الانسحاب الأميركي من أفغانستان: القيادة الدولية والمرجعية الأخلاقية

الانعكاسات على المنطقة العربية وقضاياها

عناصر من المارينز الأميركيين عند مدخل مطار كابل لتنظيم خروج الأفغان (إ.ب.أ)
عناصر من المارينز الأميركيين عند مدخل مطار كابل لتنظيم خروج الأفغان (إ.ب.أ)
TT

الانسحاب الأميركي من أفغانستان: القيادة الدولية والمرجعية الأخلاقية

عناصر من المارينز الأميركيين عند مدخل مطار كابل لتنظيم خروج الأفغان (إ.ب.أ)
عناصر من المارينز الأميركيين عند مدخل مطار كابل لتنظيم خروج الأفغان (إ.ب.أ)

1- في هذه الآونة الأخيرة، ورغم شواغلي الكثيرة والملحة بالشأن اللبناني، بذلتُ المستطاع لمتابعة الحدث الأفغاني، وقائع وتعليقات وقراءات. ولا أكتم القارئ أني في متابعتي كنتُ مهتماً على نحو خاص بالجانب الأخلاقي من الحدث، ومن المنظور الكلي في السياسة الدولية، وبطبيعة الحال لناحية انعكاس ذلك على منطقتنا العربية وقضاياها.
2- وفي صدد الحديث عن المسؤولية الأخلاقية المترتبة على قيادة العالم، أكانت هذه القيادة متمثلة بالدولة الأعظم (الولايات المتحدة بواقع الأمر) أو بهيئة عليا سامية وجامعة (الأمم المتحدة ومجلس الأمن مبدئياً)، وفي مناسبة الانسحاب الأميركي من أفغانستان «على نحو ما حصل»، أتى على خاطري ما أعتبره أصلَ الحكاية في تلك «العَظَمة»: المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأميركي ويلسون عام 1918 (في الكونغرس أولاً) ثم عام 1919 في مؤتمر الصلح بباريس مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تلك النهاية التي شقت الطريق أمام الزعامة الأميركية الأحادية، وإنِ اتجهت إلى ثنائية مع نشوء المعسكرين الآيديولوجيين، لتعود إلى أحاديتها مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين عام 1989، ثم لتعود من جديد إلى الأقطاب المتعددة مع تغير بعض اللاعبين.
أعدتُ قراءة تلك المبادئ، فوجدتُ أن الخمسة الأولى والأساسية والكُلية منها «مبادئ أخلاقية بامتياز» على الصعيد العالمي؛ وهي كما يلي:
أ‌ - اتباع الدبلوماسية العلنية، بعقد معاهدات علنية.
ب‌ - احترام حرية البحار في السلم والحرب.
ج‌ - إزالة الحواجز الاقتصادية بين الشعوب بقدر الإمكان.
د‌ - خفض التسلح إلى القدر الكافي للمحافظة على الأمن الداخلي.
ه‌ - تسوية المنافسات الاستعمارية، مع مراعاة رغبات السكان ومصالحهم.
تلك المبادئ الخمسة طرحها الرئيس الأميركي بوصفها قواعد للسلام بعد الحرب العالمية الأولى، وأساساً لمجتمعٍ دولي جديد يقوم على حق تقرير المصير، بما يعني «تصفية الاستعمار القديم». وعليه فقد كان لتلك المبادئ، ببنودها وغاياتها (أو فلسفتها) أثرٌ بالغ في العالم كله، وأثارت آمالاً كباراً في كل مكان. فهل بهذه المبادئ يُخامرنا شكٌ في أن تلك المبادرة كانت أخلاقية إنسانية في جوهرها، وأنها كانت صوتَ الإنصاف والعقل وسط ضجيج القوة الظافرة وزَهْوِ الانتصار؟
3- أمثولة ويلسون التأسيسية الإيجابية استحضرْتُها لدي - كما أشرت - في مقابل أمثولة الرئيس بايدن (الديمقراطي أيضاً) المعاكسة، لجهة قراره الانسحاب من أفغانستان بطريقة مخزية شكلاً وملابساتٍ ملتبسة، وليس بفكرة الانسحاب بحد ذاتها. فلقد أجمعت تعليقاتُ مسؤولين أميركيين كبار، سياسيين وعسكريين، وحتى من داخل البيئة السياسية الديمقراطية الأميركية، على أن هذا الانسحاب كان ينبغي أن يحصل قبل نحو عشر سنوات مع القضاء على بن لادن. وبعضُهم ذهبَ إلى أبعد من ذلك، ليرى وجوبَ حصوله مع انسحاب بن لادن من بيئته الحصينة في «تورا بورا».
