الراهب مارتن لوثر والعاصفة

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

الراهب مارتن لوثر والعاصفة

مارتن لوثر
مارتن لوثر

قبع الشاب مارتن لوثر مستكينا أمام العاصفة الرعدية والسواد الدامس والمطر الممتد الذي أحاط به وهو يعبر الغابة في طريقه إلى منزله في مطالع القرن السادس عشر بإحدى مقاطعات ألمانيا بعدما كان عائدا من مدينة «إيرفورفت» التي كان يدرس بها، وقد انكفأ الشاب يرتعد من شدة البرد، ولكنه كان في حقيقة الأمر يخشى بردا مختلفا؛ لقد كان يخشى الموت وأن يلقى ربه وهو مُكَبَّلٌ بالذنوب.. كان الشاب يخشى أن يكون سلوكه في الحياة على غير رغبة المولى سبحانه، فكان يريد أن يطهر نفسه من هذا الخوف. وفي هذه الليلة الرعدية قطع الشاب مارتن لوثر على نفسه عهدا بأن يهب حياته لله سبحانه وتعالى وللطريق الديني القويم إذا نجا من هذه العاصفة، وذلك بالانضمام لأحد الأديرة راهبا، تاركا حلم أبيه بأن يكون محاميا ليخرج الأسرة من طبقتها الاجتماعية الدونية.
ولم يكن الشاب مارتن لوثر يدرك أن هذا العهد الذي حمله للتقرب من الله سبحانه وتعالى والأمان من العاصفة، سيؤدي إلى عاصفة لم تشهد أوروبا مثلها في تاريخها، فلقد كتب لهذا الشاب أن يبدأ حركة واسعة النطاق عرفت بحركة الإصلاح الديني في أوروبا في مواجهة أعتى مؤسسة عرفتها أوروبا الوسطى والغربية؛ وهي مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية وقيادتها ممثلة في بابا روما، فهذا اليوم كان بداية لسلسة من الأيام والسنوات والحقب التي غيرت مجرى التاريخ الأوروبي وفتحت المجال أمام الشعوب الأوروبية للتغيير والتحرر من فساد الكنيسة وطغيانها على الفرد والدولة معا.
لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية بمؤسساتها المتشابكة ورجال دينها فريدة من نوعها في التاريخ الحديث والقديم على حد سواء، فلقد كان البابا مركز سلطة الكنيسة الكاثوليكية، ومقره في روما، وكانت مؤسسته الدينية عابرة للحدود والقوميات بحكم السلطان الروحي، فلقد رأس البابا سلسلة من عشرات الآلاف من الكنائس المنتشرة في أوروبا، التي كان لها دورها الحاسم في فرض مفاهيمها الدينية بموجب الإيمان المطلق بسلطانها، الذي كان مصدره القديس بطرس مؤسس الكنيسة، الذي أخذه مباشرة من توجيه السيد المسيح له.
وحقيقة الأمر أن قوة الكنيسة لم تقف فقط عند هذا الحد، بل إن سلطانها بات يتحدى السلطة السياسية أيضا، فلقد كانت الكنيسة تتحكم في حياة أي شخص في القرن السادس عشر في أوروبا من خلال الطقوس الكنسية المختلفة التي يقوم بها رجالها بدءا بعملية التعميد عند الميلاد لإدخال المولود الجديد إلى الأسرة الكاثوليكية، وحتى عملية الاعتراف الأخير قبيل الوفاة لضمان تطهير الروح للقاء بارئها، إضافة إلى ما عرف باسم «اليوكاريستيا Eucharistia» أي التناول، الذي بمقتضاه يتحول الخبز والنبيذ إلى لحم ودم السيد المسيح.. وغيرها من الطقوس التي ضمنت الولاء الكامل للرعية؛ وأهمها «الاعتراف» بوصفه وسيلة للغفران من خلال الكنيسة، فلقد أخذت الكنيسة على عاتقها مسؤولية أن تصبح هي همزة الوصل بين الله سبحانه وتعالى وكل الرعايا الكاثوليك، والباب إلى جنة الخلود، وهو سلطان إضافي ضمن للبابا والكنيسة دورا محوريا في حياة العباد.
ومع مرور الوقت، بدأت الكنيسة تفسد تدريجيا، فلقد أصبح البابا يقود مؤسسة أقرب ما تكون إلى مؤسسات الدولة؛ لها إداراتها الخاصة، وقد ساهم في إفسادها السلطة الروحية المطلقة التي كانت في أيدي البابوات الذين تفرغوا في مناسبات كثيرة للحياة الدنيوية ولزيادة أموال الكنيسة بما لا يتفق وتعاليمها. كما أن الفساد في السلك الكنسي أصبح ملموسا في كل ربوع أوروبا، خاصة عندما بدأت الكنيسة تتقاضى أجورا عن الخدمات الروحية التي كانت تقدمها للرعية، إضافة إلى تراكم الثراء لديها جراء امتلاكها أراضي كثيرة قدرها البعض بقرابة ثلث الأراضي الزراعية في بعض مناطق أوروبا، وهي لا تخضع للضرائب المدنية، فضلا عما توفر للكنيسة من دخل يفوق في مناسبات كثيرة الدولة، بسبب ضريبة العشر، إضافة إلى الأوقاف والهبات.. وغيرها، وهو ما وضعها في صراع مباشر في مواجهة الملوك والأمراء الذين ضاقوا ذرعا بمثل هذا السلوك الدنيوي للكنيسة.
