تانيا صالح تحذّر الشباب اللبناني: أي شيء معقول يصير

فيلم بمناسبة مرور سنتين على {انتفاضة 17 أكتوبر}

تانيا صالح
تانيا صالح
TT

تانيا صالح تحذّر الشباب اللبناني: أي شيء معقول يصير

تانيا صالح
تانيا صالح

كلٌ استذكر على طريقته، مرور سنتين على اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول). وارتأت تانيا صالح، المغنية وكاتبة الأغنيات والموسيقية اللبنانية، التي حجزت لنفسها مكاناً متقدماً في عالم الأغنية البديلة أن تقدم فيلماً قصيراً تقول فيه، في 16 دقيقة، رأي جيل بأكمله، اتهم خلال الثورة بأنه لم يفعل شيئاً، وسلّم الجيل الجديد بلداً مهترئاً، لا يصلح للحياة.
نشرت تانيا صالح الفيلم على قناتها على «يوتيوب»، لتكون رسالتها في متناول الجميع. وهو من إخراج تيمور بولس، وفي جوهره يتضمن حواراً مؤثراً بينها وبين ابنها طارق طعمة، سجّل أواخر عام 2019. أي مع الشهور الأولى من بدء التحركات الاحتجاجية. نرى في الفيلم طارق يستعد لمغادرة البلاد بتشجيع من والدته في عزّ الانتفاضة، بينما تنخرط هي في الشارع مع الشبّان، دون أن تشعر بيقين من جدوى ما تفعل، لأسباب تشرحها خلال الفيلم ببساطتها وعمقها المعهودين.
يبدأ الفيلم على صوت مذيعين اثنين، يستهلان نشرة الأخبار، بمقدمة سوداوية، أصبحت من تقليديات النشرات اللبنانية. كلام عن أزمة المحروقات، والحكومة التي تصرّف، ولا تصرّف الأعمال، والحكومة الجديدة التي لا تأتي، وتبقى «بمثابة لغز معقد»، وارتفاع سعر الدولار، وكل المواضيع التي تتكرر حتى أنك من الصعب أن تحدد زمانها. ثم نرى تانيا صالح على مكتبها ثم على شرفتها، تخطط عبارة «أحلم بك لبنان، كأنك هدية تحت شجرة عيد الميلاد». في هذا الوقت تتلقى اتصالاً من صديقه، تحثها على الاستعجال في عمل فني، وهي تجيب من ناحيتها، طالبة التمهل قليلاً، لأن الموسيقيين الذين تبحث عنهم، لعلهم غادروا.
مشاهد ليليلة غاضبة لمظاهرات في وسط بيروت، وهتافات: «لو خطفونا من الشوارع، صوت الثورة طالع طالع وسيارة إسعاف تنتظر نقل مصابين محتملين».
تنتقل الكاميرا بين منزل تانيا صالح التي تجلس وتتحاور مع ابنها طارق، والشارع حيث شغب، وكتابة على الجدران بالغرافيتي، ورسوم ملأت المباني القديمة.
يستفسر طارق من والدته عن سبب انخراطها الكبير في الانتفاضة، وإحجامها عن المشاركة في حفل رأس السنة، الذي أقيم في وسط بيروت من قبل المنتفضين. يريد أن يعرف لماذا وصفت الثائرين الغاضبين في البدء بالمجانين، وتمنت عليه ألا يلتحق بهم، ثم في وقت لاحق، صمتت، وتركت له أن يقرر ما يود أن يفعله، دون تدّخل منها.
يطرح الابن أسئلته هذه بلسان كثيرين من جيله، ممن تقدموا الصفوف ورفعوا الهتافات من اليوم الأول. وتجيب تانيا، وكأنها تختصر ما كان يدور في خلد كل الأمهات وربما الآباء من جيلها، وما كان يعتريهم من أحاسيس متناقضة حيال ما يدور في الشوارع من غضب وفرح، وهم يرون الشباب يطلبون تغييراً جذرياً. هي من جيل الحرب الذي اتهم بالتقصير والتقاعس والسكوت على الطائفية، إن لم يكن تشجيعها. من جيل أصابه القلق والتردد عند بدء الانتفاضة خوفاً على أولاده من أن يصابوا بالإحباط الذي عاشه قبلهم، ثم نزل تحت وطأة حماستهم إلى الساحات، مسانداً إياهم شاداً عزائمهم.