لقد انسحبت الولايات المتحدة بعد أن فشلت في تحقيق أي من الأهداف المعلَنة لاحتلالها أفغانستان عام 2001؛ إذْ كان يُفترض أن تتركَ وراءَها - على الأقل - مشروعَ دولة تستطيع القيام بمهامها في رعاية مواطنيها، وأن تترك ممارسة ديمقراطية ومبادرات تنموية أفضل، متلائمة مع طبيعة البلاد وأهلها وتقاليدها. وهو ما لم يحصل! كذلك انسحبت دونَ التشاور والتنسيق مع حلفائها وشركائها الاستراتيجيين (كما تقول وتكرر دائماً)، باستثناء عدوها المُعلن (طالبان)! وهذا ما يذكرنا بنقيضه الذي أعلنه الرئيس ويلسون في البند الأول (أ) من مبادئه الشهيرة (الشفافية في مسألة العلاقات الدولية). وهو ما يطعن أيضاً في التزام الإدارة الأميركية الحالية مسؤولياتها الأخلاقية والاستراتيجية الدولية والإنسانية.
تتماثل هذه التصرفات للإدارة الأميركية، بما قامت به في المنطقة العربية - في العراق وفي سوريا واليمن، وكذلك في فلسطين - وهو ما يعبر عن عدم استقرار في سياساتها، وبما يؤشر ليس فقط إلى فشلها في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها بأنها نصيرة للديمقراطية، وحريصة على احترام حقوق الإنسان، وأنها المرجعية باحترام المعايير الأخلاقية، بل وبما يعبر عن قلة دراية وعدم تبصر من قبلها، وكذلك بارتكابها أخطاء تاريخية بسبب ترددها وتقاعسها عن إيجاد الحلول الحقيقية للمشكلات وللأزمات التي أسهمت في تعقيدها في تلك البلدان، وبحيث كانت حصيلة تدخلاتها عليها التسبب بالتدمير لا بالتفجير، وأنها تتركها بحال أسوأ مما كانت عليه، كما أنها أدت إلى أن أصبح العراق فريسة الهيمنة الإيرانية التي امتدت لتسيطر ولو نسبياً على كل من سوريا ولبنان واليمن، وذلك نتيجة عدم التبصر الذي مارسته الإدارة الأميركية في تدخلها أو في سياساتها في هذه البلدان.
4- لقد فوجئ العالم من أقصاه إلى أقصاه كيف تكرر الولايات المتحدة أخطاءَها، دون أن تتعظ من الدروس المستفادة في أكثر من مكانٍ أرسلت إليه قواتها المسلحة تحت ذرائع وأهداف مختلفة.
يُروى عن رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل أنه كان يقول: «تهتدي الولايات المتحدة دائماً إلى الخيار الصحيح، ولكنْ بعد أن تجرب كل الخيارات الأخرى الخاطئة. لماذا؟ لأن لديها التَرَف والإمكانية لاعتماد مختلف الخيارات المتاحة، إلى أن تهتدي إلى الخيار الصحيح!». والحال أن ما فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان، دخولاً وخروجاً، أنها تصرفتْ مثل «فيل» يدخل محلاً لبيع الأواني الزجاجية: فهو عندما يدخل يكسر كل ما يقف في طريقه، وعندما يحاول الخروج يكسر كل ما بقي في ذلك المحل غيرَ مكسور!! وهو ما أصبح عليه الحال في تلك البلدان من تكسير وتخريب لنسيجه الوطني.
