غيلان الصفدي يعبر بريشته إلى «حياة الآخرين»

«مع كل هذا الخراب الذي أصابها، تبقى بيروت مدينة تحفّز الفنان على الإبداع». هكذا وصف الفنان التشكيلي السوري غيلان الصفدي العاصمة اللبنانية التي يستقر فيها منذ سنوات، ويعتبرها صاحبة الفضل الأكبر عليه كفنان. يقيم غيلان حالياً معرضه الثالث في العاصمة اللبنانية تحت عنوان «حياة الآخرين». وهو يهديه إلى بيروت التي سبق واستضافت اثنين من معارضه الخاصة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لا أحب أن أحكي عن بيروت إلا كما أتذكرها مدينة تنبض بالحياة وبمقاهي الحمراء والمسارح والموسيقى والجمال والحرية، التي نادراً ما نلاقيها في عالمنا العربي».
يتألف معرض «حياة الآخرين» في غاليري «أرت أون 56» من لوحات زيتية وأخرى أكواريل، وثالثة مرسومة بالحبر الصيني. كثافة الوجوه التي تتضمنها والموزعة كتجمعات في غالبية أعماله، تمدك بنبض الحياة الطبيعية الذي افتقدناه في زمن الجائحة. تتلمس الكمامة على وجهك لا شعورياً ما إن تدخل عتبة المعرض في شارع مار مخايل البيروتي. فزحمة الناس في لوحات غيلان تبدو لك حقيقية من بعيد، لا ينقصها سوى أن تلقي عليك التحية. لوحات ذات أحجام صغيرة وأخرى متوسطة وعمل زيتي رئيسي يتألف من ألف وجه ووجه، تروي للزائر حكايات وتفاصيل حياة تشبه إلى حد كبير رواية «ألف ليلة وليلة». لم يبخل غيلان الصفدي بالتفاصيل الصغيرة، كي يغني أعماله الزاهية بألوان فرحة يستخدمها بشكل مغاير عن أعماله السابقة.
«كنت بحاجة إلى كل هذه الألوان كي أعبر عما يخالجني من مشاعر مختلطة اجتاحتني خلال عزلتي أثناء الجائحة. انظري هنا، فهذه اللوحة رسمتها قبل انفجار بيروت بأيام قليلة، لزمني بعدها ثلاثة أشهر كي أعود إلى ريشتي وأحملها بين أناملي من جديد. تلاحظين أنني استخدمت ألوان الأبيض والأسود والرمادي والبيج. هذا الأخير الطاغي على اللوحة استنبطته من محيط عزلتي أثناء الجائحة في منطقة الدورة التي أعيش فيها».
الشخصيات التي تسكن لوحات الفنان السوري تشمل كل أنواع الناس، الشرير والملاك والأمير والفلاح البسيط وغيرهم. تضج ريشته بالفنون من موسيقى ونحت وفن الخطابة وتصميم الأزياء وغيرها. فيلم طويل تتابعه من دون ملل ضمن تفاصيل صغيرة ينثرها غيلان الصفدي هنا وهناك، كأنه يدون معها مذكراته منذ الصغر، متأثراً بكوميديا دانتي الإلهية كما يقول. فبإمكان المتفرج أن يجلس ساعات وساعات يتفرس وجوه وملامح شخصياته من مهرج وفنان وحاكم وعروس ويتفرج على تعابيرها الحزينة حيناً والمستسلمة حيناً آخر. وحدها الابتسامة لا تظهر على وجوه أبطال لوحاته. «إنه واقعنا اليوم الحزين والمثقل بالهموم فمن أين ستأتي الابتسامة؟». وبين فقاقيع هواء تسبح في فضاء أسود للوحة تجمع الدمى والمرأة الجسد والطيور واليعسوب والبزاق، تلفتك شخصية محاطة بهالة مضيئة. من هي هذه الشخصية التي ترسمها وتظهر في لوحاتك بملامح مختلفة؟ «هذا أنا» يرد في سياق حديثه. «فأنا أيضاً أنتمي إلى هذا العالم وأشكل بطل قصة ما. وحياة الآخرين هي جزء لا يتجزأ من حياتي وعلاقاتي. أشعر وكأني دونت مذكراتي في هذه اللوحات ولا سيما مشواري الطفولي».
