كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟

«دقائق البلاستيك» تتسرب إلى الإنسان والبيئة

كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟
TT

كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟

كيف نقلل مخاطر «المواد الكيميائية الأبدية» على الصحة؟

تحمل المركبات الكيميائية الموجودة في كل شيء... من القدور والمقالي ذات السطح غير اللاصق، إلى منتجات الرذاذ الحامي للقماش، نوعاً من الضرر لصحتكم، ولكن بعض التغييرات البسيطة في أسلوب حياتكم قد تساعد في حمايتكم، وفقا لتقرير من جامعة هارفارد الأميركية نشرته كيلي بيلودو في دورية «مراقبة صحة النساء» لشهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
كيميائيات أبدية
تُعرف المنتجات المسماة الفاعلات بالسطح الفلوري
Per - and polyfluoroalkyl substances (PFAS) على أنها مجموعة من آلاف المواد الكيميائية التي صنعها الإنسان وتُستخدم على نطاقٍ واسع لصد المياه والشحم والزيت، فضلاً عن أنها مقاومة للحرارة، ما يجعلها ممتازة للاستخدام في مجموعة متنوعة من المنتجات أبرزها مقالي الطهي غير اللاصقة ومغلفات المواد الغذائية ومعدات التخييم ومستحضرات التجميل ومواد إزالة البقع عن السجاد والقماش. وهي مركبات كيميائية فلورية عضوية فيها ذرات فلور متعددة. استخدمت هذه المركبات للمرة الأولى في المنتجات الصناعية والاستهلاكية في الخمسينات ولم يتوسع استخدامها إلا في السنوات القليلة الماضية حتى أصبحت منتشرة وموجودة في كل شيء من مستحضرات ظلال العينين إلى الطلاء المعدني.
ولكن العلماء الذين يدرسون الصحة البشرية يرون في «الفاعلات بالسطح الفلوري» جانبا مظلماً. وتقول إلسي ساندرلاند، أستاذة العلوم البيئية والهندسة في جامعة هارفارد إنها «لا تستطيع قول أي شيء إيجابي عنها من المنظور الصحي. إذ تمثل هذه المركبات كابوساً حقيقياً لأنها مرتبطة بعددٍ كبير من التأثيرات الصحية المخيفة». ولكن المشكلة الأبرز في هذه الفاعلات هي أن مصدر ضررها هو نفسه مصدر فاعليتها العالية، أي عدم قابليتها للتفكك، ولهذا السبب يُشار إليها غالباً على أنها «البلاستيك الأبدي». وتقول ساندرلاند إن «هذه الصلابة تبدو رائعة حتى تدخل هذه المادة الكيميائية إلى الجسم البشري أو تستقر في البيئة».
تأثيرات صحية
صحيحٌ أن المواد الكيميائية التي تسبب المشاكل الصحية كثيرة، ولكن يبدو أن الفاعلات بالسطح الفلوري خطيرة بدرجة غير مألوفة نظراً لثقل تأثيرها على الجسم البشري. فقد كشفت ساندرلاند أن خبراء الصحة لاحظوا تأثيرات مرتبطة بهذه الفاعلات على جميع الأعضاء الأساسية في الجسم.
تؤدي الفاعلات بالسطح الفلوري مثلاً إلى اضطراب عملية التمثيل الغذائي وتسبب مشاكل صحية أخرى كالسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والسمنة، وقد تقف عائقاً أمام خسارة الوزن والرضاعة الطبيعية. كما رُبط التعرض للفاعلات بالسطح الفلوري بمرض الغدة الدرقية وتضرر الكبد والكلى وبعض السرطانات. وتنبه ساندرلاند إلى أن هذه المركبات الكيميائية يمكن أن تؤذي الجهاز المناعي وقد تكون عنصراً مساهماً في تزايد أمراض المناعة الذاتية، بالإضافة إلى الربو واضطرابات الحساسية.
تزداد جدية هذه السمية المناعية لدى الأطفال أكثر من البالغين لأن الجهاز المناعي يشهد برمجة مهمة خلال الطفولة خصوصا أن كبت الجهاز المناعي يمكن أن يثبط استجابة الأطفال للقاحات الروتينية أو يزيد هشاشتهم أمام الفيروسات.