5- في ضوء ما تقدم، فإن السؤال الكبير: ماذا فعلت الولايات المتحدة في حربها المعلَنة على الإرهاب والتطرف؟ باختصار لم تحقق الهدف المنشود! على العكس من ذلك فإن أقوى الاحتمالات - على ما بدا لكثيرٍ من المراقبين - هو أنْ تعود أفغانستان مجدداً مكاناً جاذباً للمجاميع الإرهابية على اختلاف أجنداتها والارتباطات، وأن تكون في الوقت ذاته مكاناً لتزاحمٍ إقليمي ودولي شرس، يحاكي ما آل إليه الوضع في سوريا! تُرى، هل هي عودة «ديمقراطية» إلى شعار «الجمهوريين» الذي أطلقته كوندوليزا رايس على عهد الرئيس بوش الابن (الفوضى الخلاقة)، أم هي متابعة لجوهر السياسة الترمبية - إذا كان لهذه السياسة من جوهرٍ عقلاني ومفكرٍ فيه - القائمة على شعار ضمني هو «دَع الآخرين، كل الآخرين، يدفعون الأثمان، وكُنْ أنت (أميركا) الرابح الأكبر!». والحقيقة أن الرئيس ترمب - وبسبب مزاجيته وارتجاليته - لم يكن يملك الفطنة الكافية للتوْرية على هذا الهدف؛ إذْ إنه كانَ أوْضَحَ المجاهرين بالقول: «لسنا مستعدين لأن ندفع ثمن الوفاء بالتزاماتنا حيال الأصدقاء والحلفاء والقانون الدولي. فلْيدفعوا هم هذا الثمن، وبالعملة الصعبة!». ذلك إلى «مآثره» في تجاوز، بل تحطيم، قرارات ومبادئ وبُنَى الأمم المتحدة!
6- ومما يقوي الاحتمالين المشار إليهما أعلاه (الفوضى الإرهابية والتزاحم الشرس على أرض أفغانستان) معطيان أساسيان:
الأول، أن الولايات المتحدة لم تترك وراءَها مشروعَ دولة وطنية في أفغانستان، قادرة على النهوض بمسؤولياتها حيال مجتمعها، عدالة وإنصافاً ورعاية ورؤيوية. هذا فضلاً عن أنها خلفت بِنْية اقتصادية لا توفر الحد الأدنى من مقومات الاستقرار على طريق التنمية، ناهيك عن البِنْية القبلية التي ازدادت مع الاحتلال الأميركي استغرافاً في قَبَليتها، أي ابتعاداً عن التمدن، لدرجة أن خطوة متواضعة على طريق تعليم المرأة ومشاركتها في إدارة الشأن العام عادت إلى الانتكاس!
هذا ما ينقلنا إلى المعطَى الثاني، متمثلاً بالصراع الإقليمي والدولي المحتملِ تفاقُمه حول أفغانستان وفيها. ذلك أن العالم بدأ يشهد تحفزاً قوياً للعودة إلى حروبٍ باردة، ليس بين قطبين فقط كما في الماضي، وإنما بين قُطبيات كبرى ومتوسطة وصغرى، بما فيها مشاريعُ قائمة على محاولة استرجاع ماضٍ إمبراطوري مضى وانقضى: روسيا، إيران وتركيا مثلاً. وبين هذا وذاك وذلك، تَحارُ بعضُ القوى الكبرى في أوروبا وآسيا (فرنسا، ألمانيا، واليابان مثلاً) كيف بإمكانها المحافظة على استمرار حضورها محترماً على رقعة الشطرنج هذه!
بموازاة ذلك أنفقت الولايات المتحدة على دوام احتلالها لأفغانستان مدة عشرين عاماً نحوَ ألف مليار دولار. يُضاف إلى ذلك، ما أنفقته الدول الأخرى المتحالفة مع الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان، وهي مبالغ ليست بالقليلة. المُذهل والمُحزن، ما تبينه الأرقام والجداول من أن أقل من اثنين في المائة من هذه المبالغ قد أُنفق على التنمية في هذا البلد. «فلا عجب، والحالة هذه، أنْ تستقر أفغانستان في قاعِ جداول المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. كذلك أمسى اليوم جلياً أنه يستحيل بناءُ دولة وطنية فعلية بأيدي دُخلاءَ أجانب، حتى مع السخاء في افتراض النيات الحسنة»، على ما كتب محمود محيي الدين في «صحيفة الشرق الأوسط» (25 أغسطس (آب) 2021).
