ميانمار تتطلع لإنهاء حروبها الأهلية المستعرة منذ 65 عامًا

مشروع اتفاق بين الحكومة و16 مجموعة عرقية قبل أشهر من انتخابات حاسمة

ممثل الحكومة أونغ مين (يسار) يصافح رئيس وفد حركات التمرد ناينغ هان ثا بحضور رئيس الدولة ثين سين (أ.ف.ب)
ممثل الحكومة أونغ مين (يسار) يصافح رئيس وفد حركات التمرد ناينغ هان ثا بحضور رئيس الدولة ثين سين (أ.ف.ب)
TT

ميانمار تتطلع لإنهاء حروبها الأهلية المستعرة منذ 65 عامًا

ممثل الحكومة أونغ مين (يسار) يصافح رئيس وفد حركات التمرد ناينغ هان ثا بحضور رئيس الدولة ثين سين (أ.ف.ب)
ممثل الحكومة أونغ مين (يسار) يصافح رئيس وفد حركات التمرد ناينغ هان ثا بحضور رئيس الدولة ثين سين (أ.ف.ب)

وقعت حكومة ميانمار وعدد من المجموعات العرقية المسلحة مشروع اتفاق سلام وصفته الأمم المتحدة بـ«التاريخي» لهذا البلد الذي يشهد حربا أهلية منذ عقود. وإذا تم التوصل إلى اتفاق نهائي، فإن ذلك سيمثل تقدما كبيرا في طريق إنهاء 65 عاما من الصراع المسلح في البلاد. وكانت حكومة ميانمار شبه المدنية التي تولت السلطة في 2011 بعد 49 عاما من الحكم العسكري، قد جعلت إنهاء الأعمال العدائية مع الكثير من الجماعات التي حملت السلاح منذ الاستقلال عام 1948 إحدى أولوياتها.
وقال رئيس الدولة ثين سين الذي ظهر فجأة في رانغون ليتحدث أمس أمام ممثلي الفصائل الـ16 الرئيسية لمجموعات الأقليات العرقية في البلاد، إن «الناس يحتاجون إلى السلام ويريدون السلام وينتظرون السلام». ورأى أن انتهاء المعارك بات قريبًا جدًا من دون الإشارة إلى المواجهات المستمرة في شمال البلاد على الحدود الصينية. وقال الرئيس سين: «بعد توقيع هذه الوثيقة يصبح الباب مفتوحا لحوار سياسي، وهذا سيضمن لمهندسي السلام مكانا في تاريخ ميانمار».
وكان الجانبان أعلنا أن المفاوضين توصلوا إلى اتفاق إطار لوقف إطلاق النار على المستوى الوطني، محققين بذلك هدفًا استراتيجيًا للحكومة قبل الانتخابات التي ستجرى في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، لكن يفترض أن توافق على الاتفاق المجموعات المتمردة الـ16 المشاركة في المفاوضات، بينما تتواصل المعارك بين الجيش والمتمردين في شمال البلاد على الحدود مع الصين. وقال ناينغ هان ثا الذي يقود وفد المفاوضين باسم المجموعات الـ16: «إنها المرحلة الأولى باتجاه توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار على المستوى الوطني وفتح صفحة الحوار السياسي». وتعد الانتخابات المقبلة حاسمة لمعرفة مدى مصداقية النظام في تخليه عن الحكم العسكري والعودة إلى الديمقراطية.
ولن يكون الاتفاق نهائيا إلا بعد لقاء بين مختلف المجموعات العرقية المسلحة لم يحدد موعده بعد. ووصفت الأمم المتحدة أمس مشروع الاتفاق بأنه «تاريخي». وقال المستشار الخاص للأمم المتحدة فيجاي نامبيار، إن «توصل حكومة ميانمار و16 مجموعة عرقية مسلحة إلى اتفاق هو نجاح تاريخي ومهم». إلا أنه أوضح أنه ما زال هناك «الكثير من المشكلات والصعوبات» التي يجب حلها. لكن قدرة المفاوضين التي سمحت بالتوصل إلى أرضية تفاهم تشكل الدليل على أن «الثقة والتعاون ممكنان بين الأعداء السابقين وأن بذور التغيير بدأت تتفتح في بورما». وقال المفاوضون، إن بعض النقاط الأكثر إثارة للخلاف سحبت ليتاح أخيرا توقيع مشروع الاتفاق، لكن تم إيجاد تسويات لمعظم النقاط.
وكانت عدة قضايا شائكة مثل دور الجيش الذي ما زال يتمتع بنفوذ قوي جدًا وإمكانية إنشاء جيش فيدرالي، أدت إلى عرقلة المفاوضات عدة مرات. وقال أحد كبار مفاوضي الحكومة هلا مونغ سوي في مؤتمر صحافي: «لم يعد هناك أي شيء يجب مناقشته، ومن جهتنا نحن مستعدون للتوقيع».
وتوصلت ميانمار في نهاية المطاف إلى وقف لإطلاق النار مع 14 من حركات التمرد العرقية الـ16 في البلاد. وقد أخفقت المفاوضات حتى الآن مع جيش التحرير الوطني للتانغ في ولاية شان وجيش استقلال كاشين. وشان وكاشين منطقتان واقعتان على الحدود مع الصين شمال شرق البلاد. وفي هذه المنطقة استؤنف مطلع فبراير (شباط) الماضي نزاع كان قد هدأ، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى وآلاف اللاجئين وأثر على محادثات السلام.
وتواجه ميانمار المستعمرة البريطانية السابقة، منذ استقلالها حركات تمرد لمجموعات تطالب بحكم ذاتي أوسع. ويبدو الوضع قابلا للانفجار في عدة مناطق حدودية ويزيد من التعقيد رهان السيطرة على الثروات الطبيعية.



