من نابليون إلى السيسي... 20 شخصية تختصر تاريخ مصر الحديث

رؤية جديدة لتاريخ المنطقة العربية بأكملها

روبير سوليه
روبير سوليه
TT

من نابليون إلى السيسي... 20 شخصية تختصر تاريخ مصر الحديث

روبير سوليه
روبير سوليه

متعة حقيقية هي قراءة كتاب «وجوه مصر الحديثة»، للروائي الصحافي الفرنسي - المصري روبير سوليه. فعلى الرغم من أن تاريخ مصر كتب فيه الكثير، فإن هذا الكتاب يأخذ على عاتقه أن يقدم رؤية، لا أن يسرد أحداثاً، وأن يعيد الحياة إلى مائتي سنة من التاريخ العربي الحديث، بدل أن يقدمه بحيادية باردة. سوليه بأسلوبه الروائي السلس العذب، ومن ثم مترجم النص عن الفرنسية أدونيس سالم، نجح في إيصال مؤلفٍ مغرٍ، يبدأ به القارئ، ولا يستسلم حتى يأتي على صفحاته الثلاثمائة.
بدءاً من نابليون بونابرت إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، يكتب سوليه تاريخ مصر من خلال حياة 20 شخصية كان لكل منها الدور المفتاح. الكاتب وفق فعلاً في غربلة الأسماء، وفي الكتابة عنها بتسلسل زمني يجعل حياة واحدها كأنه يكمل الآخر. والطريف أنه لم يميز بين سياسي وأديب ومطربة وقائد عسكري، فكل لعب الدور الذي أثر في رأيه في صناعة الأحداث. لهذا تم اختيار: محمد علي، ورفاعة الطهطاوي، وأحمد عرابي، واللورد كرومر، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وحسن البنا، وطه حسين، وجمال عبد الناصر، وأم كلثوم، وأنور السادات، ونجيب محفوظ، وآخرين غيرهم. أنسنة التاريخ وكتابته من باب شخصياته منحه مسحة تشويقية، وإن صعّب مهمة الكاتب الذي تحمّل عبء البحث عن الجوانب التفصيلية لكل شخصية لمنحها قوامها الأدبي وحرارة الحياة. وكلما تقدمت في صفحات الكتاب، اتضح لك كم أن تاريخ مصر صاخب هائج، وكم من الجنسيات والشعوب مرّت، حكمت وحاربت، هزمت وانتصرت، وكيف أن وصول جمال عبد الناصر إلى سدة الحكم لم يكن مجرد انقلاب ضباط شبان على الملكية، واستبدال جمهورية بها، وإنما وصول مصري إلى حكم مصر للمرة الأولى بعد غياب تاريخي طال أمده. فلم يكد نابليون بونابرت يقضي على حكم المماليك، حتى جاء محمد علي الألباني الأصل الطامح إلى إقامة إمبراطوريته، وتبعته سلالته التي بقيت تتولى السلطة حتى سقوط الملك فاروق. هذه الفترة المتقلبة، من بلوغ نابليون شواطئ الإسكندرية حتى الإطاحة بآخر سلالة محمد علي، تخللها استعمار ومعاناة، وتحكم من الإنجليز والفرنسيين والأتراك، وتسلط من الشركس. بمعنى آخر، فإن عبد الناصر مثّل بالنسبة للمصريين تحقيق حلم طال انتظاره فهو «من أصول مصرية، وابن الشعب»، كما أنه عربي، لذلك كان الأجدر بأن يحمل الحلم القومي، كما لم يفعل أحد من قبل.
في مطلع الكتاب، نلتقي بنابليون أو «السلطان الكبير»، كما سماه المصريون، الذي لم يصمد في مصر أكثر من 36 شهراً، وهرب مهزوماً بعد أن انكسر في عكا، وضاع حلمه الإمبراطوري بسبب تحالف بريطاني - عثماني. فقد كان هدفه النهائي الوصول إلى الهند، ورأى في الإسكندر قدوته، وانتهى حزيناً خائباً، فهو الذي كتب: «في مصر، وجدتني متحرراً من عوائق حضارة مزعجة. كنت أحلم بأشياء كثيرة، وأجد الوسيلة لتطبيق كل ما حلمت به. كنت أؤسس لديانة جديدة، وأرى نفسي في الطريق إلى آسيا ممتطياً فيلاً، وعلى رأسي عمامة، وبيدي قرآن جديد ألفته كما أشاء. كنت سأجمع في مشاريعي تجارب العالمين، وأستفيد من دروس التواريخ، وأهاجم القوة الإنجليزية في الهند، ثم أعود لأنسج بواسطة هذا الغزو علاقاتي مع أوروبا العجوز. الفترة التي أمضيتها في مصر كانت أجمل فترة في حياتي لأنها كانت الأكثر مثالية».
