2320 غارة جوية للتحالف ضد «داعش» تضعف التنظيم في العراق.. بانتظار حل سياسي

برلماني من إقليم كردستان: الحرب ستكون طويلة على الرغم من تراجع قوته

2320 غارة جوية للتحالف ضد «داعش» تضعف التنظيم في العراق.. بانتظار حل سياسي
TT

2320 غارة جوية للتحالف ضد «داعش» تضعف التنظيم في العراق.. بانتظار حل سياسي

2320 غارة جوية للتحالف ضد «داعش» تضعف التنظيم في العراق.. بانتظار حل سياسي

يشكل الأكراد واحدة من أكبر الأقليات المتعددة في العراق، ويعرف عنهم تمرسهم القتالي وخبرتهم الكبيرة في ساحات المعارك. أما قوات البيشمركة، فأسست في الأصل كقوة قبلية برئاسة الشيخ محمود بذنجي عام 1919 الذي كان يطمح إلى تأسيس مملكة كردستان بشمال العراق، غير أن بريطانيا التي كانت تسيطر حينذاك على العراق كقوة انتداب سرعان ما تصدت لمحاولة التمرد الانفصالي الكردي.
واليوم، مع أن البيشمركة – التي يعني اسمها باللغة الكردية «أولئك الذين يواجهون الموت» – نجحت في الصمود طوال العقود الماضية، فإنها تبدو للبعض منقسمة بشكل كبير بين الحزبين السياسيين المحليين الكبيرين: الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، ولو أن الحزبين يدينان بالولاء لحكومة إقليم كردستان - العراق. ولكن، في الفترة الأخيرة، مع ظهور خطر «داعش» وبالذات بعد احتلاله مدينة الموصل واجتياحه مناطق واسعة في شمال العراق وغربه، فرضت قوات البيشمركة نفسها سدا حصينا وقف في وجه زحف هذا التنظيم الإرهابي المتطرف.
ويذكر أنه منذ ظهور تنظيم داعش، في شهر يونيو (حزيران) الماضي، لقي آلاف من عناصر البيشمركة حتفهم، إذ أوردت وكالة الأنباء «روداو» الكردية، أن نحو ألف عنصر قتلوا في الحرب ضد «داعش»، في حين أصيب نحو 4.596 آخرين وهم يتلقون العلاج داخل البلاد أو خارجها.
آري هرسين، النائب الكردي الذي عاش في هولندا ودرس الفلسفة، والذي يرأس الآن لجنة الدفاع في برلمان كردستان - العراق، مثله مثل كثيرين من الساسة في الإقليم، غالبا ما يُشاهد في جبهة القتال. وهو في هذا السياق يحرص على القول: «إن القوة العسكرية الكردية لا تقتصر على قوات البيشمركة فحسب، بل تمتد أيضا لتشمل ثقافة الحرب المتأصلة حتى في الطبقة السياسية بحيث يشارك رجال السياسة الأكراد أنفسهم في المعارك الدائرة على الجبهات».
وفق كلام هرسين، فإن مقاتلي «داعش» كانوا «في الأساس من العراقيين المسلمين السنة الذين يشكلون في الغالب امتدادا لتنظيم القاعدة في العراق الذي كان يقوده سابقا أبو مصعب الزرقاوي. واليوم مع أن (داعش) مزيج من العراقيين ومن مواطنين من الدول العربية، وكذلك من مهاجرين غير عرب، ما زال العقل المدبر وراء هذه القوة، يتألف أساسا من قياديين سابقين من القاعدة بجانب ضباط مهمين من أعضاء سابقين في حزب البعث العراقي».
ويضيف النائب الكردي أنه «في هذه البلاد التي تفككت أوصالها نتيجة احتدام المشاعر الطائفية، من غير المستغرب على الإطلاق أن يشعر السنة في البلاد أنهم مستبعدون عن الساحة السياسية»، ويتابع: «إن القبائل والعشائر السنية في الموصل والأنبار التي تتعاطف مع (داعش)، لا تفعل ذلك بسبب حبها بالضرورة للمنظمة بل بدافع الانتقام» من التهميش والظلم.
مع هذا، منذ بدء الضربات الجوية لقوات التحالف ضد «داعش»، ضعفت قوة التنظيم الإرهابي وانحسرت رقعة سيطرته في الأراضي العراقية بصورة ملحوظة. وخلال «منتدى السليمانية» الذي نظمته الجامعة الأميركية في العراق، خلال الشهر، أعلن نائب المبعوث الرئاسي للولايات المتحدة بريت ماكغورك أن «داعش» فقد نحو 25 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق.
ونقلا عن وزارة الدفاع الأميركية، أن قوات سلاح الجو الأميركي نفذت 2320 غارة جوية ضد مواقع «داعش» منذ 8 أغسطس (آب) الماضي، قدرت كلفتها بنحو 1.83 مليار دولار أميركي، وجرى خلال الغارات ضرب آلاف الأهداف بما في ذلك الدبابات والبنى التحتية للنفط ومواقع القتال.