مياه ملوثة
ترى ساندرلاند أن الشركات تستمر في استخدام الفاعلات بالسطح الفلوري لأنها فعالة ومربحة رغم أن العديد من الدعاوى القضائية قدمت أدلة تثبت أن هذه الشركات اكتشفت المضار الصحية لهذه المركبات منذ عقود، وحتى قبل أن يبدأ الباحثون الأكاديميون بدراستها.
وتقول الباحثة من جامعة هارفارد إن المياه الملوثة بالفاعلات بالسطح الفلوري هي المصدر الرئيسي لتسربها إلى أجسام الناس الذين يعيشون في مناطق غنية بمصادر هذه المركبات. تتعدد المصادر الكبيرة لهذه الفاعلات وأبرزها المطارات والقواعد العسكرية ومواقع الصناعات الكيميائية والمصانع التي تستخدمها في عملياتها الإنتاجية.
وتلفت ساندرلاند إلى أن «الفاعلات بالسطح الفلوري قد تتسرب إلى البيئة المحيطة كالمياه أو التربة ويمكن أن تتطاير وتنبعث من المداخن إلى الجو وتتخزن في مياه الأمطار لتعود وتنتشر على نطاقٍ واسع في المناطق المحيطة».
في ورقة بحثية نُشرت عام 2020 كشفت مجموعة «إنفايرونمنتل ووركينغ غروب» (مجموعة العمل البيئي) غير الربحية أن ما بين 18 و80 مليون شخص معرضون لشرب مياه ملوثة بنسبة عالية من الفاعلات بالسطح الفلوري تزيد على 10 أجزاء في التريليون، وهي الحد الأقصى للملوثات الذي تعاني منه ولايات أميركية كثيرة. وفي دراسة أخرى، وجد باحثون من المجموعة نفسها أن الفاعلات بالسطح الفلوري رُصدت في 43 من أصل 44 عينة مأخوذة من 31 ولاية بالإضافة إلى العاصمة واشنطن، ووجدوا أن مستويات الفاعلات تتراوح بين جزء واحد و186 جزءا بالتريليون في مناطق مدنية عدة منها ميامي وفيلادلفيا ونيو أورلينز وبوسطن وإحدى ضواحي نيويورك. وكشفت ساندرلاند أن باحثي هارفارد اقترحوا اعتماد الجزء الواحد بالتريليون كحد الأقصى للفاعلات لأنه المستوى الذي قد يسبب السمية المناعية لدى الأطفال.
عندما تدخل هذه المركبات إلى النظام المائي، تجد طريقها إلى المحيط وتلوث الحياة البحرية وما يعيش فيها من أسماك.
تسرب نحو الغذاء
كشفت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية أن الوكالات التنظيمية الأوروبية رصدت تلوثاً بالفاعلات بالسطح الفلوري في أنواع غذاء عدة أبرزها السمك والفواكه والبيض. ولكن هل يواجه الغذاء في الولايات المتحدة الخطر نفسه؟
تقول إدارة الغذاء والدواء الأميركية إن خطر هذا التلوث منخفض حسب نتائج الاختبارات التي أجريت حتى اليوم. وكانت الإدارة قد رصدت أثراً للفاعلات في عينات سمكية مختلفة كالقد والبلطي، ولكنها جزمت أنه لا يوجد دليل علمي يدعم إصدار توصية للمستهلكين بتجنب تناول أنواع محددة من الأطعمة.
في المقابل، تعتبر ساندرلاند أن وسائل الفحص المعتمدة حالياً قد تكون قاصرة وأن عدد المنتجات التي فحصتها الإدارة قليل، فضلاً عن عدم وضوح آليات اختيار هذه المواد ومصدرها. وتأمل الباحثة وخبراء آخرون أن يُصار إلى توسيع الاختبارات وإجراء تقييمات منهجية لتحديد نسبة تعرض الناس في الولايات المتحدة لهذه المركبات لتكوين صورة أوضح للخطر العام.
التغيير ضروري