الفترة النابليونية على قصرها مهدت لتولي محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، مقاليد الحكم، وفتحت الباب أمامه لإرسال بعثته العلمية الأولى إلى باريس، حيث أوفد 44 شاباً، على رأسهم الإمام الأزهري اليانع، رفاعة الطهطاوي. وهو الذي سيبزّ كل من ابتعث معهم، سواء في إجادة الفرنسية، أو كتابة مشاهدته، عملاً بنصيحة أستاذه حسن العطار الذي كان هو نفسه قد تتلمذ على يد علماء بونابرت في مصر. وبعودة الطهطاوي، سيصبح كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الأول من نوعه عن الحياة في أوروبا، ويتحول إلى مرجع. كما سيفتتح مدرسة الألسن، ويطلق الترجمة، ويكون وراء كثير من المؤسسات الثقافية التي ستلعب أدواراً محورية، ويعين وزيراً للتعليم العام، ويطلق عصر النهضة الفكرية في العالم العربي.
ثم نصل إلى الخديوي إسماعيل الذي كان له فضل أحياء عمل كان قد بدأ قبل توليه الحكم بأربع سنوات ثم توقف، وهو وصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض بواسطة قناة بطول 160 كيلومتراً. كان ذاك عام 1854، حيث الحلم بقناة السويس قد بدأ، والمخاوف تصاعدت، فلا الباب العالي يوافق خشية أن تنال مصر استقلالية أكبر، ولا إنجلترا خشية أن يدعّم المشروع النفوذ الفرنسي في المنطقة. أهدر إسماعيل كثيراً من الاستثمارات في مشاريع لم تثمر، وأورث خليفته بلداً مفلساً يقبع تحت رحمة دولتين دائنتين، هما فرنسا وبريطانيا، فرضتا سيطرة تشبه الاستعمار، ما سيحرّض على انبجاس حركة وطنية.
ويبين سوليه كيف أن ثورة أحمد عرابي هي حركة كفاح عسكريين مصريين هضمت حقوقهم لصالح الأتراك والألبان والأكراد من زملائهم. فقد انتظر عرابي عقدين ليصبح عقيداً، وهذه أعلى رتبة يستطع «ضابط فلاح» بلوغها. عرابي الذي جابه الإنجليز بجسارة، ودفع أثماناً غالية، منها تخوينه، لم يعد إليه الاعتبار بصفته بطلاً وطنياً إلا بعد نصف قرن من قبل عبد الناصر.
وكما لعب عرابي دوراً في بلورة الهوية المصرية، تمكن محمد عبدة، صاحب كتاب «التوحيد» الذي عين مفتياً للديار المصرية، من تدعيم فكرة أن النهضة لا تأتي إلا متسقة مع الإسلام الذي يحتاج إلى تحديث. وعلى الرغم من المعارضة، تمكن من فتح الباب أمام ظهور مصلحين ومثقفين وسياسيين، مثل لطفي السيد وسعد زغلول، وعلى يديه تتلمذ قاسم أمين.
ظهور سعد زغلول (أبو الأمة) هو امتداد لما سبق، فهو أحد طلاب جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، معه اشترك في ثورة عرابي، وسجن بتهمة «المشاركة في جمعية سرية». وعلى الرغم من أنه فلاح مصري تمكن من السفر إلى فرنسا، ونيل إجازة في الحقوق، وأصبح وزيراً للتعليم، ومن ثم وزيراً للعدل. وانتظر حتى عام 1919، وانتهاء الحرب الأولى، ليلقي خطابه الحماسي الشهير الذي يطالب فيه بالاستقلال، ويرحل بسببه مع ثلاثة من رفاقه إلى مالطا، وتبدأ معارك حزب الوفد من أجل حرية مصر، سواء كان على رأس الحكومة أو خارجها. ويصف البراون فيرمن فان دان بوش الحقوقي البلجيكي زغلول بأنه «رجل إرادة وعناد، يثير العواصف ويجد الارتياح فيها كأنه في وسطه الطبيعي». ومع ظهور القومية العربية، تجاوزت أهمية زغلول مصر، لينظر إليه على أنه «زعيم الشرق كله».
