يوسف شاهين والآخرون وسينما السبعينات الانتقادية

عرض مواقفه ذاتياً وبأسلوب المؤلّف

TT

يوسف شاهين والآخرون وسينما السبعينات الانتقادية

يعرض موقع Mubi الخاص بالمشتركين فيلم يوسف شاهين «الأرض» ضمن احتفال يضم فيما يضم «باب الحديد» (1953) و«صراع في الوادي» (1954) و«عودة الابن الضال» (1976). بذلك يفتح المجال أمام جيل جديد من الهواة وجيل أكبر منه من الذين يعرفونه جيداً أو من أولئك الذين سمعوا عنه ولم يشاهدوا إلا القليل من الأفلام التي صنعها.
بين كل ما حققه المخرج الراحل من أفلام (39 فيلماً طويلاً) يبقى «الأرض» أكثر أفلامه تقديراً بين النقاد العرب والعديد من النقاد الأجانب الذين شاهدوه. هو من أكبر أفلامه إنتاجاً إلى حين تصويره (1969) وعرضه (1970) جنباً إلى جنب «الناصر صلاح الدين» (1963) و«بياع الخواتم» (1965).
في الواقع هو من أفلامه القليلة آنذاك التي حوت نقداً اجتماعياً أو سياسياً. في ذلك كانت لديه سوابق محدودة في هذا الاتجاه من بينها «صراع في الوادي» (1954) و«باب الحديد» و«جميلة» (كلاهما من إنتاج 1958) بالإضافة إلى «الناصر صلاح الدين» سنة 1963. كما تقدّم.
باقي أفلامه في الواقع، حتى فيلم «الأرض»، مثل «بابا أمين» (1950) و«المهرج الكبير» (1952) «نساء بلا رجال» (1954) و«ودّعت حبك» (1956) كانت حكايات كوميدية وغرامية بإخراج قليل الاهتمام بالمنحى الذاتي. أسلوبياً لا يمكن اعتبارها من سينما المؤلف كما الحال مع «باب الحديد» مثلاً.

- رحلة في الزمن
عن قصّة عبد الرحمن الشرقاوي استخلص يوسف شاهين العناصر التي يريد التوقف عندها ولو بالإيحاء أو بالاستلهام أو بالرمز. كانت مرّت ثلاث سنوات على هزيمة 1967 لكن الرواية وُضعت قبل الهزيمة بسنوات وتدور في ثلاثينات القرن الماضي، أي قبل ثورة 1952. بالنسبة لشاهين فإن صنع محاكاة ما بين هزيمة ثائر ضد الإقطاع اسمه محمد أبو سويلم (محمود المليجي) وهزيمة 1967. ربما في هذه المقارنة المعقودة تباين شديد لكن شاهين لا يبدو أنه اكترث للتفاصيل التي تباعد بين الجانبين، خصوصاً وإن بعض الفيلم يتناول كذلك الفساد والسُلطة وضعف المنكوبين من جراء قيام صاحب أراضي الريف التركي بالسطو على الماء والأرض من دون أن يتمكن أحد من إيقاف اعتداءاته.
ما هو أقوى وأوضح منالاً يكمن في عملية العودة إلى سنوات ما قبل الثورة وبذلك يبقى الفيلم مثالاً جيداً لمرحلة زمنية عانى فيها الفلاح، من بين قطاعات أخرى، في قوته وحياته. السينما نقلت هذا الوجه في أفلام أخرى مثل «الحرام» لهنري بركات (1965) و«الزوجة الثانية» لصلاح أبو سيف (1967). لكن «الأرض» جسّد العلاقة بين الإنسان المصري والأرض وبينه والأرض من ناحية والماء وبين هذه العناصر الثلاثة والمستبد الأجنبي.
إذ أخرج شاهين الفيلم بعد سنتين من الهزيمة (من دون أن نؤكد الروابط التي استوحاها البعض ما بينها وبين الفيلم) بدا أنه رصف طريقاً أمام مخرجين آخرين يريدون السير في ركب أعمال ناقدة. لكن الأمانة تقتضي القول إن بعض تلك الأفلام كانت أكثر ربطاً بين الواقع السياسي ما بين 1967 وحتى أواخر السبعينات. بكلمة أخرى فإن «الأرض» على قوّته درامياً وفنياً وأهميّته بالنسبة للسينما المصرية والعربية على حد سواء، يتيح لنا الريبة في تلك الدلالات غير المؤكدة أصلاً. «الأرض»، في قراءة مباشرة، ليس سوى فيلم عن الإقطاع في زمن مضى وحكايات لشخصيات تبقى شخصية محمد أبو سويلم أقواها شأناً وأبقاها في أي ذاكرة بسبب ذلك المشهد الذي يتم سحله فوق تراب أرضه فيقبض على ذلك التراب في رفض وألم.
في سنة 1969 قدّم حسين كمال فيلمه الجيد «شيء من الخوف»، الذي تقع أحداثه في الريف المصري أيضاً. على عكس «الأرض» فإن هناك ملامح من شخصية بطله عتريس. هذا (كما أدّاه محمود مرسي) كان رئيس عصابة يعيث فساداً وقتلاً في القرية ناشراً الخوف. الفيلم بموضوع كهذا اعتبر من قبل المسؤولين ترميزاً لنظام الرئيس جمال عبد الناصر. لكن الرئيس لم ير ذلك ما مهّد لعرض الفيلم جماهيرياً بعدما كان تم منعه بقرار من الرقابة.