لا تُعنى الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة اليوم بتنظيم مستويات الفاعلات بالسطح الفلوري في مياه الشرب. وفي ظل غياب القوانين الفيدرالية المرتبطة بهذه الفاعلات، سعت بعض الولايات على المستوى الفردي إلى فرض قوانينها الخاصة للسيطرة على هذه المركبات. ففي يوليو (تموز) 2021 عمدت ولاية مَيْن إلى تبني إجراء طوارئ يحظر استخدام الفاعلات بالسطح الفلوري في جميع المنتجات المبيعة فيها بحلول 2030 مع استثناءات قليلة. وتبنت ولايات أخرى أيضاً ضوابط محدودة، كماساتشوستس مثلاً التي وضعت في أكتوبر 2020 سقفاً للكمية المستخدمة من ستة أنواعٍ مختلفة من الفاعلات التي رُصدت في مياه الشرب. يتلخص الوضع حالياً فيما يلي: عندما تعمد إحدى الولايات إلى مراقبة مادة كيميائية مريبة، تتحايل الشركات وتستخدم مادة أخرى من نفس النوع قد تؤدي إلى المخاطر الصحية نفسها ولكن دون أن نعلم. وتنبه ساندرلاند إلى أن الاعتماد على مركبات جديدة يصعب عمل العلماء في رصدها في المنتجات لأنهم ببساطة لا يعلمون عن ماذا يبحثون.
خطوات تقليل المخاطر
بانتظار عثور الجهات التنظيمية على الحلول الفعالة لهذه المشكلة، توجد بعض التغييرات التي يمكن للأفراد إدخالها على أسلوب حياتهم لحماية أنفسهم. وتقول ساندرلاند: «أحاولُ أن أقلل تعرضي لهذه المركبات من خلال تغييرات طفيفة قد تكون فعالة».
إليكم فيما يلي بعض الخطوات التي يمكنكم تطبيقها:
- تصفية مياه الشرب: قد لا يستطيع الجميع تحمل تكلفة شراء مرشحٍ للمياه، ولكن أبسط هذه الأدوات وأقلها تكلفة يعطي نتائج مذهلة في تنظيف مياه الشرب من الفاعلات بالسطح الفلوري. لذا لا تترددوا في تصفية مياهكم إذا استطعتم.
- تقبل القليل من الفوضى: تُستخدم هذه المركبات بكثرة في منتجات حماية السجاد والأثاث، لذا من الأفضل تفاديها. حاولوا قدر الإمكان إبعاد أثاثكم وسجادكم عن هذه المواد ولو اضطررتم إلى تقبل وجود بعض البقع لأن صحتكم أهم على المدى البعيد.
- تنظيف الغبار وشفطه بانتظام: إذا كنتم تملكون منتجات كأثاث وأقمشة أو سجاد تحتوي على الفاعلات بالسطح الفلوري في المنزل، فيمكن للغبار الذي يتطاير منها أن يعرضكم لاستنشاق هذه المركبات. لهذا السبب يجب أن تواظبوا على تنظيف وشفط الغبار لأنه يساعدكم في تقليص هذه الملوثات.
- البحث عن منتجات أكثر أماناً: يعمد الكثير من الصناعيين اليوم إلى الترويج لمنتجات خالية من هذه المركبات في إعلاناتهم نزولاً عند رغبة المستهلكين. عند تبضع منتجات تحتوي غالباً على الفاعلات بالسطح الفوري كمعدات التخييم ومواد التنظيف ومنتجات العناية الشخصية، ابحثوا عن تلك الخالية من هذه المركبات الخطرة منها. تقدم مجموعة «إنفايرونمنتل ووركينغ غروب» أدوات على موقعها الإلكتروني لمساعدة المستهلكين على الاطلاع على المواد الكيميائية المستخدمة في الكثير من منتجات العناية الشخصية واختيار المناسب والصحي منها.
- تخفيف الاستهلاك: يساهم تقليل عدد المنتجات التي تستخدمونها، ولا سيما مستحضرات التجميل، في تخفيف تعرضكم لهذه المركبات. حددوا المنتجات الأكثر أهمية وتوقفوا عن استخدام الأخرى الثانوية.
- اختيار الأطعمة الطبيعية القليلة التغليف: تحتوي أجسام الأشخاص الذين يستهلكون كميات كبيرة من الأطعمة الصناعية والمأكولات السريعة على نسبٍ مرتفعة من الفاعلات بالسطح الفوري، بحسب ساندرلاند. تحتوي الأغلفة والعلب غالباً على هذه المركبات، لذا فإن اختيار سلعٍ غير معلبة وطبيعية غير صناعية يمكن أن يساعد. على سبيل المثال، يمكنكم استبدال أكياس الفشار الورقية المخصصة للميكروويف بواسطة حبوب الذرة الكاملة وطهيها في مقلاة.


