ناوومي ووتس تتحدث لـ «الشرق الأوسط» عن «بيردمان» وأفلامها الأخرى

بطلة «مولهولاند درايف»: أختار أعمالي إذا شعرت بأنني أريد أن أكون جزءًا من الفيلم

لقطة لها مع لورا هارينغ في «مولهولاند درايف»..
لقطة لها مع لورا هارينغ في «مولهولاند درايف»..
TT

ناوومي ووتس تتحدث لـ «الشرق الأوسط» عن «بيردمان» وأفلامها الأخرى

لقطة لها مع لورا هارينغ في «مولهولاند درايف»..
لقطة لها مع لورا هارينغ في «مولهولاند درايف»..

لم يكن «بيردمان» أول لقاء بين الممثلة الجيّدة ناوومي ووتس والمخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. هي الممثلة المولودة في شورهام (بريطانيا) قبل 46 سنة، وهو الآتي من المكسيك بعبقرية متوهّجة، سبق لهما أن التقيا في فيلم واحد من قبل. في عام 2003 أسند إليها دورا رئيسا في فيلمه «21 غراما» لجانب شون بن وداني هيوستون وبنيثيو دل تورو.
عدا ذلك، ولمن يبقى في الصالة لقراءة عناوين ما بعد النهاية، هناك عبارة «المخرج يود أن يشكر ناوومي ووتس» ترد بين الأسطر الختامية المتتالية لفيلمه اللاحق «بابل». أما في «بيردمان: أو فضيلة التجاهل غير المتوقعة» فهي لسلي، الزوجة السابقة لريغان (مايكل كيتون). تشرح أسباب ذلك بقولها: «إنه شخصية رائعة وكثيرة البهجة ومن الممتع أن يكون الممثل بصحبته».
لكن مع إيناريتو أو من دونه، لا أحد في هوليوود أو في الكثير من بقع الصناعة السينمائية يشك في أنها إحدى أهم مواهب التمثيل في هذه الأيام ومنذ سنوات طويلة.
ووتس ولدت في بريطانيا لكن أصولها أسترالية وعائلتها عادت إلى أستراليا وهي صغيرة. في الحقيقة كانت في السابعة من عمرها عندما مات والدها فترك ذلك في نفسها تأثيرا صادما. والدتها الأسترالية لم تجد بدّا من العودة إلى بلادها ومعها ناوومي التي لاحقا بدأت بدراسة التمثيل. في عام 1986 قامت بتأدية دور صغير في فيلم حمل عنوان «للحب وحده».

* كان «مولهولاند درايف» خطوة مهمّة في حياتك المهنية. أليس كذلك؟
- إلى حد بعيد طبعا. كنت بحاجة آنذاك إلى فيلم استثنائي. أعتقد أنه يجب أن أقول: إلى فرصة استثنائية. وجاءني «مولهولاند درايف» هدية في الواقع. كنت محظوظة جدا إذ مثلت فيه، لأنه من ذلك الحين وجدت نفسي أعمل من دون توقف.
* لكن موهبتك هي الأساس. النقاد اتفقوا حينها على ذلك.
- موهبتي لا تغادر البيت، إذا لم يكن هناك فيلم جيد بنصّـه وجيد بإخراجه. لقد مثلت مع مخرجين جيدين كثيرين في حياتي إلى الآن. ولعبت أدوارا مهمّـة مع ممثلين جيدين أيضا. هذه عناصر مهمة لتكوين الشخصية. نعم، الموهبة ضرورية لكن هناك الكثير من الممثلين الموهوبين الذين لم يجدوا الفرص الحقيقية التي تبرز مواهبهم وتقودهم إلى المستوى الأعلى في مهنتهم.
* في بعض البيوغرافيات التي كُتبت عنك هناك إيحاء بأن نيكول كيدمان ساعدتك كثيرا في الوصول إلى حيث أنت الآن.. هل هذا صحيح؟ هل يمكن تحديد ذلك؟
- نيكول هي صديقتي المفضلة. هي شخصية رائعة وكريمة وبالغة اللطف وبيننا تلك الصداقة التي ما زالت تجمعنا إلى اليوم. ليس هناك ما أستطيع تحديده كما تطلب. ليس أننا عملنا معا على خطّـة واحدة للنجاح، لكن تأييدها لي واهتمامها بأن أحقق النجاح الذي حلمت به عندما جئت إلى هذه المدينة (هوليوود) للعمل نموذج للعلاقات التي يجب أن تكون سائدة.
* هناك فيلم مثلته بعدما اعتذرت نيكول عنه..
- صحيح. تقصد «أحب هاكابيز»؟
* نعم.
- كان الدور عرض على نيكول لكنها كانت مشغولة. لكنه عُرض على أكثر من ممثلة. أعتقد أنه عُرض أيضا على غوينيث بالترو، ولا أدري لماذا تخلّت عنه.