وهنا يبرز السؤال: ألم يكن من الممكن والأفضل لو أن الإدارة الأميركية خصصت جزءاً أكبر من المبلغ الذي أنفقته على الحرب من أجل التنمية والتعليم، وبما يعود بفائدة أكبر على الأفغانيين، وبما يعود بمردود أخلاقي أكبر على الولايات المتحدة وبالحد الأدنى.
7 - ما استوقفني في هذه المتابعة أن المعلقين الغربيين، ولا سيما الأميركيين من بينهم، كانوا الأشد انتقاداً للتجربة الأميركية في أفغانستان، ومن ثم في العراق، من الناحية الأخلاقية الاستراتيجية. كانوا الأشد حتى بالمقارنة مع المعلقين الشرق أوسطيين، بمن فيهم العرب! ويأتي في طليعة هؤلاء «الأخلاقيين» - على ما قرأتُ أخيراً - الصحافي البريطاني ماكس هاستينغز، في مقال مطول نشرته «الشرق الأوسط» بتاريخ 20 سبتمبر (أيلول) 2021.
يبدأ المقال بالمشهدية الدراماتيكية التالية: «كان هناك الكثير من اللحظات المظلمة خلال العقدين الماضيين منذ أحداث الحادي عشر من أيلول، بعضُها في كابل الشهر الماضي. وما زالت لقطة من العراق عام 2007 تطاردني على نحو خاص: كانت المستشارة السياسية البريطانية (إيما سكاي) تستقل مروحية بلاك هوك مع القائد الأميركي الجنرال ريموند أوديرنو. في الأثناء، وعبر اتصال داخلي، ذكرت لرئيسها في بريطانيا أنها لمحت كتابة على جدار أحد المباني في بغداد تقول: «البطل الشهيد صدام حسين!». وإذْ سمع الجنرال الأميركي هذا الكلام، رد باقتضاب أن الديكتاتور المشنوق ارتكب جرائم قتل جماعي. ولكن سكاي، التي كانت تهوى العيش في قلب الخطر، قالت: «ما زلنا لا نعرف مَنْ قتل مزيداً من العراقيين، أنتَ أم صدام يا سيدي!». ساد صمتٌ قاتل في المروحية، وحتى رئيس سكاي البريطاني في الطرف الآخر تساءل عما إذا كانت المستشارة قد تمادت أم لا! بعد هذا صرخ الجنرال أوديرنو فجأة: «افتحوا الأبواب أيها الطيارون، وألقوا بهذه المرأة في الخارج!».
ويعلق هاستينغز على هذه الواقعة بقوله: «تستحق سكاي الاحترام، لأنها لم تُسمِع الجيش مطلقاً ما يريدُ سماعَه».
وإذْ أشار هاستينغز إشارات لاذعة إلى «عنجهية السلوك الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، وإلى الغطرسة التي يتقاسمها السياسيون والجنرالات، يذكر محادثة بينه وبين قائد الجيش البريطاني عام 2002 بعد عودته من اجتماعات في واشنطن للتخطيط لغزو العراق الذي شاركت فيه القوات البريطانية. في تلك المحادثة قال القائد البريطاني مايك جاكسون باقتضاب: «سيكون الوصول إلى بغداد أمراً سهلاً، لكنهم (يعني الأميركيين) ليست لديهم أدنى فكرة عما سيفعلونه بعد ذلك».
ويختم هاستينغز مقاله بالعِبرة التالية: «سألتُ ذات مرة أحد كبار الضباط في جيش حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي خدم جولات متكررة في أفغانستان، عن لائحة الدروس الشخصية التي يجب أن نأخذها من السنوات العشرين الماضية في مكافحة التطرف، فرد قائلاً: «لم نتطرق قط إلى أسباب التطرف، من نقص التعليم ونقص الفرص والشعور بالإقصاء وما إلى ذلك. لقد فقدنا المكانة الأخلاقية العالية بين المسلمين المعتدلين، من خلال سلوكنا في أماكن مثل أبو غريب وغوانتانامو!» - انتهى الاقتباس.