مقالات ذات صلة

صمم موقعك ثلاثي الأبعاد بخطوات بسيطة ودون «كود»

تكنولوجيا تمكنك «دورا» من تصميم مواقع ثلاثية الأبعاد مذهلة بسهولة تامة باستخدام الذكاء الاصطناعي دون الحاجة لأي معرفة برمجية (دورا)

صمم موقعك ثلاثي الأبعاد بخطوات بسيطة ودون «كود»

تتيح «دورا» للمستخدمين إنشاء مواقع مخصصة باستخدام الذكاء الاصطناعي عبر إدخال وصف نصي بسيط.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص يحول الذكاء الاصطناعي الطابعات من مجرد خدمة بسيطة إلى أداة أكثر ذكاءً واستجابة لحاجات المستخدمين (أدوبي)

خاص كيف يجعل الذكاء الاصطناعي الطابعات أكثر ذكاءً؟

تلتقي «الشرق الأوسط» الرئيسة العامة ومديرة قسم الطباعة المنزلية في شركة «إتش بي» (HP) لفهم تأثير الذكاء الاصطناعي على عمل الطابعات ومستقبلها.

نسيم رمضان (بالو ألتو - كاليفورنيا)
تكنولوجيا «Google Vids» هي أداة بسيطة لإنشاء فيديوهات احترافية تدعم العمل الجماعي والذكاء الاصطناعي لإعداد المخططات وإضافة الصور تلقائياً (غوغل)

«غوغل» تكشف عن خدمة جديدة لإنتاج الفيديوهات للمؤسسات

تستهدف هذه الخدمة الشركات التي تتطلع إلى إنتاج محتوى مرئي احترافي بكفاءة وسرعة دون الحاجة للخبرة الفنية العميقة.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
تكنولوجيا تتيح «فينغيج» قوالب وأدوات تخصيص سهلة بينما تستخدم «نابكن إيه آي» الذكاء الاصطناعي لتحويل النصوص إلى تصميمات جذابة (فينغيج)

أدوات مميزة لتحويل أفكارك إلى تصميمات مرئية جذابة

تخيل أن بإمكانك تصميم إنفوغرافيك أو تقرير جذاب بسهولة!

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص يتطلب «واي فاي 7» بنية تحتية متقدمة ودعماً لمعدلات بيانات أعلى (أدوبي)

خاص كيف يدعم «واي فاي 7» التحول الرقمي وشبكات القطاعات الحيوية؟

يعزز «واي فاي 7» الاتصال عالي السرعة ويدعم التحول الرقمي في القطاعات الحيوية مع تحسين الأمان وكفاءة استهلاك الطاقة لتحقيق الاستدامة.

نسيم رمضان (دبي)

تنبؤات المستقبل... التاريخ يثبت صعوبة طرحها

مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة
مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة
TT

تنبؤات المستقبل... التاريخ يثبت صعوبة طرحها

مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة
مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة

عام 1974، نشرت مجلة «ساترداي ريفيو - Saturday Review» الأميركية الرصينة، التي كانت في عامها الـ50 آنذاك، عدة إصدارات بمناسبة ذكراها السنوية، تناولت كيف أدى القرن إلى حاضر قاتم من الحرب النووية الحرارية الوشيكة، والطفرة السكانية التي سرعان ما ستتجاوز قدرة الكوكب على إطعام سكانه، ونضوب الطاقة القابلة للاستغلال، وغيرها من التعثرات التي تهدد العالم.