* أفلام صغيرة وكبيرة
خطوات ناوومي كانت ثابتة.
من ناحية وجدت نفسها في سيل من الأفلام المنتمية إلى الإنتاجات الكبيرة، ومن ناحية أخرى حافظت على نسبة لا بأس بها من الأعمال التي إن لم تكن مستقلة فهي من بين تلك التي تدعوها لنوع متخصص من الأداء. أحد هذه الأفلام كان «الحلقة» (The Ring)سنة 2002 وهو فيلم رعب. لكن عوض أن تسقط في قفص الأعمال التنميطية، وجدناها توظف ذلك لصالحها خصوصا أن هذا الفيلم كان من بين تلك الأكثر نجاحا في مسيرتها خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن.
بعده بثلاث سنوات كانت على قمّـة أحد أكثر الأفلام كلفة بين أعمالها هو «كينغ كونغ» الذي تجاوزت ميزانيته سقف الـ200 مليون دولار.
* كيف يمكن لممثل أن يؤدي أدوارا في أفلام متخصصة أو مستقلة، ويبقى محط ثقة من قِـبل الشركات الكبيرة؟ هل هذا ممكن؟
- نعم، ممكن. هناك الكثيرون من الممثلين القادرين على ذلك. لكني أوافق على سؤالك. ليس كل واحد يستطيع. المسألة لها علاقة بالظروف أيضا. عادة ما لا يعنيني حجم الدور أو حجم الإنتاج. أختار أعمالي إذا ما شعرت عندما أقرأ السيناريو بأنني أريد أن أكون جزءا من الفيلم.
* عندما مثلت «21 غراما»، وهو فيلم مستقل إلى حد كبير، لم يخطر ببالك أن هذا سوف يدفع بمهنتك إلى وجهة معيّـنة؟
- لا. فكرت في أن السيناريو هو أكثر السيناريوهات التي قرأتها تحديا لقدرات الممثل. ليس لي وحدي فقط، بل لكل من شارك في الفيلم. هناك نصوص تلهمك كثيرا. «21 غراما» كان واحدا منها، حكايات مختلفة تنطلق وتصب في نقطة معيّـنة، لكنها تبقى منفصلة في الوقت ذاته.
* هذا القول ينطبق على دورك أيضا في «بيردمان». هناك مشهد لك يتطلب منك نحو 10 دقائق من الكلام المتواصل.. لا أعتقد أن حفظ هذا الحوار كان سهلا.
- عندما تقدّم مني أليخاندرو ليقترح الفيلم علي سألني إذا كنت أريد التمثيل فيه. قال لي إن الدور صغير لكن الفيلم مصنوع بطريقة مختلفة. عندما أخذ يشرح تلك الطريقة وجدت نفسي منجذبة جدا للمشاركة في العمل. لم يهمني حجم الدور، لأن التجربة كانت رائعة. ذلك المشهد كان نقطة ضغط بالطبع. عليك أن تحفظ الحوار كما هو، لأنه لم يُكتب لكي يتغير. احتاج الأمر إلى صبر وثقة والكثير من النظام.
* تجربة العمل كما قرأت، وكما أخبرني أليخاندرو حين التقيته، لا تكاد تصدّق. تقنيا وفنيا.. هل وجدت العمل صعبا؟
- كان صعبا من هذه الوجهة بالتحديد. تصوير الفيلم كان عليه أن يشمل عناصر كثيرة تعمل معا في وقت واحد. التصوير والتمثيل وطريقة تبادل الحوار بين الممثلين. لذلك كان علينا أن يعتمد كل منا على الآخر لنجاح المشهد. إلى حد ما كان ذلك مخيفا، لكنه كان أيضا مثيرا.