- أفلام ناقدة
رمز أو لم يرمز ليس جوهر المسألة، بل حقيقة أن أحداثه لم تقع في زمن ما قبل الثورة المصرية بل بعدها. بذلك يقوى الإيحاء بأن رواية ثروت أباظة والفيلم المأخوذ عنها عنيا نقداً للنظام.
فيلم مهم آخر من أفلام 1969 هو «ميرامار» لنجيب محفوظ مؤلّفاً وكمال الشيخ مخرجاً. هنا لا يوجد أي التباس في حقيقة أن المقصود من الفيلم تعرية الاتحاد الاشتراكي ومن خلفه نظام الحكم في تلك الآونة. شخصيات «ميرامار» نموذجية من حيث إن الروائي الكبير نجيب محفوظ حشد شخصيات عديدة معظمها كانت ذات مناصب رسمية أو إعلامية أو مستفيدة من وضع وجدوا فيه مناسبة للاستغلال. كان كمال الشيخ قرر منذ البداية ألا يحقق أفلاماً سياسية ونفى في أحاديثه أنه فعل ذلك علماً بأن لديه «الهارب» (1974) و«على من نطلق الرصاص» (1975) وهما من بين أفلام السبعينات المكتوبة بنبض سياسي واضح. لكن «ميرامار» كان أول هذه الأفلام الثلاثة التي خرج بها عن القاعدة.
ما ساعد الفيلم على كسر التهديد بمنعه من قِبل الرقابة حقيقة أن من يعرضهم هم من المستفيدون من النظام، والنقد محصور بممارساتهم وليس بالنظام ذاته.
ولم يمضِ وقت طويل من قبل أن يخوض المخرج علي بدرخان المجال ذاته. ففي سنة 1975 قام بإخراج فيلم «الكرنك»، الذي كتبه نجيب محفوظ أيضاً وبالتالي خرج كرواية، ثم كفيلم، شبيهاً بفيلم «ميرامار» من حيث تعدد شخصياته وتضارب مصالحها مع مصالح المواطن. لكن إذا كان «ميرامار» خص نفسه بانتقاد الموظفين والمسؤولين المستفيدين من النظام، فإن «الكرنك» انتقد النظام نفسه، مما سمح له باستقبال مديح البعض وهجوم البعض الآخر.
في العام ذاته خرج فيلم ممدوح شكري «زائر الفجر» حول صحافية يسارية تريد فضح ممارسات القوى الخفيّة للنظام. رجال المخابرات والأساليب المتّبعة للترهيب التي قد تصل إلى حد الخطف والسجن والتعذيب وبل القتل. وهذا كله يقع، حسب سيناريو لرفيق الصبّان، لتلك الصحافية (ماجدة الخطيب) التي يبدأ الفيلم بها مقتولة، مما يستدعي المحقق البحث عن الجاني ليكتشف أن هناك أكثر من مستفيد لقتلها.
هذا شبيه ببداية ونهاية واستنتاجات فيلم «المذنبون» الذي أخرجه سعيد مرزوق في العام ذاته. فهو يبدأ باكتشاف جريمة قتل، ثم يعود أدراجه لسرد حياة الضحية (سهير رمزي) ليجد أن هناك أكثر من شخص كانت لديه مصلحة في قتلها ولو أن من نفّذ الجريمة شخص واحد (حسين فهمي). في ذلك الفيلم أيضاً شخصيات سياسية يطرحها الفيلم (الذي وضع قصّته نجيب محفوظ أيضاً) كواجهة لنقد المرحلة السابقة لحكم أنور السادات.
المختلف في أفلام يوسف شاهين بعد «الأرض»، تحديداً «الاختيار» (1971) و«العصفور» (1974) هو أن الرجل عالج أعماله بأسلوب المخرج الذي لا يريد تنفيذ الفيلم ورسالاته فقط، بل تقريبه إلى ذاته. كلاهما كان سرداً لفترة وبحث عن أسباب وإظهار نتائج، لكنهما كانا في الوقت ذاته خطوة مهمّة واحدة صوب شاهين المخرج الذي يريد أن يتحدّث عن نفسه في الوقت الذي يسرد فيه أحداثاً. شاهين الذي يرى أن على الفيلم الجيد أن يخرج من الذات وليس من الحكاية التي يضعها سواه سارداً أحداثاً ليست قريبة من مخرجها إلا كفعل تنفيذي للعمل الذي يقوم بتحقيقه.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.