تستسلم تانيا صالح للكلام، أمام طارق، وكأنها تسترجع شريط حياتها: «عندما اندلعت الحرب كنت صغيرة. رأيت الجيران الذين كنت أحبهم والأصدقاء يختفون واحدهم تلو الآخر. حين سألت، عرفت أن هذا يحدث لأنهم مسيحيون ونحن مسلمون. ولكن ما علاقتي أنا بكل هذا؟» كلما كانت تانيا تسافر مع أهلها وتبتعد تشعر بتعلق أكبر بلبنان. تصف هذا التعلق الشديد بأنه «أصبح مرضياً». صارت تحلم بأن تنتهي الحرب، أن يعود الذين هاجروا، أن ترجع الكهرباء، أن يجتمع الأصدقاء في عيد ميلاد. حين انتهت الحرب، كانت في العشرينات، لم يصدق أحد أن هذا حدث فعلاً. «كنا ننتظر كل يوم أن نسمع صوت الضرب من جديد، لكننا لا نسمعه. كان علينا أن ننتظر أياماً وأياماً لنصدق، أن الأمر انتهى فعلاً. صار من قادوا الحرب هم أنفسهم يتحدثون عن الإعمار، وعن التغيير، وبعد سنة أو سنتين عرفنا، انو ما في شي اسمه بلد، والخبرية تكرر نفسها».
تخبر تانيا ابنها طارق أنها مع اندلاع الانتفاضة «بدأت أعيش حالة فصام. لدي شعوران متناقضان، أحدهما هو الإحساس أن ما حدث سابقاً يتكرر، ولا أريد أن أعيشه مرة أخرى.
وإحساس آخر، هو أن الأمر يبدو مختلفاً هذه المرة. وما نراه لم نعش شبيهاً له من قبل». وتكمل شارحة حالها: «أنا أستفيد من الأجواء الجميلة، لكني لا أريد أن أسمح لنفسي بأن أطير. أريد أن أبقى على الأرض. هذه المرة، عندي أولاد، ولا يحق لي أن أتركهم يرتطمون بالجدار».
الصورة خافتة الضوء دائماً في المشاهد، أقرب إلى العتمة التي تلف البلاد. وتانيا تكرر أكثر من مرة أنها صارت بعمر الحادية والخمسين، ولم يتبق لها الكثير، ولا تملك ترف انتظار ما سيأتي. غاية ما تستطيعه أن تعيش يوماً بيوم، وترى أن الحل بعيد، وربما لن تراه، لأنه سيستغرق وقتاً، لن يمهلها.
تقول لطارق: «زعلت لما البنت الصغيرة قالت لي: أنتم ماذا فعلتم!؟ لا، أنا ضميري لا يعذبني. تحدثت عن كل شيء (تقصد في أغنياتها). حكيت عن الطائفية، عن الوحدة الوطنية، عن الفساد، عن عمر وعلي. ماذا أقول بعد. هل أعيد وأكرر ما قلته سابقاً؟ أنا بدي عيش هالكم يوم الباقيين».
تانيا تشجع الشباب تساندهم، لكن القلب ليس مطمئناً، والبال مشغول ولا يأمن الآتي.
بعد انتهاء الحوار القصير، والذي يختزل حكاية جيلين متألمين تائهين، بحثاً عن خلاص، يعزف طارق على البيانو، وتقف تانيا إلى جانبه تغني أغنية معروفة لها، بصوت حنون ومؤثر: «أي شي معقول يصير. خليك فايق، خليك واعي. الحالة وسخة، الحالة وسخة كثير. خليك متوقع ضربة، يا من شمالك، يا من جنوبك، وخبي راسك أو بيطير. أي شي معقول يصير، أي شي معقول يصير».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».