في إحدى لوحاته المرسومة بالحبر الصيني ينقلنا الفنان السوري إلى عالم مختلف تماماً عن الذي تناوله في لوحاته الأخرى. فيأخذنا إلى مشهدية مشبعة بالحزن والخجل والعض على الجرح والكآبة. «مع الحبر الصيني الذي يترك انطباعاً من النوستالجيا، ركّبت شخصيات ورموزاً من حياتنا. إنها تجمع مهارات ومهناً مع الطبيعة والحيوانات وعازفة البوق والرجل الطائر والوردة الذابلة على شفاه امرأة حزينة والعسكري وبائعة الزهور وغيرهم». وماذا عن تصاميم أزياء النساء في لوحتك الصينية؟ من أين استوحيتها؟ «من حياكات جدتي التي كانت تخيطها وأنا أتأملها، فرغبت بتوجيه تحية لها على طريقتي».
كل هذه «العجقة» (الزحام) التي يصورها غيلان الصفدي في لوحاته تبرز بشكل وبآخر العزلة التي يعيشها إنسان اليوم. «لقد ترجمت هذه المسافات التي تفصلنا عن بعضنا اليوم حتى لو كنا في مكان واحد. فوسائل التواصل أسهمت في تثبيت وحدتنا، وهو أمر نلاحظه في أي لقاء مع الآخرين. الجميع يوجد في نفس المكان، ولكن كل منهم منهمك في ملاحقة الـ(إنستغرام) و(فيسبوك) و(تويتر). هذه هي طبيعة مجتمعنا الحديث مع الأسف وهو ما حاولت إيصاله للناظر إلى لوحاتي».
يعطي غيلان الصفدي المساحة الأكبر في لوحاته للوجه والرأس كعنصرين أساسيين حيث تبرز عيون شاردة مرات، وعيون باحثة عن الأمان مرات أخرى. ويعلق: «الرأس هو الكلمة والفن والعقل المدبر. استخدمت الجسد مرات في عدد لوحات أقل، لأن الإنسان يمكن أن ينسى شكل جسد معين لأنه يتأثر أكثر بفكر من يقابله».
الكرنفال بكل ما للكلمة من معنى تمثله لوحات الصفدي. فتلفح مشاهدها بنفحة شعرية تارة وأخرى مسرحية يطبعها أسلوب شكسبير الأدبي. فهو يهوى هذه الفنون كما تأثر بسخرية الشاعر الفرنسي جاك بريفير، فطعّم موضوعات لوحاته بالكوميديا السوداء. تألق بأسلوبه السوريالي كاسراً أنماط المشهدية العادية، وفاتحاً الأبواب أما المتلقي كي يتلقف اللوحة كما يشاء.
ومن مارك شاغال الفنان الروسي الفرنسي الأصل يستعير الصفدي وجه إحدى بطلاته، ويطل على موناليزا لليورناردو دا فنشي. صور متراكمة تسجلها لوحاته في مشهدية تجمع الزهور والفواكه والفارس المتقاعد ونور ساطع وغيمة شتاء، إضافة إلى لعبة الـ«يويو» الطفولية وعدسة المجهر وكرة البلور لكشف القدر. «هناك علاقة تنشأ بين الرسام ولوحاته، وأنا شخصياً أفتتحها دائماً ببطل أو أكثر. ومنهم تنبثق القصص والحكايات وهذه التفاصيل الصغيرة التي لفتتك. أحياناً أستخدم الخلفية السوداء لأننا بحاجة أن نقفز بالزمن ونهرب إلى مكان خاص بنا. هي لوحات تشبه مسرحيات تعطي المتلقي حرية التفكير والاستيعاب».
حتى فن النحت يستخدمه في رسوماته بحيث نلاحظ وجود تمثال ما في إحدى زواياها. «إنني أعبر من خلالها عن الجمود الذي أصابنا بسبب الجائحة، كما تحمل رمزية لفن ازدهر في حقبات متتالية من التاريخ والعصور».
تخرج من معرض «حياة الآخرين» لغيلان الصفدي ورأسك يزدحم بصور ملونة لتجمعات من الناس. فتشعر وكأنك حضرت للتو «بال ماسكيه» (حفل الأقنعة) المشهور عبر التاريخ في مدينة البندقية. تخلع عنك أزياء الحفل وتسقط القناع عن وجهك. وتعود أدراجك إلى عالمك الواقعي، حاملاً ملامح ذابلة، تماماً كشخصيات لوحاته المستوحدة.