الاكتظاظ السكاني وندرة النفط... تنبؤات ما قبل 50 عاماً

في الختام، قدمت المجلة إصداراً خيالياً غير معتاد مليئاً بالتنبؤات والمقترحات الخيالية والمعقدة أحياناً للعالم، لما بعد نصف قرن من الزمان في المستقبل. وكان أحد إصدارات الذكرى السنوية في عام 1974 مخصصاً بالكامل للطرق التي يمكن للعالم من خلالها استعادة ثقته. وأشرف على إصدار الإصدارات محرر المجلة نورمان كوزينز، وهو نفسه مثقف عام غزير الإنتاج وكان ذات يوم أشهر شخصية متفائلة في البلاد.

كان كوزينز وصف في عام 1979، كتابه الأكثر مبيعاً «تشريح المرض كما يراه المريض» كيف نجح في علاج نفسه، جزئياً، بعد تشخيص حالته بمرض مميت، من خلال التمتع بأفلام كوميدية مجنونة وضحكات عالية.

«مستقبليون» سابقون مشهورون

جمع كوزينز قائمة من كبار الشخصيات المشهورين على مستوى العالم، مثل أندريه ساخاروف، ونيل أرمسترونغ، وجاك كوستو، وإسحاق أسيموف، وكلير بوث لوس (المرأة الوحيدة).

وقد تراجعت بعض المشاكل التي كانوا يأملون أن يتمكن العالم من إيجاد مخرج منها، وخاصة ندرة النفط والاكتظاظ السكاني. وسواء كان ذلك بحكمة أو بغير حكمة، فقد حلت محل هذه المخاوف نقيضاتها الظاهرية الحالية.

وباء السمنة وحطام الوقود الأحفوري

في البلدان الغنية حالياً ظهرت مشكلات أخرى، إذ تتعامل اليوم مع أوبئة السمنة و«حطام» الوقود الأحفوري المفرط في الوفرة.

ومن المفارقة أن قيمة شركة «نوفو نورديسك»، المصنعة لعقاقير إنقاص الوزن أوزيمبيك وويجغفي تأتي فقط بعد قيم شركتي النفط والغاز الكبيرتين في العالم، «أرامكو» السعودية و«إكسون».

واليوم تصاب الدول بالذعر إزاء الانحدار العالمي في معدلات المواليد وتقلص أعداد السكان وشيخوخة السكان. وقد أكون مغروراً بقدر ما أصبت في توقعاتي، ولكنني أدرك أيضاً ما أغفلته توقعاتي المستقبلية.

40 % من البالغين لا يريدون الإنجاب

لقد توقعت أن معدلات المواليد المتقلصة سوف تجتاح العالم بأسره، ولكنني لم أتوقع أن يصبح عدد البالغين الذين سوف يختارون عدم إنجاب الأطفال على الإطلاق كبيراً، ففي بعض البلدان تصل نسبتهم إلى نحو 40 في المائة. لقد توقعت بشكل صحيح أن سياسة الطفل الواحد التي تنتهجها الصين سوف تدفع الأسر الصينية إلى الاستثمار بشكل متزايد في تعليم أطفالها من أجل إعدادهم للسوق العالمية. لم أكن أتوقع أن الملايين من الشباب الصينيين المتعلمين في الجامعات والذين يعانون من الإحباط المهني سوف يفضّلون البقاء عاطلين عن العمل لسنوات بدلاً من العمل في وظائف يعدّونها أدنى من مستواهم، أو أنهم سوف يظلون معتمدين على والديهم، غير متزوجين وليس لديهم أطفال.

ازدياد أجيال من غير المتعلمين

لم أكن أتوقع بالتأكيد أن الرخاء وانخفاض معدلات البطالة في أميركا سوف يثني الشباب عن الذهاب إلى الجامعة، أو أن «غير المتعلمين» سوف يلوّحون بعدم حصولهم على الشهادات الجامعية كفضيلة سياسية ثم يتفاخرون بها وبأنهم يمثلون طليعة النهضة الأميركية العظيمة.

صدمة المستقبل

الأشياء التي فاتتني لم تكن جامحة مثل بعض الرؤى الغريبة التي تخيلها طاقم المجلة في عام 1974.