ومن جهة ثانية، شهد هذا الأسبوع تطورا مهما آخر، إذ توسعت رقعة الغارات الأميركية لتصل إلى مدينة تكريت، عاصمة محافظة صلاح الدين، حيث استؤنفت المعارك بعد توقف لنحو أسبوعين من أجل استعادة المدينة السنية من قبضة تنظيم «داعش». فلقد وافق الرئيس الأميركي باراك أوباما على المساندة الجوية في محيط تكريت، شرط أن تنسحب من المعارك الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران بقيادة الحرس الثوري الإيراني»، وأن تشرف حكومة العراق على كل القوات المشاركة في الهجوم. وحول هذا الموضوع يرى النائب هرسين أنه لن يكون من السهل السيطرة على تكريت، بسبب أسلوب «حرب العصابات» القتالي الذي يعتمده عناصر «داعش» ضد القوات العراقية المشتركة التي كانت تتألف بغالبيتها من قوات «الحشد الشعبي» العراقية – ذات الغالبية الشيعية – التي يفترض أنها سحبت من المعركة. مع ذلك، يقول هرسين: «من الممكن أن تنتهي معركة تكريت بشكل أسرع إذا ما شاركت الولايات المتحدة بطريقة فعالة من خلال لجوئها ليس فقط إلى طائرات (إف 16) و(إف 15)، بل استخدام هليكوبترات الآباتشي الحربية التي تعد أكثر فعالية في هذا النوع من القتال».
أضف إلى أن الأوضاع في تكريت، مسقط رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين، تعتمد أيضا على قدرة حكومة حيدر العبادي على إقناع «الحرس الثوري الإيراني» بمغادرة أرض المعركة، إذ أبلغت مصادر عليمة «الشرق الأوسط»، أنه حتى يوم الخميس الماضي كان قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس»، موجودا في منطقة تكريت، في حين أوردت مصادر صحافية أخرى أنه أخلى المدينة.
وبعد تكريت يتوقع أن يشهد العراق معركة طاحنة أخرى في الموصل لرفع سيطرة تنظيم «داعش» عن ثاني كبرى مدن العراق. وحول هذه المعركة يتوقع هرسين أن «تكون الجحيم بحد ذاته، بما أن جزءا كبيرا من السكان يؤيدون «داعش»، حسب ادعائه. وهو يرى أن دعم البيشمركة للقوات الحكومية العراقية في الموصل، سيفرض إعادة النظر في السياسات القائمة وتخصيص ميزانية جديدة لإقليم كردستان – العراق من قبل حكومة بغداد، تشمل الإنفاق على عمليات الدفاع الحالية.
ولكن، وبغض النظر عن مدى انخراط الأكراد في المعارك، يبدو أن وضع «داعش» الميداني بدأ يتراجع بشكل مهم في العراق. وحسب شرح هرسين، الذي شارك في المعارك الأولى ضد التنظيم المتطرف في منطقة سد الموصل خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن قدرات «داعش» العسكرية قد تضاءلت منذ ذلك الحين، «ولقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أن الذخيرة لديهم باتت أقل، وأن خططهم الهجومية أصبحت أضعف، واستعمالهم للهواوين أقل دقة. وهذا ما يجعلنا نتساءل حول ما إذا كان الخبراء العسكريون في التنظيم قد فروا أم قتلوا».
ويعتقد النائب الكردي، ويشاطره الرأي مراقبون عراقيون آخرون، أن قوة التنظيم الفعلية أضعف بكثير مما تحاول إظهاره، على الرغم من رسائل التحدي التي يحاول التنظيم ترويجها عن نفسه، ومنها: مشاهد قطع الرؤوس، وصور مجموعات من مسلحيه وهي تجوب شوارع المدن التي تسيطر عليها مستعرضة الأسرى، وآخرهم 18 كرديا من قوات البيشمركة نفذ الإعدام بـ3 منهم.
ويضيف هرسين قائلا: «عندما شاركت في المعارك الأولية حول سد الموصل في شهر سبتمبر الماضي، ظننت أن (داعش) تنظيم ذكي جدا: وأنهم شديدو الحيلة في اعتماد أساليب قتال جديدة. ولكن، اليوم يبدو أنهم استنفدوا كل الحيل، ولم يعد بين أيدي التنظيم الإرهابي أي تعويذات سحرية. من المؤكد أن (داعش) كان حذقا للغاية في الطريقة التي سوق بها نفسه باستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية لبث الذعر عبر نشر أشرطة فيديو لعمليات الإعدام البشعة وقطع الرؤوس. إلا أنه من المؤكد أيضا أن التنظيم الإرهابي حاول إظهار أنه أقوى مما هو عليه فعليا».
مع كل ما سبق، وما يقال عن تراجع قوة «داعش» يوما بعد يوم، يستدرك النائب الكردي ليقول إن التنظيم قد يتمكن من البقاء على قيد الحياة وسط الفوضى العارمة في العراق، حيث تغيب الحكومة الموحدة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وحيث تطغى الانقسامات الدينية والعرقية العميقة بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد. ويوضح: «لا وجود اليوم لجيش عراقي تتجسد فيه ملامح (المؤسسة العسكرية الوطنية) على غرار الجيش الإسرائيلي أو الجيش الإيراني، لأن العراق ليس بلدا موحدا ولا الحكومة فيه موحدة، والسبب الأول هو المشكلة السياسية بين المكونات الوطنية الثلاثة؛ أي الشيعة، والسنة، والأكراد، وانعدام التنسيق بين هذه الفصائل، وبالتالي، فالمواطنون العراقيون لا يشعرون بالولاء للمؤسسة العسكرية». وأمام هذا الواقع المتداخل والمعقد بين موال ومعارض، يتوقع كثيرون أن يخوض الأكراد حربا طويلة ضد تنظيم داعش الذي، على الرغم من تدهور قوته تدريجيا، ما زال هناك من يتعاطف مع منطلقاته وشعاراته في بعض المناطق العراقية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.