصوصية. تُخبر «فوغ» بطبعتيها الأميركية والبريطانية أنها تريده مداواة لجراح ابنها. النجمة الحائزة على 15 جائزة «غرامي»، التي أدرجتها مجلة «التايم» ضمن قائمة أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم، تتعلم أخيراً حقائق قوية كانت تجهلها. تطرح عن نفسها طبقات كثيرة، وتغلفها أيضاً بطبقات جديدة: «أشعر بأنني أخيراً استعدتُ إحساسي. لم أشعر يوماً بهذا القدر من السلام الداخلي. لذلك، أصبحتُ جاهزة لإصدار الألبوم». هل يدوم سلامها؟ أديل ذاتها لا تعلم!
يذكرها الألبوم بأنه تجدر بها ممارسة الرياضة والاعتناء بنفسها. إلى هذا الحد، كان «شخصياً». تتحدث عنه مثل عاشقة تفشي سر الهيام بمعشوقها، وتقدمه للناس بحميمية. أصدق العطاءات هي الخارجة من القلب، لا من الواجب والضرورة. «30» الذي تصور حوله حلقة في 14 نوفمبر عنوانها «أديل: ليلة واحدة فقط» (CBC الأميركية)، بمثابة رفيق خفف عنها، وأسدى إليها أفضل النصائح. كان الصديق الجامح الذي ذكّرها بأن الإنسان يعيش مرة واحدة. بقي مستيقظاً طوال الليل، وهو يمسك بيدها فيما كانت تجهش بالبكاء بلا توقف من دون أن تعلم السبب. أصر على اصطحابها في نزهة ليُجنبها عزلة المنزل والإحساس بأنها منبوذة. قالت له: «لا أريد الخروج. لا أريد الذهاب معك»، لكنه ألح وأنقذها من دوامتها. همس لها: «زحل في برجكِ الآن! أطلقي العنان لنفسك». علاقتها العاطفية مع الأميركي ريتش بول ليست وحدها خلف عودتها إلى الحياة. ولا خسارتها المذهلة لوزنها. القرارات الشجاعة تفعل. التأمل. والخلاص الذاتي.