لم يدرك الشاب مارتن لوثر هذه الحقائق عندما وهب نفسه إلى حياة الرهبنة وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، فلقد عمل على مدار قرابة ست سنوات للتقرب من الله سبحانه وتعالى من خلال ممارسة الطقوس اليومية والبعد عن كل ملذات الحياة ومتع الجسد، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يحصل على ما يريد أو الصفاء الروحي المنشود، فلقد ظل الخوف من عذاب الله قابعا في أعماقه، وقد زاد من حالته النفسية السيئة الرحلة التي قام بها إلى روما موفدا من الدير، حيث وجد في المقر البابوي كل ما هو أبعد عن أصول الديانة المسيحية من بذخ، وإدارة أشبه بالملكية للكنيسة، فضلا عن فساد غير مبرر؛ وعلى رأسه فكرة بيع صكوك للغفران من مرحلة «المطهر» التي تعذب فيها روح الكاثوليكي لتتطهر قبيل دخول الجنة، وهو ما كان يتعارض تماما ومفاهيم هذا الشاب الراقية حول المسيحية وتعاليم السيد المسيح.
عاد مارتن لوثر من رحلته وهو حانق على الكنيسة، وبدأت رحلة الشك في المؤسسة الكنسية تسيطر عليه، ومع ذلك ظل قابعا في فكره خائفا من الهلاك في الآخرة، ولكن الظروف لعبت لصالحه حين تم نقله إلى جامعة «فيتنبورغ»؛ حيث تبناه أحد الأساتذة ومنحه فرصة للتعلم ودراسة الكتب المقدسة بشكل أعمق بكثير مما كان سائدا في الأديرة، وتدريس اللاهوت، وقد زاد هذا من موقفه المتشكك إلى أن اصطدم بظاهرة مباشرة تمثلت في بيع صكوك الغفران للشخص أو أسرته من الأحياء أو الأموات، التي قادها موفد البابا المسمي «جون تيتزل»، وكان الهدف من ذلك هو جمع المال للانتهاء من تشييد كنيسة القديس بطرس في روما.
وقد هال مارتن لوثر ما سمع من أمر هذا «المنافق»، واعتبره تجسيدا لما لا يجب أن تكون عليه الكنيسة، وقد كانت هذه الحادثة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فلقد قرر مارتن لوثر عدم الرضوخ إلى هذه الظاهرة ومعها كثير من تعاليم الكنيسة وسلوكها، خاصة أن دراسته اللاهوت أوصلته إلى حقيقة أساسية؛ وهي أن الغفران يأتي من الله مباشرة، ولا يحتاج إلى وسيط من البابا أو رجاله، فالمطلوب أن يكون الإنسان خالص النية لربه، وأن التوبة هي مفتاح النجاة. وهنا بدأ مارتن لوثر يضع يده على مفتاح الهداية والإيمان بالنسبة له.
انفجرت الثورة الداخلية للشاب مارتن لوثر، فاحتج على هذا السلوك في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1517 ميلاديا، من خلال قيامه بكتابة ما عرف بـ«الخمس والتسعين رسالة» مستندا فيها إلى الكتب المقدسة ليثبت للعامة وللكنيسة أن بيع صكوك الغفران أمر غير مقبول أو جائز وفقا لتعاليم المسيحية، وقد قام بتعليق هذه الرسائل على مدخل كنيسة «فيتنبورغ» في نوع من الاحتجاج على هذه الممارسة والفساد.
وقد فوجئ أهل المدينة بهذه الرسائل، وهو ما أدخل المدينة في حالة ذهول ومناقشات ممتدة، وعلى الفور تم إرسال نسخة من هذه الرسائل إلى البابا في روما، ومن هنا انطلقت الشرارة الأولى لما هو معروف باسم «حركة الإصلاح الديني في أوروبا»، وهي في التقدير أقوى وأعنف حركة سياسية - اجتماعية تضرب أوروبا في تاريخها، سواء قبل أو بعد اعتناقها المسيحية، فلقد واجه الشاب مارتن لوثر أقوى مؤسسة في أوروبا وحده في بداية الأمر، ولكنه لم يبقَ وحده في هذا الصراع، فلقد اكتسب كثيرا من التحالفات والقوة مع مرور الوقت؛ حيث كان الأمراء والملوك قد ضاقوا ذرعا بقوة البابا المتنامية التي بدأت تنافسهم، لامتلاك البابا حق عزل أي حاكم أو أمير كنسيا بما يخرجه عن الملة تماما، كما كان في استطاعته خلع ولاء طاعة الرعية عنه في حال عدم امتثاله لرغبات الكنيسة، كما أن تراكم القوة السياسية الذي لم يَفُقْهُ إلا تراكم القوة المالية، كان له أكبر الأثر في اتساع الهوة بين السلطة الزمنية ممثلة في الملوك والأمراء، مقابل السلطة الكنسية ممثلة في البابا ورجال كنيسته، فلقد كانت الكنيسة في مناسبات كثيرة أغنى من الدولة ذاتها إلى الحد الذي أصبحت فيه الكنيسة تنافس الدولة في الاستحواذ على الضرائب والرسوم والهبات، وهو ما وضعها في طريق الصدام مع الدولة. يضاف إلى كل ذلك، أن الكنيسة كانت تعتبر سلطانها أقوى من سلطان الملوك والعامة، وبالتالي، فقد كان من الطبيعي أن يبدأ الصدام، وأن يسعى الملوك والأمراء إلى القضاء على نفوذ الكنيسة..
وهكذا أصبح المسرح مهيئا لأكبر صدام فكري وسياسي وعسكري في التاريخ الأوروبي كما سنرى.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.