من الصعب لمقالة أن تعكس روح الكتاب، المبنية أهميته على تفاصيله، والإيحاءات الذكية التي يستخدمها سوليه لمساعدة القارئ على ربط الأحداث والخروج باستنتاجات. فحين نصل إلى الصفحات المخصصة للملك فؤاد الأول (1917-1936)، نقرأ وصفاً مذهلاً لأحوال مصر بعد تفكك السلطنة العثمانية، فالقاهرة تحولت إلى باريس الصغرى، بترفها وبذخها ومقاهيها وأماكن اللهو. يقول الكتاب: «لم يسبق لمصر وأوروبا أن تقاربتا على هذا النحو قط». كانت عيون فؤاد الأول شاخصة نحو أوروبا. وفي هذا البلد الذي كانت تحتله بريطانيا منذ عام 1882، كل العقود كانت توقع بالفرنسية، وكثير من المراسلات الإدارية الرئيسية أيضاً، وحتى نقاشات مجلس الوزراء. كثيرة الشخصيات التي وقعت تحت التأثير الفرنسي. هدى شعراوي، ذات الجرأة الاستثنائية، كانت على تواصل مع كاتبات فرنسيات في معركتها، وتدعى إلى مؤتمرات نسوية في باريس، وتقضي عطلاتها في أوروبا. كما أنها أسست مجلة فرنسية شهرية في مصر، اسمها «المصريات»، استمر صدورها 15 سنة باللغة الفرنسية، فقد كانت مهتمة بإطلاع الرأي العام الغربي على حال المرأة والمجتمع في مصر. شعراوي لم تقف لا مبالية أمام خطر زحف اليهود على فلسطين، وعبرت عن رفضها الشديد، وخشيتها من أن يحل هؤلاء مكان الفلسطينيين، وأدانت الممارسات البريطانية والصهيونية.
وفي موازاة الشخصيات الوطنية التي طالبت بالاستقلال، ومالت للاستفادة من الغرب، ظهر حسن البنا الرافض لهذا التوجه، وأسس مع ستة من رفاقه عام 1928 تنظيم «الإخوان المسلمين»، وافتتح مدرسة وجامعاً في الإسماعيلية. ومن قرية إلى أخرى، انتقل الرجل، وزاد أتباعه بسرعة. وهو التنظيم السياسي المصري الأول الذي لم ينبثق من البرجوازية، وإلى هذا يعزو الكاتب سبب نجاحه. رفض البنا بشدة علمنة المجتمع المصري، ورأى أن «كل قطعة أرض خفقت فوقها راية الإسلام هي بالنسبة إلى كل مسلم وطن يجب المحافظة عليه، وأن يعمل ويجاهد من أجله»، مطالباً بإعادة نظام الخلافة.
الحديث عن ظهور المتناقضات والتيارات يقتضي الكلام عن طه حسين الذي أبصر بعيني زوجته الفرنسية سوزان، وأقر التعليم المجاني، وأسس لفكر نقدي، وحثّ على رؤية البعد المتوسطي لمصر، فاستحق تكريماً من أندريه جيد وجان كوكتو. ثم نمر على حكم الملك فاروق الذي انتزع منه العرش عام 1952، لينتهي بذلك حكم سلالة محمد علي، ويبدأ عهد جديد مع جمال بعد الناصر.
صوت أم كلثوم لم يكن بعيداً عن السياسة، فهي «صوت كل العرب»، والمواكبة بأغنياتها لكل حدث. كانت فاتحة أغنياتها الوطنية حين توفي سعد زغلول، ورثته بأغنية مطلعها «إن يغب عن مصر سعد، ينضب الماء ويبقى بعده النبت الكريم». يومها، بكى الجمهور، ومزقت السيدة منديلها.
بالطبع، لا ينتهي الكتاب دون المرور بسنوات أنور السادات السابح عكس التيار مع معاهدة «كامب ديفيد»، المتجه صوب أميركا، الراغب في «محو كل آثار الناصرية»؛ إنه «الرجل الذي جمع المتناقضات. أراد أن يحكم باسم العلم والإيمان، بطل حرب وسلام، مسلم متشدد وداعية حداثة وتنور». بطبيعة الحال، عصر السادات يستدعي صفحات عن نجيب محفوظ الأديب الذي لم تخلُ مواقفه السياسية من إثارة للجدل.
الصفحات الأخيرة المخصصة لحسني مبارك والرئيس السيسي لا تحمل للمتابع الدهشة أو الجديد، فهي إعادة سرد لأحداث عايشها وعاصرها، لكن قراءة مائتي سنة من حياة مصر على طريقة سوليه تفتح الأعين بالتأكيد على رؤية جديدة لتاريخ المنطقة العربية بأكملها.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».