البازعي يترجم نصوصاً تأسيسية تغطي المشهد الحداثي

البازعي يترجم نصوصاً تأسيسية تغطي المشهد الحداثي
TT

البازعي يترجم نصوصاً تأسيسية تغطي المشهد الحداثي

البازعي يترجم نصوصاً تأسيسية تغطي المشهد الحداثي

أصبحت لفظة «حداثة» من الميوعة إلى حد يستعصي معه القبض على دلالتها، نظراً لغموضها في الأذهان، أو لغياب العناء الفكري اللازم لاستيعابها، أو لسوء نية مسبق ضدها، أو للشتات الحاصل في معانيها المتراكمة من قبل الاتجاهات والمدارس الفكرية المتباينة التي عالجتها خلال الأربعة أو الخمسة قرون المنصرمة المشكلة لعمر الزمن الحداثي. اللفظة إذاً لا يزال يحوط بها الغبش، خاصة في عالمنا العربي، الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من الجهد لتوضيحها وتقريبها. ومن ثم، حسن التعامل معها، قبولاً أو نقداً.
ولعل دليل هذه الحاجة نلمسه في كتاب مميز أصدره مؤخراً الدكتور سعد البازعي بعنوان كبير هو «معالم الحداثة»، وعنوان فرعي هو «الحداثة الغربية في 60 نصاً تأسيسياً» عن دار «روايات» في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، وهو مؤلف عبارة عن منتخبات من النصوص قام البازعي بانتقائها وترجمتها على أساس أنها عينة أولية معبرة عن الأفق الحداثي.
وبيَّن البازعي في مستهل كتابه أن اختياره للنصوص لم يكن حيثما اتفق، بل تم وفق معايير، أبرزها أهمية هذه النصوص وكتابها، وأيضاً تغطيتها مجالات متعددة، على اعتبار أن الحداثة، بصفتها منظومة ورؤية للعالم، ليست كما يعتقد كثيرون مرتبطة بالأدب فقط، بل مست جميع قطاعات الحياة، لهذا سنجد في هذا الكتاب نصوصاً تعبر مثلاً عن: الوجود، الوعي، اللاوعي، الدين، الطبيعة، الأسطورة، الأخلاق، الثقافة، السياسة، الاجتماع، الفن، الجمال، اللغة...
ويؤكد المترجم بوعي كبير أن هذه النصوص المقدمة لا تغطي كل المجالات، فهي لم تصب مثلاً القانون والأنثروبولوجيا والفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات... لذلك فهو يرى أن عمله مجرد جزء صغير ربما يحتاج إلى أجزاء أخرى تشكل في مجموعها موسوعة.
أما عن أهمية هذا العمل فتكمن في تزويد القارئ العربي بمادة متنوعة تغطي المشهد الحداثي من جهات متعددة، إضافة إلى إرادة الكاتب أن يقدم ترجمة لهذه النصوص تعبر عن تأويله الخاص الذي سيضاف لبقية التأويلات المتداولة، خاصة أن بعض هذه النصوص قد نجد لها ترجمات سابقة. وهنا، نشير إلى أن نقل نصوص الكتاب إلى العربية قد تم من الإنجليزية فقط، وقد يعد بعضهم أنه كان الأجدى العودة إلى الأصول الأخرى (فرنسية، ألمانية، لاتينية، روسية)، وهو رأي له وجاهته، غير أنه في الحقيقة يحتاج فريق عمل كامل. لكن يبقى النقل من طرف مترجم بعينه وعن لغة واحدة لا يخلو بدوره من حسنات، إذ إنه سيحقق وحدة الرؤية، بالإضافة إلى منحه النصوص المتداولة تأويلاً جديداً.
وترجمة البازعي لهذه النصوص هي بمثابة تحريك لها، ونفخ جديد للحياة فيها. وكم لنا من شواهد عدة في تاريخ الفكر الإنساني تدل على ذلك، إذ يكفي أن نتذكر فلسفة أرسطو التي تحييها الترجمة كل مرة، وبتأويلات جديدة، سواء عبر السريانية أو العربية أو اللاتينية، فالنصوص تجد لها نفساً جديداً حينما تهاجر وتعتنق لغة أخرى.
ولا يكتفي البازعي في هذا الكتاب بذكر الدواعي التي حركته لإنجازه، ولا الفوائد التي سيجنيها القارئ منه، ولا الحديث عن معايير انتقاء النصوص التي ترجمها، ولا تبرير الترجمة بالمفرد، دون اعتماد فريق عمل، بل سيقف أيضاً في مقدمة كتابه عند مفهوم الحداثة نفسه، محاولاً القبض على الحد الأدنى من دلالته التي يشترك ويتفق عليها معظم الباحثين. وهو يرى أن هناك خطوطاً عامة قد لا تكون موطن خلاف بين المهتمين بموضوع الحداثة، فعلى الأقل نحن نعرف أنها تمت في الرقعة الجغرافية الأوروبية، وكانت انطلاقتها الرسمية والجلية في القرن السابع عشر، كما أنها تعبر عن منعطف قلب نمطية التفكير الإنساني، وبدل له رؤيته للعالم، حيث أصبحت تتسم بالعقلانية والعلمانية. فالحداثة تعطي السلطة في إصدار الأحكام للعقل الذي هو «أعدل قسمة بين الناس»، كما عبر عن ذلك الفيلسوف ديكارت في مستهل كتابه «المقال في المنهج». هذه العقلانية ستصل ذروتها في عصر الأنوار، ويكفي التذكير بالفيلسوف كانط الذي حث الناس على الجرأة في التفكير.
ولا يهمل البازعي التنبيه إلى المآزق والأوجاع (الحروب، الاستعمار، غياب المعنى...) التي أوقعتنا فيها الحداثة، فالعقلنة المفرطة أفرزت موجة نقدية معاكسة، تجلت مثلاً في ظهور تيارات تعيد الاعتبار لما وضع في خانة «اللاعقل»، كالحركة الرومانسية والسوريالية وحدسية برغسون وغيرها، وهي كلها أفادت الحداثة، وجعلتها تتحرك في مسار تصحيحي.
وتبقى الإشارة إلى ملاحظة مهمة يقف عندها البازعي، وهو المهتم بالمكون اليهودي في الحضارة الغربية، تتمثل في الحضور القوي البارز لنصوص اليهود ضمن لائحة معالم الحداثة ورموزها، أمثال: سبينوزا، ماركس، فرويد، كاسيرر، بارث، هوسرل، فتغنشتاين، بنيامين، بوبر، أدورنو، هوركهايمر... وهو الأمر الذي يفتح أكثر من علامة استفهام، ويثير قضية الأقليات ودورها.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.