مسرح وسينما
قبل الوصول إلى هذه المرحلة وجدنا ناوومي ووتس في عدد من الأفلام ذات النزعة التشويقية: هي في آخر فيلم حققه لينش إلى اليوم وهو «إمبراطورية داخلية» (2006) وفي فيلم ديفيد كروننبيرغ «وعود شرقية» الذي يتحدّث عن كماشة المافيا الروسية في أحداث تقع في لندن، وبعد ذلك، سنة 2007. في «الدولي» لجانب كلايف أوون في حكاية من بنات الأفكار الجاسوسية (2009).
لكنها لعبت أيضا في أفلام ذات طابع فني غالب مثل «ألعاب غريبة» لميشيل هنيكه و«ج. إدغار».
* كيف تختارين أفلامك؟
- هي تختارني (تضحك).. ليس هناك منوال واحد. لا توجد خطّة ولا أرى أن الممثل عموما يستطيع التخطيط على هذا النحو.
* حتى ولو اشتهر بنوع معيّن من الأدوار؟
- ربما يريد ذلك، لكن هناك من اختاره أساسا، والنجاح يولد النجاح كما تعرف. أقصد أن تمثيل شخصية مثل «سوبرمان» أو «باتمان» يفرض على الممثل العودة لتقديم الشخصية ذاتها، لكن هناك عوامل أخرى تفرض نفسها على هذا الاختيار، من بينها النجاح.
* هل تتطلعين إلى دور من نوع «سوبروومان»؟
- (تضحك) لا. لا أعتقد أنني صالحة لمثل هذه الأدوار.
* بما يعود عليك التمثيل مع مخرجين ذوي خبرات مختلفة وربما متضاربة؟
- من ناحيتي كممثلة؟ عندما أقوم بتمثيل فيلم ما، فعندي التزام بالنص واهتمام بكيف سيقوم المخرج بتحويل هذا النص إلى فيلم. لكنه اهتمام طبيعي. لا أنوي أن أصبح مخرجة، ولا علاقة لي باختيار المخرج للكيفية التي سيعالج بها العمل، ولو أن معرفتي به خير ضمان. لكن اختلاف خبراتهم أمر مثير، كذلك اختلاف أسلوب كل منهم في العمل.
* «بيردمان» يدور بالطبع حول الممثل السينمائي الذي عليه - أو هكذا يعتقد - التمثيل في المسرح، لكي يعود إلى ما كان عليه من نجاح. هل هذا في الواقع أمر ضروري في رأيك؟ هل يحتاج الممثل إلى المسرح ليعيد ثقته بنفسه؟
- أعتقد أن هذا جائز عند البعض، والفيلم مبني على حالات يمكن أن تصفها بالواقعية أو بحالات تحاكي الواقع من هذه الزاوية على الأقل. لكن هذا ليس ضروريا في كل حين. أقصد مع كل حالة.
* هل يجذبك المسرح بشكل أو بآخر؟
- نعم، المسرح طموح خاص لا أخفيه. لم أمثّل للمسرح بعد، ولو أن عندي خشية من ذلك.
* لماذا؟
- لأن التمثيل المسرحي يختلف في جوهره. المسرح ليس ملاذا آمنا لكل ممثل تأسس سينمائيا. هناك من ينجح وهناك من يخفق فيه ويفشل. أعتقد أن التمثيل على المسرح بالنسبة لي أمر وارد، وربما قمت به في المستقبل القريب.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)