الملا عثمان جوهري يستذكر العمليات ضد الأميركيين

الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
TT

الملا عثمان جوهري يستذكر العمليات ضد الأميركيين

الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)

قاد الملا عثمان جوهري واحدة من أعنف الهجمات على القوات الأميركية في أفغانستان، وهي معركة «ونت» التي باتت رمزاً للحرب ذاتها.

كان جوهري، قيادي «طالبان» السابق يرتدي نظارات شمسية ومعطفاً من الصوف الثقيل، كما لو أنه قد يترك المكان في أي لحظة. على طاولة مغطاة بالبلاستيك تفصل بيننا تحت ضوء الفلورسنت، كان هناك تل من اللحم والأرز الذي لم يُمس. كانت هذه هي المرة الأولى التي نلتقي فيها، تحديداً في شتاء عام 2022، وقد اختار للقاء مكاناً يقع في نُزل وسط شارع مزدحم.

كانت أصوات التجار وهدير حركة المرور تتسلل عبر نافذة مفتوحة فيما كنت أشرح له لماذا تعقبتُ أثره. منذ أكثر من عقد من الزمان، حاصر 150 مقاتلاً من «طالبان» قاعدة أميركية في سفوح جبال «هندوكوش»، وقُتل تسعة جنود وأُصيب أكثر من عشرين فيما باتت تُعرف بمعركة «ونت»، التي تعد واحدة من أعنف الهجمات على القوات الأميركية خلال الحرب بأكملها.

وايغال هي قرية كبيرة في عمق وادٍ باسمها لم تتمكن القوات الأمريكية من الوصول إليها مطلقاً خلال حملتها بنورستان (نيويورك تايمز)

هذا الرجل، الملا عثمان جوهري، كان قائد ذلك الهجوم، وهي معجزة أنه لا يزال على قيد الحياة. فخلال الحرب، كان القادة المتوسطون في «طالبان» يلقون حتفهم بانتظام. لكن ها هو حيٌّ يُرزَق. على مدار أكثر من عشرين عاماً، كانت الصحافة الأميركية تغطي نصف الحرب فقط. وأنا، بصفتي صحافياً سابقاً في أفغانستان ورئيس مكتب كابل، كنت جزءاً من ذلك أيضاً. كانت أجزاء كبيرة من البلاد محظورة، وكان تصوُّر «طالبان» غالباً ما يقتصر على دعاية الحركة، وكانت القصة الحقيقية غير معروفة. قرأتُ بصفتي صحافياً كل التقارير المتعلقة بمعركة «ونت»، وكل درس مستفاد. لكن الآن وقد انتهت المعارك، أصبحت أتساءل عما فاتنا. قد أتمكن من الحصول على بعض الرؤى حول كيفية انتهاء الحرب بشكل سيئ بالنسبة إلى الولايات المتحدة (وكذلك بالنسبة إلى كثير من الأفغان، لا سيما النساء).

أردت رؤية الحرب من الجانب الآخر لتقديم منظور قد لا يراه القارئ مطلقاً، ودروس مستفادة من الجماعة الوحيدة التي لم يُطلب منها ذلك، جماعة «طالبان». فبعد حرب فيتنام، التي تتشابه إلى حد كبير مع الحرب في أفغانستان لدرجة أنها أصبحت أشبه بالإكليشيه، مرّت عقود قبل أن تتعامل الولايات المتحدة مع عدوها السابق.