8- لا يحسبن أحدٌ أن «الحكمة» البريطانية البادية فيما بين تشرشل وهاستنغز تشير إلى أن هناك استعماراً خيراً من استعمار. فما حصل مع أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان، حصل مثله وأفظع مع بريطانيا في انسحابها من الهند عام 1947 بعد أن قسمتها، وفي فلسطين عام 1948 بعد أن سلبت أهلها حق تقرير المصير، وأتاحت للإسرائيليين الوقت الكافي للاستعداد والاستيلاء والابتلاع لفلسطين التاريخية.
9- قُصارى القول في مداخلتي هذه، وعطفاً على بدايتها وعلى كلام ونستون تشرتشل، أن الذي جرى حتى الآن في أفغانستان والعراق، تحت شعار مكافحة الإرهاب، لا يثبت الجزء الثاني من مقولة تشرشل بأن الولايات المتحدة، وفي نهاية الأمر، تقوم باعتماد الخيار الصحيح. وقد أزيدُ على ذلك، بأن تجربة الحرب على الإرهاب شهدت كثيراً من لحظات «التواطؤ الموضوعي» بين الإرهاب ومكافحيه، أو مَن يدعونَ مكافحته.
صحيحٌ أن الولايات المتحدة دفعت الكثير من الأرواح البريئة والخسائر المادية، ولكن العالم خسر أكثر في الأرواح والماديات وإضاعة الفرص والتخلف عن ركب الحضارة جراءَ إدارة العالم بالقليل القليل من الأخلاق وخلافاً لما يدعون.
10- يبقى سؤالٌ أخير حول الدرس الذي يمكن، أو ينبغي أن تستخلصه منطقتُنا العربية من الحدث الأفغاني الاستراتيجي - وهو استراتيجي بالفعل - للحفاظ على مصالحها ونُصرة قضاياها في عالم متغير ووسطَ تقلبات السياسات الكبرى. ولا سيما بعد كل تلك الخطوب والمحن التي حلت بدولنا وشعوبنا، وهم الذين دفعوا ولا يزالون ولتاريخه أثماناً باهظة بالمال والجهد والوقت والفرص التنموية الضائعة والمبددة. وبالتالي كيف أصبحت بلداننا مكاناً للتجارب والاختبارات التي تجريها العديد من الدول الإقليمية والدولية في مغامراتها ولسياساتها ولأسلحتها الجديدة. وكيف أننا لم نستطع أن نكون ما بين بعضنا البعض، وحتى الآن، موقفاً وطنياً وقومياً واحداً وموحداً تعبر فيه دولنا عن آمال شعوبنا العربية في الإصلاح وفي التعاون والتضافر وبناء المصالح العربية المشتركة، ولا سيما أن المناخ الدولي يشهد الآن تململاً وقلقاً لدى معظم الأطراف: فأوروبا ظهرت أكثر من أي وقت مضى رغبتَها في «الاكتفاء الاستراتيجي» بمعزلٍ عن القطبين الأكبر: الولايات المتحدة والصين؛ وروسيا تسعى بلا مواربة إلى «شراكة مضاربة» مع هذين القطبين.
يحضرني هنا قول بالإنجليزية (Stand up to be Counted)، إذ كيف يمكن للعالم أن يحسب حساباً للعرب ما داموا هم الذين لا يحسبون حساباً لأنفسهم، ولا يقفون متحدين ومتضامنين لكي يراهم العالم، ويجد بالتالي أن له مصلحة أكيدة في أن يحسب للعرب حساباً. إن العرب إذا قاموا بذلك، فإنه عندها - وعندها فقط - سوف يتمكنون في حينها من التقدم على مسارات استعادة حقوقهم المهدورة والمضيعة وتعزيز مصالحهم المشتركة. ولقد أثبتت أحداث التاريخ القديم والحديث، أنه ما دام استمر العرب بشعوبهم ودولهم على حال من الانقسام والتباعد وعدم تنمية المصالح المشتركة فإنهم لن يستطيعوا استعادة الاحترام الذاتي لأنفسهم، ولا الاحترام لأجيالهم الصاعدة، وبالتالي لن يستطيعوا تحقيق التنمية والرقي والازدهار المنشود، ولا أيضاً المشاركة الفاعلة في حضارة العالم ورقيه وتطوره:
ولأختم مقالتي بقول الشاعر:
«تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت آحادا»

* الرئيس السابق للحكومة اللبنانية



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.