* نبوءة نيل أرمسترونغ. تنبأ نيل أرمسترونغ (رائد الفضاء الأميركي) بوجود مجموعات كاملة من البشر يعيشون في محيط من مادة الميثان اللزجة تحت سطح كوكب المشتري الذي يمكنهم البقاء عليه. سوف يعملون في وظائفهم اليومية، ويتسوّقون ويحتفلون بينما يطفون في بدلات السباحة، ولكن فقط بعد إجراء عملية جراحية لاستبدال قلوب ورئات المستعمرين بأجهزة أكسجين قابلة للزرع. ومن الغريب أن أرمسترونغ، وهو مهندس طيران، رأى هذا باعتباره رؤية وردية لعام 2024.

* نبوءة أندريه ساخاروف. كما قدم أندريه ساخاروف، والد القنبلة الهيدروجينية السوفياتية والحائز على جائزة نوبل للسلام (1975)، أفكاراً حول كيفية إخراج الناس «من عالم صناعي مكتظ وغير مضياف للحياة البشرية والطبيعة».

كان ساخاروف يعتقد أن عالم عام 2024 سوف ينقسم إلى مناطق صناعية قاتمة وأحزمة خضراء مكتظة بالسكان حيث يقضي الناس معظم وقتهم. لكن سطح الأرض لن يكون كافياً لـ«7 مليارات نسمة في عام 2024» (كان ينقصه مليار). كما توقع ساخاروف مدناً شاسعة في الفضاء ستكون موطناً للمزارع والمصانع. أعتقد أن هذا يبدو وكأنه رؤية طوباوية إذا كانت الحياة البائسة على سطح الأرض أسوأ بكثير.

* نبوءة كلير بوث لوس، المحافظة السياسية ومدمنة عقار «إل إس دي»، والتي كانت كاتبة مسرحية وممثلة في الكونغرس وسفيرة في إيطاليا وزوجة لرجال أقوياء، أن التقدم البطيء للغاية الذي أحرزته النساء تمكن رؤيته في ملامح ماضيهن.

كانت لوس تعتقد أن المساواة للمرأة سوف تأتي، لكنها ستستغرق قرناً أو أكثر. وقد كتبت: «يؤسفني أن أقول إن الصورة التي أراها هناك ليست صورة المرأة الجالسة في الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض في عام 2024».

إيمان مستقبلي

في الآونة الأخيرة، كنت أحاول أن أرى المستقبل من خلال قضاء بعض الوقت في مواقع بناء مراكز البيانات التي تنتشر في جميع أنحاء البلاد لالتقاط ملامح الطفرة في الذكاء الاصطناعي.

إن أحد التنبؤات المذهلة التي تحرك الأموال والسياسات اليوم أن العالم سينفق أكثر من تريليون دولار لبناء البنية الأساسية للبيانات (يتوقع سام ألتمان، مؤسس شركة «OpenAI» سبعة تريليونات دولار) للحوسبة من الجيل التالي التي يمكن أن تلغي التنبؤ البشري وتستبدله بنماذج تنبؤية تديرها الآلات.

ورغم أنه لا أحد يعرف إلى أين ستقود كل هذه القوة الحاسوبية، فإن العالم يراهن عليها بشدة مع ذلك. إن هذه الطفرة تجعل خيالي - وهو شيء كنت فخوراً به للغاية - يشعر بالضآلة والإرهاق.

رؤية مفعمة بالأمل لدحر التشاؤم

لقد جاء دافع كوزينز للتنبؤ بالمستقبل أكثر من منطلقات الذكاء العاطفي له والرؤى المفعمة بالأمل له وأمثاله الذين وظّفوا معرفتهم للانفصال عن الماضي، وأقل من منطلقات رؤيته للمستقبل المستنبطة من الحقائق المعروفة في زمنه.

ومن المفارقات، كما أشار كوزينز، أن التنبؤات لا تأخذ في الحسبان التفاؤل الذي يتوقعه الناس في المستقبل.

وأضاف، في حينه، أنه إذا كان لدى عدد كافٍ من الناس إيمان بأن الجنس البشري يتمتع بالقدر الكافي من الذكاء والطاقة للعمل معاً على حل المشاكل العالمية، فإنه استخلص أن «التوقعات المتشائمة للخبراء سوف تفقد قدرتها على الشلل أو الترهيب. لذا فإن أكبر مهمة تواجه البشرية في السنوات الـ50 المقبلة سوف تكون إثبات خطأ الخبراء [المتشائمين]».

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».