وبحلول ذلك الوقت، كان كثير من قادتها العسكريين قد ماتوا، وضاعت فصول من التاريخ ربما إلى الأبد، حسب المؤرخين.

الملا عثمان جوهري بمنزله في وايغال بولاية نورستان بأفغانستان (نيويورك تايمز)

قدمتُ هذا العرض للملا عثمان جوهري مرتين من قبل: الأولى كانت عبر حارسه الشخصي، الذي كان يرتدي زياً يشبه زي قوات العمليات الخاصة؛ والأخرى كانت عبر مساعده، الذي كان بمثابة قنبلة موقوتة في الانتظار، ولم يعد مطلوباً. أخيراً، جلستُ أمام الملا عثمان نفسه، وعندما انتهيت من حديثي، لم يقل شيئاً، ولم يحرّك حتى رأسه. نظرنا إلى الطعام الذي بدأ يبرد أمامنا حتى أشار إلى حارسه ليتهيأ، فقد كنا متجهين إلى موقع «ونت» بسفوح جبال «هندوكوش».

اليوم في «ونت»، ما زالت بقايا القاعدة الأميركية السابقة قائمة، مهدمة وممزقة كذكرى باهتة، أطرافها التي كانت قائمة في السابق ذابت في الأرض مثل لوحة لسلفادور دالي. أراني الملا عثمان خطوط إمداد «طالبان» ومواقع إطلاق النار، وأعاد تمثيل الحصار. لكن بينما كنا نتحدث على مدار الأيام التالية، ثم الأشهر والسنة التالية، أقنعني الملا عثمان بأن معركة «ونت» بدأت فعلاً قبل سنوات -لكنّ الأميركيين لم يكونوا يدركون ذلك. قال لنا إنه لكم يكن عضواً في «طالبان» عندما بدأت الحرب. وبعد انضمامه، أصبح موضع سخرية في قريته. كان السكان المحليون في الوادي يؤمنون بمستقبل وَعَدَتْهم به الولايات المتحدة. لكن بعد ذلك، بدأت الغارات الجوية الأميركية، التي استهدفت مسلحين مشتبه بهم، في قتل الأبرياء. هذه القصة مألوفة بشكل محبط، ولكن كان ما هو أغرب، فالأمريكيون قتلوا وجرحوا أولئك الذين دعموا وجودهم أكثر من غيرهم.

بدأت عمليات تجنيد «طالبان» في الازدياد، حسب الملا عثمان، مع تحول الأميركيين من حلفاء إلى أعداء.

يقول : «لم يكن هناك أي عنصر لـ(طالبان) هنا عندما بدأت الحرب»، عبارة قالها لي الملا عثمان جوهري في تلك الرحلة الأولى إلى قريته الأصلية في ويغال، التي تقع في عمق الوادي تحت الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج. «لكن بعد أن دخل الأميركيون وبنوا قواعدهم وقتلوا الأبرياء، نهض الناس وقرروا القتال».

دروس مستفادة

نورستان، منطقة جبلية في شمال أفغانستان، لم تكن تهدف مطلقاً لتكون نقطة محورية في الحرب على الإرهاب. لم تكن معقلاً طبيعياً لـ«القاعدة» أو «طالبان». في الواقع، خلال فترة حكمهم الأولى في التسعينات، كانت «طالبان» قد دخلت المنطقة بالكاد. ومع ذلك، اعتقد الأميركيون أنها طريق لتهريب الأسلحة والمقاتلين وملاذ آمن لتنظيم «القاعدة»، لذا بنوا قواعد وبدأوا في تنفيذ دوريات عدوانية في أماكن كانت معتادة على الاستقلال.

في رحلاتي عبر الوادي، قابلت حلفاء للولايات المتحدة تعرضوا للتشويه جراء الغارات الجوية، والذين فقدوا عائلاتهم أيضاً. هؤلاء الأشخاص كانوا بمثابة تذكير بقلة إدراك الولايات المتحدة للحرب التي كانت تخوضها. اتضح أن الأميركيين كانوا مخطئين بشأن كون نورستان معقلاً للإرهابيين. لكن قواعدهم أصبحت بمثابة مغناطيس يجذب المسلحين، مثل «حقل الأحلام» للمتمردين: الأميركيون بنوها، ثم جاءت «طالبان». وبحلول الوقت الذي قاد فيه الملا عثمان فريقه عبر الجبال لشن الهجوم على القاعدة الأميركية في «ونت»، كان الوادي قد تحوَّل ضد الأميركيين، وكانت النتيجة مأساوية.

*خدمة «نيويورك تايمز»